شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
حرب الجزائر... تاريخ

حرب الجزائر... تاريخ "محرّم" وأرشيفات "متفجّرة"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الثلاثاء 16 مارس 202111:07 ص

في مذكراته "السفاحون: مذكرات مجنّد"، يروي "بنوا راي" Benoist Rey ما عايشه أثناء فترة خدمته كممرض عسكري في منطقة تاكسنة، شمال منطقة قسنطينة الجزائرية، ويقول: "زوّر الجيش الفرنسي جرائمه عبر إلصاق يافطة في رقاب المذبوحين، الضحايا، كتب عليها: خائن لجبهة التحرير الوطني".

يسرد راي ما ارتكبه الجيش الفرنسي من جرائم تجاه مواطنين عزل، ثم ذبحهم على طريقة "الابتسامة القبائلية"، أي من الأذن إلى الأذن الأخرى، ليحاول إلصاق التهمة بجبهة التحرير الجزائرية FLN، بقصد إثارة سخط السكان تجاهها، وفي محاولة لسحب بساط الحاضنة الشعبية من تحتها.

قبل شهر تقريباً، وبناءً على طلب الرئيس الفرنسي فرانسوا ماكرون في تموز/ يوليو 2020، أصدر المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا تقريراً تناول فيه الأسئلة الكبرى حول الاستعمار وحرب الجزائر.

بعد خروجها سنة 1962، ماطلت الدولة الفرنسية لـ37 سنة حتى تعترف عبر برلمانها في حزيران/ يونيو 1999 بـ"حرب الجزائر". قبل ذلك، كانت السلطات الفرنسية تعتبر ما ارتكبته تجاه الثورة الجزائرية المسلحة "حفظاً للنظام".

وإثر اتفاقيات "إيفيان" عام 1962، كان همّ السلطات الفرنسية فقط نسيان ما جرى وتضميد جراح الإمبراطورية والتأقلم مع وضع الدولة الجديد.

في ذات الزمن، لكن في الضفة المقابلة من المتوسط، كانت الدولة الجزائرية الفتية بصدد كتابة "الرواية الكبرى" لتاريخها، دون نبش وتدقيق حقيقي لهذا التاريخ، لتخرج رواية بدون ملامح واضحة عنوانها الأكبر: "بطل واحد، الشعب".

هكذا، أقفل الموضوع ليتولى كل طرف سرد روايته الخاصة لمواطنيه: تعاطٍ سطحي حذر من الجانب الفرنسي، وتخمة تاريخية أسطورية من الجانب الجزائري.

ومع ظهور جيل جديد معولم يرفض الروايات القومية المزورة والمتلاعَب بها، حسب توصيف ستورا في تقريره، تعالت الأصوات مؤخراً في الجانبين مطالبةً بتدقيق الحقبة الاستعمارية والإجابة على عدة تساؤلات عالقة كموضوع "الابتسامة القبائلية"، الحركية، الصراعات الداخلية بين القوميين... وغيرها من القضايا.

شذرات من "الإلياذة الجزائرية"

عندما أطلق مصالي الحاج جمعية "نجم الشمال الإفريقي"، النواة الأولى للحركة الوطنية الجزائرية سنة 1926، كان على أرض الجزائر حوالي 6 ملايين نسمة، من بينهم تقريباً مليون أوروبي (بين فرنسيين، مالطيين، إيطاليين، إسبان...) ولد أغلبهم في الجزائر وأطلق عليهم اسم "الأقدام السوداء" Pieds noirs.

من بين هؤلاء الأوروبيين نجد صاحب جائزة نوبل للأدب 1957 الفيلسوف ألبير كامو، مؤسس المدرسة التفكيكية الفيلسوف جاك دريدا، المؤرخ بنيامين ستورا، الكوميدية نوال برنا، الفيزيائي جيل كوهين تانوجي، والفيزيائي صاحب نوبل عام 1997 كلود كوهين تانوجي... يمثل هؤلاء وغيرهم مئات الآلاف الجيل الثالث للأوروبيين-الجزائريين.

