" - كلثوم هل تحبين أستاذتك؟
أكيد أستاذة.
إذن لن تحصلي على نقطة المشاركة هذه المرة، وسأعوضك عنها في المرة المقبلة".
هكذا حلّت أستاذة الفرنسية في مدرسة ابتدائية بالجزائر، التي تدرس فيها التلميذة كلثوم ذات 9 سنوات مشكلة ترتيب بعض تلاميذها بعدما حصلوا على المعدل نفسه، لقد اختارت الحلقة الأضعف، اجتماعياً واقتصادياً، لتضعها خارج المراكز العليا.
ويعاني بعض الطلاب/الطالبات في المدارس الجزائرية، خاصة من ذوي الخلفيات الاجتماعية المهمشة، من "عنف وتمييز" مدرسيهم، مما يخلف أثراً سيئاً، وغصّة، تدوم طويلاً.
ربما لم تتخيل هذه المعلمة أنّ ما قامت به آنذاك لن يُمحى من ذاكرة كلثوم، حتى بعد مرور أكثر من ربع قرن، بل سيُحفر في روحها، ويؤثر على تعاملاتها الاجتماعية.
تقول تلك التلميذة اليوم، وهي مغتربة (37 عاماً) في كندا وأم لطفلة: "فهمت وقتها، رغم صغر سني، كل ما حدث، وشعرت بالإقصاء لأنني من عائلة بسيطة، وأبي لم يكن يعمل إلا نادراً، لم تكن المعلمة لتستفيد مني شيئاً، فأنا لا أجلب الهدايا وأهلي ليسوا من ذوي النفوذ كأهل زملائي، الذين راعت مشاعرهم".
تتنفس كلثوم الصعداء، وتكمل لرصيف22: "لقد احتقرتني واستبعدتني لأنني الأكثر هشاشة، وهو ما خلق عندي عقدة صاحبتني طيلة حياتي".
تتحاشى كلثوم الأماكن التي لا تجد فيها "بسطاء" مثلها، ورفضت فرص عمل جيدة كي لا يتم استبعادها، واحتقارها، مثلما فعلت مدرستها في الابتدائية
أضحت كلثوم تتحاشى الأماكن التي لا تجد فيها "بسطاء" مثلها، كي لا يتم استبعادها، رفضت الكثير من فرص العمل الجيّدة لأن صوتاً ما بداخلها كان يخبرها دوماً أن من يعملون في تلك الأوساط الراقية لا يشبهونها، ففضلت أن تبتعد مسبقاً، قبل أن ُتستبعد، تقول: "كم أتمنى أن ألتقي تلك المدرّسة يوماً لأواجهها بفعلها الشنيع!".
آفة المحسوبية، بحسب كلثوم، وتهميش التلاميذ البسطاء على حساب الآخرين، ممن هم أوفر حظاً اجتماعياً، من القضايا الحساسة التي هزّت ثقة المجتمع الجزائري في المدرسة، باعتبارها شكلاً من أشكال العنف النفسي الممارس ضد أبناء الجزائر.
على الرغم من وجود نصوص صريحة تؤطر التعامل التربوي مع التلاميذ، كما هو حال القانون التوجيهي للتربية الوطنية رقم 08-04 المؤرخ في 23 كانون الثاني/يناير 2008، حيث تنصّ المادة 22: "يجب على المعلمين التقيد، أثناء القيام بواجبهم المهني، بمبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص، وإقامة علاقات أساسها الاحترام المتبادل، والنزاهة، والموضوعية مع التلاميذ".
"لم أنس صفعة معلمي"
لا يزال الحديث عن الأساتذة المضطربين نفسياً في المدارس الجزائرية من التابوهات المحرمة التي يصعب الخوض فيها لأسباب عدة، أهمها تضامن الطاقم الإداري والتربوي مع هذه الفئة، وإخفاء ممارساته "الشاذة والمهينة" في حق التلاميذ، إلى جانب سكوت الأهل عمّا يحدث مع أبنائهم بسبب الجهل بالقوانين أو الركض خلف لقمة العيش، التي قد تبدو أحياناً أكثر إلحاحاً من مشاعر أطفالهم، دون أن نغفل آلية القمع النفسي التي يلجأ إليها لا شعورياً ضحايا التعنيف المدرسي، وذلك كوسيلة دفاع كفيلة بحمايتهم من الآثار الخطيرة للتجربة التي مروا بها، والصدمة التي تلقوها، بحسب من تحدثوا لرصيف22.
هند واحدة من هؤلاء الضحايا، لم تستطع وهي على عتبة الأربعين، نسيان ما حدث معها في المدرسة المتوسطة التي كانت تدرس بها، حين طرح أستاذ الفيزياء الغريب الأطوار موضوعاً ما، فأدلت برأي لم يرقه، وهو ما دفعه لاستدراجها إلى خارج القاعة لينهال عليها بصفعات كادت تدخلها في غيبوبة من شدة الألم، الذي شعرت به في رأسها.
تقول هند لرصيف22: "لا أزال أتذكر صفعات أستاذ الفيزياء، لا يمكنني أن أحدد عددها، لكنني أشعر بألمها إلى اليوم كلما استرجعت تلك اللحظات عن قصد أو من دونه، كانت موجة من الصفعات العنيفة، لم أفهم سبب سلوكه، ولم يتوقف عن ضربي حتى تدخل أستاذ آخر وأوقفه".
