شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"استر ما ستر الله"... تلاعب لغوي في المجتمع الجزائري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 11 يونيو 202105:10 م

ما الذي تبقّى من جريمة 18 آيار/ مايو 2021 التي مسّت تسع معلمات جزائريات، معهن طفلة رضيعة في منطقة معزولة بولاية برج باجي مختار؟

"لم تتجرأ وسائل الإعلام على أن تتكلم عن جريمة الاغتصاب، الجميع تحدثوا عن "اعتداء"، ما معنى اعتداء؟ إنها كلمة فضفاضة غير دقيقة. لا يريدون تسمية الجريمة باسمها، لأنهم يرفضون تحمّل مسؤولياتهم تجاه المرأة وحمايتها"، تقول أسماء، أستاذة جامعية بالجزائر العاصمة لرصيف22.

"لم أدرك ما حدث فعلاً، لأنني ببساطة قرأت الخبر في الصحافة الجزائرية".

أما منى، موظفة في هيئة حكومية، تسكن في حي باب الزوار شرق العاصمة، فتقول: "تخيّلوا أنني لم أدرك ما حدث فعلاً، لأنني ببساطة قرأت الخبر في الصحافة الجزائرية، والكل كان يتحدّث عن اعتداء وسرقة، اكتشفت حقيقة ما حدث فقط عندما حدّثتني أختي في الموضوع عند عودتي للبيت".

وتضيف: "أختي بدورها عرفت التفاصيل من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، والصفحات النسوية التي ندّدت بالتستّر على نوع الجريمة، وعدم توصيفها بدقة وصدق".

ليست تلك هي المرّة الأولى التي يتحاشى فيها الجزائريون تسمية الأشياء بمسمياتها أو يعطونها تسميات أخرى لا تعكس حقيقتها. فهل يلجؤون إلى ذلك عمداً؟ 

لماذا؟

التابوهات وخدش الحياء

يقول أمين (40 عاماً) لرصيف22: "الأمر له علاقة بالتابوهات، هناك مواضيع حساسة ودقيقة تخدش الحياء، لذلك من الصعب تناولها بصراحة".

يذكر أمين، وهو صاحب محل ملابس، فضيحة حدثت مؤخراً طالت محللاً رياضياً، ولاعب كرة جزائرياً سابقاً، اتهم بفتح منزله لممارسة الدعارة، وقد تمّت مناقشة القضية في إحدى القنوات التلفزيونية، يقول: "عندما شاهدت فيديو الحلقة، لم أفهم شيئاً، كان عليّ أن أتعرّف على تفاصيل الموضوع من صفحات فيسبوك، هكذا هو الوضع حين يتعلّق الأمر بهذه المواضيع، يكون الكلام مشفّرا".

"يشير الجزائريون إلى الأطفال بمفردات أراها مرضية، تعكس هوس المجتمع بالزواج فقط، فيقولون: كيف حال هاذاك العازب أو هاذيك العاتق"

غير أن أمين لا يعترض على هذا الطرح، بل يحبّذه ويتمنى أن لا تتغيّر هذه الطريقة في التعاطي مع "المواضيع الحسّاسة" كما يسمّيها: "أنا مع إبقاء التابوهات، أجد أن فتح المجال أمام مناقشة المواضيع الحسّاسة يجعل منها أمراً طبيعياً مع الوقت، لأننا تعوّدنا سماعها، وبالتالي بدل أن نستهجنها، ونرفضها، سنتقبّلها دون أن نشعر. هذه المسائل لا تحلّ بكثرة الكلام، بل أمام القضاء. أعرف أن ما أقوله سيغضب الكثير من النساء اللواتي يبحثن عن منبر لكشف المستور، وهو أمر أتفهمّه، لكنني رجل ومن الطبيعي أن أفكّر بهذا الشكل، لو كنت امرأة لقدمت تحليلاً مختلفاً للأمور".