نَضَج الوعي السياسي الجزائري عبر سنوات من تلقي التعليم الفرنكوفوني المطعّم بالثقافة المحلية، ليتكوّن معه إحساس ملحّ بالهوية في خضم سياق عالمي مليء بالسرديات الكبرى: الشيوعية، القومية، الإسلامية... وهو ما أفضى إلى بداية تكوّن مشهد حزبي في الجزائر كتأسيس حزب الشعب الجزائري سنة 1937.

ولعب دوراً في تغيير المشهد الاحتكاك بالعالم الخارجي، كالمشاركة في الحربين العالميتين، حين سمع الجزائريون، والأفارقة عموماً، خطابات المجد الوطني الفرنسي، وشاهدوا المارشالات العسكرية وبهرجة الاحتفالات بالنصر على قوميات أخرى (ألمان وإيطاليين...). ربما عندها بدأ سؤال الهوية الذي لا يزال مطروحاً: مَن نحن؟

عندما حاول الجزائريون المشاركة في ذلك الجو العالمي لانتصار قوات الحلفاء على دول المحور، عبر المطالبة بالحرية، ردّت المؤسسة الكولونيالية، والتي استعادت أنفاسها بعد الفترة الفيشية (نسبة إلى حكومة فيشي التي فرضتها ألمانيا النازية بعد احتلالها فرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية)، رداً دموياً عنيفاً عنوانه "أحداث 08 ماي 1945" (8 أيار/ مايو) في السطيف.

في البدء، رفع المتظاهرون أعلام فرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفياتي، وكانت هتافاتهم تنادي بالحرية والمساواة، إذ كان التمييز العنصري مقنناً بموجب القانون (code d’indigénat 1881) الذي يمنح امتيازات على أساس العرق للأجانب دون المحليين وأصحاب البلد.

تحوّلت تظاهرة إلى أحداث دموية بعدما أطلقت السلطات الفرنسية النار على شاب جزائري من الكشافة الإسلامية، سعال بوزيد (22 سنة)، لذنب وحيد هو رفعه العلم الأبيض والأخضر إلى جانب بقية أعلام الدول المنتصرة في الحرب ضد النازية.

تتباين الأرقام بين البلدين. تشير الأرقام الجزائرية إلى سقوط 45 ألف قتيل، ويعتبر المؤرخ محمد قورصو ما جرى "إبادة جماعية". بينما تشير الأرقام الفرنسية إلى 15 ألف قتيل.

وتذكر أدبيات الثورة الجزائرية إلقاء الطائرات الفرنسية لـ40 طنّاً من القذائف على القرى المحيطة،وفي أحداث أخرى تلت ذلك، لتشكل مجتمعة "مذابح سطيف، قلمة، خراطة".

لم تعترف الدولة الفرنسية إلى اليوم بهذه الجرائم، كما وصفتها صحيفة ميديا بارت في تحقيق لها، واكتفت باعتبارها "مأساة لا تُغتفر" حسب تعبير السفير الفرنسي السابق في الجزائر هوبير كولان دوفيديرديار. ولكن الجزائر تصرّ على اعتراف فرنسي كامل بجرائمها واعتذارها رسمياً. وتبقى هذه الأحداث من الملفات العالقة التي تعطل تطوير العلاقات بين البلدين.

مثّل ما جرى في السطيف الشرارة الأولى التي ستنطلق منها ثورة التحرير حسب المؤرخ محمد حربي في مقال في "لوموند ديبلوماتيك". بعده، ستتالى الأحداث، كحرق قسم للشرطة في وهران عام 1949 وتحركات أخرى متفرقة.

حتى هذا الفترة، كانت أطراف الصراع واضحة نسبياً.

أوراق ممزقة من دفتر الثورة

في فيلم "خارج القانون" Hors la loi (2010)، تناول المخرج رشيد بوشارب قضية حساسة في تاريخ الثورة: صراع الأجيال بين جبهة التحرير الوطني FLN والحركة الوطنية الجزائرية MNA، وهو صراع عابر للحدود دارت أشواطه في الملعبين الجزائري والفرنسي، أي في الـ"ميتروبوليتان"، كما كانت فرنسا تسّمي الجغرافيا التي تجمعها ومستعمراتها.

