وسط شوارع ضيقة، تحيطك المقابر بطرازها القديم. تسير وسط الموتى إلى أزقة صغيرة خالية من البشر تقريباً، لتصل إلى ميدان قايتباي الهادئ بمنطقة الدرَّاسة، في مصر القديمة، وبالتحديد أمام مسجد قايتباي، حيث يقع مصنع الحاج خالد لتصنيع وتدوير الزجاج المستعمل.
في الجهة المقابلة، يقع معرض الحاج حسن هدهد لمنتجات مصنعه لتدوير الزجاج. مصنعان من أهم ثلاثة مصانع لتدوير الزجاج بالقاهرة، ويقع المصنع الثالث بمدينة السلام شرق القاهرة، وقد أغلق أفرانه قبل فترة وجيزة، ولحقه فرن مصنع الحاج حسن هدهد بميدان قايتباي، الذي لا يعمل إلا على فترات متباعدة لتصميم طلبات مخصوصة، ولم يتبق إلا مصنع عم خالد علي، يُشعل فرناً واحداً فقط من مصنعه.
مصانع تطفئ أفرانها
لم تكن مكانة مصر متواضعة في صناعة الزجاج، فما خلصت إليه بعثة ألمانية أتت إلى مصر لاكتشاف موقع أول مصنع لصناعة الزجاج بالعالم شرق النيل بمنطقة القنطرة.
شارع قايتباي في مصر القديمة
أرجع بحث لبعثة ألمانية أول ظهور لصناعة الزجاج إلى ما بين 1000 و 1500 عام قبل الميلاد، وكانت مصر أولى الدول المصدرة للزجاج، وها نحن في عام 2021، بين لهيب النار وزفير الشاب أحمد (32 عاماً) ابن الحاج خالد علي، يجلس ليصنع منتجات فن الزجاج اليدوي المختلفة بحرفية ومهارة، ينفخ فيها من قلبه، وهو يشرع بالحديث لرصيف22: "المهنة تنقرض، مصانع تدوير الزجاج تطفئ أفرانها، ونحن اكتفينا بإشعال فرن واحد بمصنعنا للإنتاج بناءً على الطلب، بعد أن كان مصنعنا يعمل بكل طاقته، وكذلك مصنع عمي حسن هدهد".
ويضيف: "الآن توقف فرن عمي، وتندثر المهنة، نخشى عليها من الزوال، كنا نُصدر للعالم كله منتجاتنا، كل مصنوعات خان الخليلي الزجاجية التي يقتنيها السياح كانت تخرج من عندنا".
"من الأسباب الأساسية المساهمة في اندثار صناعة وتدوير الزجاج وغيرها من الصناعات هو الانشغال العام للدولة بالمشروعات القومية، رغم أنها لا تقل أهمية"
يرجع أحمد تدهور صناعة الزجاج إلى الركود الاقتصادي، وتعويم الجنيه، وانخفاض سعره أمام الدولار، ثم استبدال الزجاج المصري بالصيني، ويضيف: "لم يعد هناك سياح لترويج مجهودنا اليدوي".
يصنع أحمد كوباً واحداً من الزجاج اليدوي بمتوسط تكلفة 25 جنيهاً (1.5$) في حين يمكنك الحصول على طقم كامل صناعة صينية ستة كوب بنفس السعر، "لذا يستغلي الزبون سعر المنتج اليدوي، ولا يقدّر مجهوده، ويفاصل معنا لتخفيض سعره، وضع البيع والشراء كما ترين، ثلاثة زبائن خلال نصف يوم قضيتيه معنا"، يقول أحمد.
ويحكي الحاج خالد علي (60 عاماً) صاحب المصنع عن طريقة صناعة الزجاج اليدوي، موجزاً خبرة العمر: "باستخدام ماسورة نفخ، وبولين مسك، والماشا، ومربع يوضع على الرجل، ومقص، وأبدأ في تشكيل العجينة، وأنفخ فيها من قلبي دون استخدام آلة أو غيرها، لأصنع منتجاً فنياً مبهراً، باستخدام نفايات الزجاج".
خرز، وإكسسوارات، وميداليات من منتجات مصنع الحاج خالد
للحاج خالد "ذكريات مجد" تربطه بالمصنع، فقد عمل في هذه المهنة أجداده منذ ستينيات القرن الماضي، وهم يتوارثونها حتى اليوم، إذ يعمل معه صبيان، وأخوه، وابنه خالد الذي لم يتخط 10 سنوات، وحصل على شهادات جودة من اليونسكو، ومنظمات عدة، يعلقها جميعاً على حائط المصنع بفخر، وهو يعلم أحفاده تفاصيل الحرفة.
يقطع حديثه حفيده خالد، متباهياً بعصاه تلك، التي يتعلم بها صهر وتشكيل الزجاج، قائلاً: "علمني والدي كيف أمسك العصا، وكيف أنفخ في الزجاج، وكيف أحركها، علمني كل شيء، ومن حين لآخر أجلس على الفرن لأشكل منتجات زجاجية مختلفة".
أحمد خالد ابن صاحب المصنع يقوم بصناعة أكواب بحسب الطلب
يفخر الحاج خالد علي بأبنائه، ويقول: "بأصابعنا تلك والعصا التي نستخدمها نستطيع تشكيل ملايين الأشكال، لا نستخدم قوالب إطلاقاً، أيادينا تتفنن وحدها، مجرد أن يعطينا الزبون رسماً لمنتج زجاجي أستطيع تنفيذه على الفور، بمقاييسه وألوانه التي يحددها".