في المقابل، تصر سعاد، أستاذة أدب عربي في مدرسة بالعاصمة الجزائر، على أن ما يسميه أمين وغيره حياءً وحشمة ليس سوى نفاق مجتمعي، واحتقار للمرأة: "إنه مجتمع كاره وحاقد على المرأة، حتى المرأة تجدها كارهة لنفسها في هذا المجتمع المريض، خذي عندك عبارة "مولى بيتي" التي تقولها الجزائريات حين يتحدثن عن أزواجهن، من هذه العبارة يظهر جليّاً خضوع المرأة، وقبولها بالمرتبة الأدنى، فبدل أن تستعمل كلمة زوجي، المأخوذة عن "زوج" بمعنى "اثنين بنفس المرتبة والقيمة" يتشاركان تفاصيل الحياة، نجدها تردد عبارة مولى بيتي "مالك الغرفة" بكل تخلّف، وكأنها فخورة بأن الرجل يملك كل شيء، بيتها وجسدها وروحها وأولادها، من الطبيعي أن يستسيغ الرجل الوضع ويبقي عليه كما هو، طالما تحبّذ المرأة دور العبودية التي تعيشه".

يبدو ممّا تقوله سعاد أن المصطلحات والعبارات والتسميات التي يوظّفها الجزائريون تعكس وضعاً اجتماعياً ونفسياً يتطلّب الوقوف عنده، وهو ما تؤكّده سهام، وهي طبيبة عامة، لرصيف22: "عدم تسمية الأشياء بأسمائها له أسباب نفسية وثقافية واجتماعية كالخجل والخوف من رفض المجتمع والعار والتطيّر، فالكثير منا مثلاً يتحاشى تسمية مرض السرطان، وتجده يشير إليه قائلاً "هاذاك المرض" خوفاً من مواجهة حقيقة المرض الفتاك، إلى جانب تطيّر الناس من بعض المسميات التي يعتقدون أنها قد تصيبهم بمجرّد قولها أو سماعها، كذلك تجد أكثر الناس علماً وثقافة يتجنّبون التلّفظ بكلمة "جن"، ويشيرون إليه بعبارة "هاذوك الناس" وهكذا دواليك".

في الموروث الشعبي الجزائري، المخلوقات الجنيّة قد تؤذيك إذا ما تحدّثت عنها، بحسب سعاد، أما الخجل، وأحياناً التهذيب المبالغ فيه، فيظهر من خلال عبارات مثل "هاذيك الجهة"، التي تعني "دورة المياه".

تنهي سعاد حديثها، قائلة: "طبعاً لا يوظّف الجميع نفس التسميات، لكنها شائعة جدّاً، وتتطلّب أن نتوقّف عندها كثيراً لنفهم ذهنية ونفسية الجزائري".

"الإخوة راحوا"

يرى سعيد، موظف في المطار أربعيني، أن المجتمع يلجأ إلى مسميّات بعينها كي يبرّر وجهة نظره للأمور، أو المسار الذي يفرضه على الأفراد، يقول: "بمجرّد أن يخرج الأطفال من سنواتهم الأولى، ويدخلون سن المراهقة، وعلى الرغم من أنهم لايزالون أطفالاً من الناحية الجسدية والنفسية والقانونية، تجد الناس يشيرون إليهم بمصطلحات غريبة، أكاد أراها مَرَضيّة، فليس غريباً أن تسمع إحداهن تسأل صديقتها أو زميلها عن الأطفال قائلة كيف حال "هاذاك العازب" أو "هاذيك العاتق"، أي العزباء، بدل أن تقول كيف حال الطفل والطفلة. إن هذه التسميات الغريبة تدّل على هوس المجتمع بالزواج، فهو لا ينتظر من أفراده سوى أن يتزوجوا ويتناسلوا، أما الباقي فغير مهم".