قالت له إنها ستخبر أباها، فعاد لضربها مرة أخرى.
طلب مدرس الفيزياء من هند بعدها أن تذهب لتغسل وجهها، وحينما عادت أخبرها أن الموضوع قد انتهى، وأنه يمكنها العودة إلى الفصل أو "القسم"، قالت له إنها ستخبر أباها، فعاد لضربها مرة أخرى، تقول: "خفت ألا ينتهي هذا الكابوس".
عادت هند إلى المنزل، لم تجد أباها الذي كان غائباً دوماً بسبب العمل، فحكت لأمها كل شيء وهي تبكي، لكن أباها لم يرافقها للمدرسة ولا غيره، وصار ذلك الأستاذ كلما يراها مع زملائها، يسألها عن والدها.
تحكي هند: "كنت أخاف من أسئلة زملائي عن الموضوع، ومن نظراتهم ومن ذلك الأستاذ، وازدادت حيرتي وعظم شعوري بالإهانة والفزع لأني لم أعرف ماذا أفعل أمام ذلك الوحش، وأنا مراهقة صغيرة، ووحيدة لم أتجاوز الـ13 سنة، كنت جاهلة بالقوانين، وكان الكبار متضامنين ضدنا نحن الصغار، لو عاد بي الزمن للوراء لذهبت إلى أقرب قسم شرطة، وأبلغت عن ذلك المجرم، أفكر في كثير من الأحيان أن أبحث عنه وأواجهه، لا أدري! علّني أجد السكينة بعد ذلك".
"موضوع حسّاس وتابوه"
يرى جهيد حيرش، وهو نقابي في قطاع التربية بالجزائر أن العنف الممارس ضد التلاميذ موضوع "شديد الحساسية، وقد يكون من التابوهات التي لا يفضل المجتمع المحافظ أن يطرحها، فالعائلات كثيراً ما تتكتم عمّا يحدث مع أطفالها من عنف لفظي أو جسدي أو جنسي في المدارس، ولهذا لا يمكن تعداد أو حصر هذه الحالات، حتى النقابات أو فيدرالية جمعيات أولياء التلاميذ لا يمكنها تقديم إحصاء لضحايا العنف المدرسي بكل أنواعه".
"لا أزال أتذكر صفعات مدرس الفيزياء وأنا على عتبة الأربعين، لا يمكنني أن أحدد عددها، لكنني أشعر بألمها إلى اليوم، لم أفهم سبب سلوكه، ولم يتوقف عن ضربي.."
غير أن الإشكال، في نظر جهيد حيرش، لا يكمن في النصوص المجرِّمة لهذه الممارسات، وإنما في تطبيقها، يقول لرصيف22: "المادة 73 من القرار 778 المؤرخ في 26 -10-1991 المتعلق بنظام الجماعة التربوية في المؤسسات التربوية والتكوينية جد واضحة، يعد التأديب البدني أسلوباً غير تربوي في تهذيب سلوكيات التلاميذ، وتعتبر الأضرار الناجمة عنه خطأً شخصياً يعرض الموظف الفاعل إلى تبعات المسؤولية الإدارية والجزائية التي لا يمكن للمؤسسة أن تحل محل الموظف في تحملها. وعليه فإن النصوص القانونية السارية المفعول بهذا الشأن معروفة، لكن المشكلة تكمن في تطبيقها، فهناك خلل ما ناتج عن غياب إرادة سياسية تعمل على تفعيل هذه النصوص".
قد لا تكون الإرادة السياسية وحدها الغائبة عن معالجة مشكلة العنف المدرسي، وإنما إرادة مجتمع بأكمله، كون العنف أصبح جزءاً أصيلاً من تركيبة المجتمع الجزائري، هذا ما تراه خديجة صانع.
مناخ العنف
بعد أن درّست اللغة الإنجليزية لسنوات عديدة بالجزائر استقرت خديجة صانع مع زوجها في لندن، كي تعمل مساعدة تربوية لذوي الاحتياجات الخاصة في المدارس الابتدائية.
وعن خلاصة خبرتها بين الجزائر ولندن في المجال التربوي، تقول: "لا يمكن فصل العنف المدرسي عن العنف الأسري والمجتمعي، فالطفل الجزائري للأسف يعيش في مناخ من العنف في المنزل أو الشارع أو المدرسة، ولهذا لا بد من سنّ قوانين وأنظمة تحميه في كل مكان، لأن المدرسة لا تنفصل عن التركيبة العامة للبيئة التي ينشأ فيها".
وتضيف صانع لرصيف22: "على الأساتذة كذلك أن يتدربوا باستمرار في مجال سيكولوجيا الطفل، كي يستطيعوا تسطير الأهداف البيداغوجية الخاصة بقدرات كل تلميذ، وملاحظة مشاكله النفسية، والعمل على معالجتها، كما عليهم الالتزام بميثاق حماية كرامة التلميذ وسلامته النفسية والجسدية في كل مؤسسة تربويةـ ومن ثم تُطبق القوانين الصارمة على كل من يخالف الميثاق".
وتشدد صانع على ضرورة معاملة الطفل باعتباره "جوهرة ثمينة، واستثماراً وطنياً كي نرقى إلى مصاف الدول المتطورة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...