للبنات أيضاً دور في صناعة الزجاج، فابنته روجينا ذات الخمس سنوات تساعده في تجميع النجف والأباجورات، ووضع اللمسات الفنية النهائية على المنتج، ليندمج في النهاية كل أفراد الأسرة في مهنة واحدة.
نشتري من حارة الزبالين
عن كيفية تلوين المنتجات الزجاجية، يقول محمد خالد (24 عاماً) لرصيف22: "يمكننا إنتاج عدد كبير من ألوان الزجاج باستخدام أنواع معينة من الأكاسيد، تضاف للزجاج أثناء الصهر، أشهرها أكسيد الكوبالت، وتضاف بنسب محددة مع طريقة طبخ، ودرجة حرارة معروفة لكل لون، وبذلك نحصل على التنوع في ألوان المنتجات الزجاجية".
ويستطرد: "يرجع الأمر أيضاً إلى لون الزجاج الأصلي الذي نستخدمه، فنحن نشتري الزجاج المجمع من القمامة من منطقة الزرايب، وخصوصاً حارة الزبالين بالمقطم، فهناك يتم جمعه، وفصل كل لون على حِدة، فمثلاً زجاجات السفن آب الخضراء، ومثيلاتها نضعها في ناحية، والزجاج العسلي في ناحية أخرى، والزجاج الشفاف وحده، وهكذا، وللألوان الأساسية دور في تنوع ألوان المنتجات".
خالد (10 سنوات) من أسرة توارثت صناعة الزجاج أباً عن جد
يصطحبني حفيد صاحب المصنع خالد في جولة داخله ليشرح لي أسماء المنتجات التي ينتجونها، ويقول: "ننتج آلاف القطع والمنتجات المختلفة سنوياً، فمثلاً تجد عندنا الكاسات بأنواعها وألوانها، أكواب الشاي والعصير والمياه والآيس كريم والنجف والأباجورات المضيئة والمطعمة بالصدف، والأطباق، وطقم القارورة، وفازات الورد بأحجامها وأشكالها المتنوعة، وكور السلال، وتطعيم الخشب بطارات الزجاج الملونة، وزجاجات الشيشة، وتطعيمها بقطع الألومنيوم من المصنع المجاور، وغيرها من المنتجات".
ويضيف: "عندنا مهارة وقدرة على تنفيذ أي تصميم زجاجي يحضره الزبون لنا".
تستخدم العائلة الغاز الطبيعي بدلاً من الخشب الذي طالما استخدمه أجدادها، بسبب نظافته وعدم وجود انبعاثات للدخان، ولكنهم يستهلكون اسطوانات عديدة لإشعال فرن تصل حرارته إلى 1500 درجة مئوية، ويستغرق إشعال الفرن بعض الوقت قبل البدء بصهر الزجاج داخله، مما يزيد من تكلفة المنتج اليدوي الذي يصنعونه.
يتنهد أحمد، مضيفاً: "رغم أن الشغل صعب، ومجهودنا لا يأتي بما يقابله من مال، وخصوصاً في ظل الركود الاقتصادي الحاصل بعد أحداث 2011 إلا أني متمسك بهذا الفن التراثي، الذي ورثته عن أجدادي، وعلمته لابني ذي العشرة أعوام، كما سأعلمه لأحفادي بإذن الله".
منتج الهوية الوطنية
في الواقع، لم تصارع صناعة الزجاج وحدها خطر الانقراض، فهناك عدد لا بأس به من الحرف التراثية اليدوية تواجه شبح الانقراض، كصناعة الكليم والفخار، ونسج الصوف، والخوص، وغيرها.
يقول الدكتور أحمد حنفي، الخبير والمحلل الاقتصادي، لرصيف22: "الصناعات والحرف اليدوية بشكل عام لا تعتمد على ذكاء الآلة، بل على مهارة الحرفي الذهنية واليدوية في تقديم منتج مميز، أسميه منتج الهوية الوطنية، تعرف الشعوب بما يميزها من حرف يدوية، وإن من الأسباب الأساسية المساهمة في اندثار صناعة وتدوير الزجاج وغيرها من الصناعات هو الانشغال العام للدولة بالمشروعات القومية".
"مصانع تدوير الزجاج تطفئ أفرانها، الآن توقف فرن عمي، وتندثر المهنة، كنا نُصدر للعالم كله منتجاتنا، كل مصنوعات خان الخليلي الزجاجية التي يقتنيها السياح كانت تخرج من عندنا"
ويضيف: "الاهتمام بالصناعات المحلية والحرف اليدوية لا يقل عن تلك المشروعات، فإن حجم المكاسب المادية من وراء التجارة العالمية للحرف اليدوية يتخطى الـ 170 مليار دولار سنوياً".
ويشدد حنفي على ضرورة إنشاء مجلس قومي للحرف اليدوية ورعايتها، وتقديم الدعم لها، ويشير لضرورة فتح أكاديميات وتوفير قاعدة بيانات لتعليم فنون تلك الحرف والتشجيع عليها.
موت الجد، والغزو التكنولوجي، والواقع التنافسي الشديد مع البضائع المستوردة الرخيصة الثمن، خاصة من الصين، وعدم وجود الدعم اللازم لأصحاب الحرف اليدوية، والمشاريع الصغيرة، كل تلك أسباب، بحسب حنفي، ستعجل من اندثار صناعة الزجاج ومثيلاتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع