برغم وجود طبيب نفسي واحد لكل 750.000 شخص، لا يحصل المرضى النفسيون في اليمن على أية مساعدة تذكر، بعد مرور أكثر من ست سنوات على الحرب الأهلية التي أنهكت البنية التحتية الصحية والاقتصاد.
أدى الصراع على السلطة بين الحكومة اليمنية والمتمردين الحوثيين منذ عام 2014، والتنافس السعودي الإيراني المرير عبر دعم أحد طرفي الصراع، إلى أسوأ أزمة إنسانية في العالم حيث نحو ثلثي البلاد بحاجة إلى المساعدات للبقاء، بمن فيهم مليونا طفل إضافي مهددون بالجوع هذا العام.
أزمات العلاج النفسي في اليمن
مع عدم ظهور نهاية تلوح في الأفق، يُكافح مجتمع كامل من أجل التأقلم. وترجح منظمة الصحة العالمية أن خمس اليمنيين الذين يعيشون في مناطق الحرب يعانون بعض أشكال الاضطرابات النفسية، بما في ذلك الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) أو الذهان.
من البيانات المحدودة المتاحة، سُجّلت بين عامي 2014 و2015 زيادة نسبتها 40% في حالات الانتحار في العاصمة اليمنية صنعاء وحدها. وفي واحدة من الدراسات العلمية القليلة التي أُجريت حول الصحة النفسية بالبلاد، عانى نحو 80% من الأطفال الذين شملهم استطلاع عام 2018 أعراض اضطراب ما بعد الصدمة.
"هذه مجرد شرارة. لم يأت البرق بعد"... حرب اليمن تُفاقم معاناة المرضى النفسيين الذين يواجهون التقييد والتخدير عوضاً عن إعادة التأهيل، ومعاناة النساء النفسية تُهمل تماماً
سلّط تقرير "ندوب خفية... مرضى عقليون أنهكتهم حرب اليمن" المنشور عبر صحيفة الغارديان البريطانية الثلاثاء 11 أيار/ مايو على الكارثة التي يُنذر بها وضع قضايا الصحة النفسية في اليمن.
كلفة العلاج رفاهية لا تتوفر للكثيرين في البلد الذي أسهمت معدلات الفقر والعنف المرتفعين فيه إلى تفاقم الصدمات. هذا، ناهيك بتضرر أنظمة الرعاية الصحية عبر استهدافها و/ أو استنزافها و/ أو إهمالها منذ اندلعت الحرب الأهلية.
عدم كفاية العاملين بهذا القطاع - نحو 40 معالجاً نفسياً في الخدمة لإجمالي السكان البالغ عددهم 30 مليوناً- ليس إلا مؤشراً على تواضع البنية التحتية أيضاً. هناك أربعة مرافق عامة لعلاج الأمراض النفسية في البلاد فقط. فر العديد من أخصائيي الطب النفسي إلى بيئات أقل توتراً وأكثر أماناً.
في مستشفى تعز للصحة العقلية، هناك ممرضتان فقط مسؤولتان عن 143 مريضاً داخلياً حالتهم خطيرة ويُضطر إلى تقييد العديد منهم لمنعهم من الهروب، وإلى إبقائهم جميعاً تقريباً معظم الوقت تحت تأثير التخدير الشديد بينما يتجولون في العنابر.
خلال زيارة "الغارديان" للمستشفى، لوحظت الحالة السيئة للمرضى جراء قلة العناية بالنظافة الشخصية إذ كانت رائحة البول تفوح من ملابسهم. مع ذلك، شددت الصحيفة على أن حالة المرضى تتحسن بشكل أفضل قليلاً من المنزل حيث يُضطر الأهل في أحيان كثيرة إلى تقييد الأبناء بالسلاسل وبالكاد يقدمون لهم المهدئات في "النوبات العنيفة".
في اليمن، هناك معالج نفسي واحد لكل 750 ألف شخص، وأربعة مستشفيات صحة نفسية عامة في جميع أنحاء البلاد. علماً أن منظمة الصحة العالمية ترجح أن خمس اليمنيين في مناطق الحرب يعانون بعض الاضطرابات النفسية
من المرضى، شاب ثلاثيني قُتل والده أمام عينيه وفقد القدرة على الحديث في حينه، وآخر أُصيب برصاصة في ذراعه قبل خمس سنوات وعانى اكتئاباً شديداً حين عجز والداه عن تحمل نفقات علاجه.
الوصمة والموروث الثقافي
الوصمة والموروث الثقافي عنصران آخران لهما تأثير كبير على وضع الصحة النفسية في اليمن، قبل اندلاع الحرب وبعدها. قال د. عادل ملهي، مدير مستشفى تعز للأمراض العقلية، للغارديان: "بالنسبة للكثير من الناس، تتحكم وصمة العار في مصيرهم. إذا لم تكن بخير نفسياً، فقد يعتبرك الآخرون ضعيفاً، أو ضعف الوازع الديني، أو اعتبار المرض من الشيطان. مجتمعنا لا يؤمن بـ(إمكانية) الإصابة بمرض عقلي".
عبّر ملهي عن اعتقاده بأن العامل الثقافي وضغوط الحرب الشديدة يقفان وراء انتهاء المطاف بالعديد من أفراد الأسرة إلى حبس أبنائهم أو إحضارهم إلى المستشفى، مضيفاً: "أنهم يريدون فقط التخلص منهم. هذا أمر محزن للغاية".
في حين أن وضع الأمراض النفسية في البلاد مزرٍ، يجدر القول إن معاناة النساء النفسية كثيراً ما تمر دون علاج، ويتم تجاهلها.
إلى ذلك، يطلب البعض المشورة من أشخاص غير مؤهلين أو يجربون علاجات غير معتمدة في متناول اليد، وهذا من شأنه ليس المساهمة في تحسن حالتهم وإنما تفاقمها في كثير من الأحيان.
"هذه الحرب، هذا العبء النفسي، هذه المأساة، ستجلب صورة للمرض العقلي في المستقبل أخشى أننا لن نتمكن من مواجهتها"
قطع الدعم ينذر بالأسوأ
نقص التمويل والدعم المادي يعمق أزمات العلاج النفسي في اليمن. يعتمد مستشفى د. ملهي على التمويل الحكومي الذي لا يكاد يكفي كلفة شراء ربع الأدوية التي يحتاجها مرضاه.
قبل ذلك، حتى كانون الأول/ ديسمبر عام 2019، كان المستشفى يحصل على مساعدات مالية من صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA)، إحدى الوكالات الدولية القليلة التي كانت تضع الرعاية الصحية النفسية في اليمن ضمن أولوياتها. لكن انخفاض تمويل الصندوق الأممي أجبره على سحب الدعم.
بشكل عام، تراجعت التبرعات الدولية لليمن في السنوات الأخيرة. كان نتيجة ذلك أن عبّرت الأمم المتحدة، في آذار/ مارس الماضي، عن "نتيجة مخيبة للآمال" لمؤتمر التعهدات السنوي لمانحي المساعدات. أكثر من 100 حكومة ومانح خفضوا مساهماتهم.
في العام الماضي، أغلق صندوق الأمم المتحدة للسكان 80 منشأة رعاية صحية من أصل 180، كان بعضها يقدم خدمات نفسية اجتماعية لسكان اليمن بشكل عام. هذا العام، مع الحصول على 13% فقط من ميزانيته الضرورية، يُتوقع إغلاق المزيد.
أما بالنسبة للحكومة اليمنية، فقالت نائبة وزير الصحة اليمني، إشراق السبيعي: "لم تكن الصحة النفسية أحد اهتماماتنا الرئيسية، ولا تزال كذلك… تركز جهودنا على إعادة بناء المستشفيات وعلاج جرحى الحرب والتعامل مع الرعاية الصحية الإنجابية. مع الوضع الحالي للاقتصاد وتفشي Covid-19، نحن غير قادرين على التكيف".
وبينما أقرت بأن جميع البرامج والمبادرات لمعالجة مشاكل الصحة العقلية متوقفة، استطردت: "لقد أُهملت الصحة النفسية تماماً".
في غضون ذلك، لفت د. ملهي إلى صعوبة إعادة تأهيل المرضى بدلاً من تقييدهم، مبرزاً أن "الوضع الآن ليس آمناً بالنسبة لنا، ناهيك بالمرضى أنفسهم. كل ما يمكننا فعله هو احتواؤهم".
وحذر ختاماً: "هذه مجرد شرارة. لم يأت البرق بعد. مثلما ذهب الجنود الأمريكيون إلى فيتنام وما زالوا يعانون إلى الآن… هذه الحرب، هذا العبء النفسي، هذه المأساة، ستجلب صورة للمرض العقلي في المستقبل أخشى أننا لن نتمكن من مواجهتها. آمل ألا أكون في هذه الحياة في ذلك الوقت، أتمنى أن أُدفن بحلول ذلك الوقت".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...