تتفق حنان، موظفة في مؤسسة حكومية وثلاثينية، مع سعيد حول مسألة الترويج لمسميّات من أجل "ترسيخ لفكرة هدّامة وسامّة"، لكنها تستحضر من ذاكرتها مثالاً أكثر خطورة وتراجيدية ممن تحدثوا إلى رصيف22: "كنّا، أنا وإخوتي، في منزل جدّتي، نركض بين الساحة والحديقة، كان الوقت عصراً حين سمعنا إطلاق نار، أمرنا أبي بالدخول إلى المنزل وإغلاق كل الأبواب والنوافذ".

"يقودنا مفهوم السترة أو ما يعرف بـ "استر ما ستر الله"، وهو مأخوذ عن التورية في الثقافة الدينية، أي تجنب تسمية الأشياء بشكل مباشر خاصة فيما يتعلّق  بالجنس إلى تعميم النفاق الاجتماعي والديني"

وتضيف: "لم يكن صعباً علينا، نحن الصغار، أن ندرك أنه قد حدث اشتباك بين عناصر الأمن والإرهابيين. بعد حوالي نصف ساعة هدأت الأمور نسبياً، وبدأت جدّتي تفتح النوافذ، حينها رأت جارتنا العجوز هي الأخرى تطل من نافذتها، أذكر جيدا ما قالته جدّتي يومها لجارتها، كان سؤالاً واضحاً كررته عدّة مرات: الإخوة راحوا؟".

تقول حنان إنهم ضحكوا وقتها، واستغربوا ما قالته الجدّة، لكنها كلّما كبرت زال استغرابها، وزاد خوفها من خطورة الكلمات التي نرددّها دون إدراك: "استغربنا أن تقول جدتي الأميّة كلمة "الإخوة"، وهي كلمة عربية فصيحة، فنحن لا نقولها في لهجتنا العاميّة، وكانت وقتها مستحدثة، إذ بدأ الإسلاميون والمسلّحون يطلقونها على أنفسهم، أما جدّتي المسكينة ففي عزّ خوفها منهم كانت تردّد ما كانت تسمعه من الإرهابيين والمتعاطفين معهم".

"خلف كل تسمية قصة تلاعب بعقولنا وبواقعنا".

استطاع المسلحون وقتها، حسب حديث حنان، ترسيخ فكرة الشبه بينهم وبين مجاهدي ثورة التحرير عن طريق استدعاء كلمة "الخاوة" التي كان ينادي بها الشعبُ المجاهدين، والتي عرّبوها كي يمنحوها طابعاً "إسلامياً"، وبهذا صنعوا مصداقية لوجودهم، وتبريراً لأعمالهم الإرهابية, تقول حنان لرصيف22: "تسميتنا للأشياء ليست اعتباطية، وخلف كل تسمية قصة تلاعب بعقولنا وبواقعنا".

الثقافة الدينية

يرى رفيق طيبي، وهو كاتب وشاعر جزائري شاب، أنه، إضافة إلى الفترة الاستعمارية التي عكّرت الصفاء اللغوي في الجزائر، تلعب الثقافة الدينية دوراً هاماً في تخفيف المفردات أو تقديمها بشكل يضلل الآخر، ولا يعطيه تصوراً دقيقاً عمّا يحدث.

ويتابع: "يقودنا مفهوم السترة أو ما يعرف بـ "استر ما ستر الله" وهو مأخوذ عن التورية في الثقافة الدينية، أي تجنب تسمية الأشياء بشكل مباشر خاصة لما يتعلّق الأمر بالجنس، يقودنا هذا المفهوم إلى تعميم النفاق الاجتماعي والديني".

كما أن مفهوم العار المتجّذر في المخيال الجمعي، حسب ما يراه رفيق طيبي، له حضوره الأقوى من أي شيء آخر يتحكّم في حياة الجزائريين اليومية.

نحن إذاً أمام مجتمع في حالة هروب دائم إلى الأمام، لأنه يرتبك أمام الأفعال الشائنة، ويرفض التعامل معها على أنها أزمة اجتماعية أخلاقية، ولذلك يفضّل التغطية عليها بمفردات فضفاضة بعيدة عن الدقة، ولا تعكس الواقع في شيء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image