في مذكراته، يروي "بنوا راي" ما عايشه أثناء فترة خدمته كممرض عسكري في منطقة تاكسنة، شمال منطقة قسنطينة الجزائرية، ويقول: "زوّر الجيش الفرنسي جرائمه عبر إلصاق يافطة في رقاب المذبوحين، الضحايا، كتب عليها: خائن لجبهة التحرير الوطني"

حيثيات هذا الصراع هي نتيجة تراكم للخلافات السياسية منذ سنوات. تحديداً، بدأ الانقسام الفعلي مع بدء الترتيبات لاجتماع حزب "حركة انتصار الحريات الديمقراطية MLTD" سنة 1954 في مدينة هرني في بليجيكا. اختلف تيار المصالحيين (نسبة لمصالحي الحاج) الذي كان يرى أن هدف الاجتماع هو إعادة تركيز أسس الحزب وتنظيمه (سيُعرفون لاحقاً بالحركة الوطنية MNA) مع ناشطي اللجنة الثورة للحركة والتوحيد CRUA، والذين ألهمهم انتصار فييتنام على فرنسا في معركة "ديان بيان فو" قبل أشهر، ليطلقوا الثورة في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954، ويكوّنوا جبهة التحرير الوطني FLN.

مصالحي الحاج

ثار الأبناء على الآباء، وكابر المصاليون متمسكين بحقهم في الزعامة والقرار، وكانوا على مدار سنين يختزلون في ذواتهم كل حس وطني. كان التمرد لحظة اندلاع الثورة بمثابة لحظة الفراق، إذ انقسم الصف القومي بين الفرقاء، مع ترجيح لكفة المتمردين/ الثوريين ضد المحافظين/ الإصلاحيين، بانضمام مكونات أخرى من المشهد السياسي الجزائري حينها إليهم، كأعضاء من الحزب الشيوعي الجزائري، والشيوخ والقوميين من ألوان أخرى. هكذا، انطلقت الحرب الأهلية بين الإخوة-الأعداء، في خضم الحرب الجزائرية ضد القوات الفرنسية.

يصف المؤرخ محمد حربي أرشيفات حرب الجزائر بـ"المتفجرة". في عدد بتاريخ 20 آذار/ مارس 1962، نشرت صحيفة لوموند أنه بين تشرين الثاني/ نوفمبر 1954 وأيار/ مايو 1957، سجّلت الإدارة الفرنسية 4000 قتيلاً قضوا ضريبة صراع المصالحيين ومقاتلي جبهة التحرير و9000 جريحاً. وسجلت أيضاً 16382 اعتداءً بين مدنيين مقابل 9134 اعتداءً تجاه القوات الفرنسية.

كذلك، في نفس سنة 1957، ارتكبت مجزرة قرية "ملوزة" المعروفة بميل سكانها نحو الحركة الوطنية ومصالي الحاج، حيث قتل 300 مدني. الحصيلة الإجمالية لهذا الصراع تقارب، حسب الأرقام الفرنسية، 25000 جريح و10000 قتيل.

يروي حربي في كتابه "جبهة التحرير: الحقيقة والسراب" عن أحمد نصبة الذي كان من رواد الحركة ثم انضمّ إلى الجبهة ليُقتل على يد رفاقه السابقين: "ما جرى معي مروّع، لقد قضيت الحرب أقاتل الجزائريين".

هذا الصراع، حسب بنيامين ستورا، يمثّل إعلان نهاية التعددية السياسية في الجزائر، إذ سيتراجع المصالحيون وكذلك ستنصهر عدة أطياف سياسية أخرى في جبهة التحرير، ليعتبر قادة الجبهة التسعة (les neufs historiques) أنفسهم الورثة الشرعيين للحركة الوطنية، كما حصل في عدة أقطار عربية أخرى كتونس، المغرب ومصر... وليتولّوا كتابة التاريخ، كعادة المنتصرين، تاركين أصوات عديدة لأعضاء الـMNA تطالب هي الأخرى بـ"حقها" التاريخي في أن تكون حاضرة في الرواية الوطنية الجزائرية.

هذا ملف آخر لا يزال عالقاً.

يا عمال العالم اتّحدوا

كل صفحة من تاريخ ثورة التحرير الجزائرية تحتاج تاريخاً لوحدها. تدفع العديد من الأجنحة اليمينية الفرنسية منذ سنوات نحو الاعتراف بمسؤولية الحكومات الفرنسية، خصوصاً في الفترة الديغولية (نسبة إلى الجنرال شارل ديغول)، عمّا لحق "الحركية" من تهميش وخذلان ونكران عند حلولهم في فرنسا، بعدما فرّوا من الجزائر المستقلة التي اعتبرتهم "خونة" وجب عليهم "العقاب".

يسرد "بنوا راي" ما ارتكبه الجيش الفرنسي من جرائم تجاه مواطنين جزائريين عزل، ثم ذبحهم على طريقة "الابتسامة القبائلية"، أي من الأذن إلى الأذن الأخرى، ليحاول إلصاق التهمة بجبهة التحرير الجزائرية، بقصد إثارة سخط السكان تجاهها

حمّل الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي الدولة الفرنسية مسؤولية ما جرى، كما أدان مجلس الدولة ذلك، وأيضاً اعترف الرئيس الفرنسي السابق  فرانسوا هولاند بهم وبدورهم في الدولة الفرنسية في الفترة الاستعمارية، وأخيراً أذن ماكرون بصرف تعويضات لهم وإحياء ذكراهم كل سنة.

الحركية (مفرد حركي، من حركة) هم الجزائريون الذين استنفرتهم القوات الفرنسية ضد الثورة، وتبلغ أعدادهم حوالي الـ100 ألف. وزعت عليهم أعمالاً بين الإسناد العسكري والمخابراتي (ضمن تشكيلات الـSAS).

بدأت قصة هؤلاء سنة 1914، عندما انطلقت فرنسا في تشكيل "الجيش الإفريقي"، استعداداً للحرب العالمية الأولى، والذي تكوّن من مغاربة وأفارقة من جنوب الصحراء. وبعد الحرب، أبقت السلطات الفرنسية على خدمة هؤلاء واستعملتهم في أعمالها داخل المستعمرات، كشرطة وجباة وإداريين، ثم في الحرب العالمية الثانية أيضاً، وانتهت بأن جندتهم ضد بني جلدتهم في حرب الجزائر.

عند استقلال الجزائر، انسحبت القوات الفرنسية تاركةً هؤلاء لمصيرهم، فنُبذوا اجتماعياً. وعند فرارهم إلى فرنسا، تلكأت السلطات في استقبالهم إلى أن وضعتهم في مخيمات استعملها النازيون سابقاً كمعتقلات لليهود، لسنوات عديدة.

ورغم نيلهم العديد من الحقوق في فرنسا، يبقى هؤلاء وأبناؤهم محرومين إلى الآن من دخول الجزائر، وتظل مطالبهم بالعرفان الفرنسي والعفو الجزائري رهينة التسويات السياسية.

في الحاضر الجزائري، تزر الوازرة وزر أخرى. "ذنب" الحركيين عابر للأجيال، كما تتضمن الكتب المدرسية الجزائرية حديثاً عن "خيانتهم". وهذا ملف ثانٍ يأمل أصحابه في إعادة النظر فيه رغم حكم تاريخ الثورة البات فيه.

لا تنتهي التراجيديا هنا. من بين الساحات التي شهدت أحداث "الحراك" الجزائري الأخير، نجد ساحة موريس أودين في وسط العاصمة الجزائر. وسنة 2018، أعلن ماكرون مسؤولية الدولة الفرنسية عن مقتل موريس أودين، أستاذ الرياضيات في جامعة الجزائر، وعضو الحزب الشيوعي الجزائري والمناضل الأممي في صفوف الثورة الجزائرية ضد الكولونيالية الفرنسية.

كثيرون مثل أودين، من "الأقدام السوداء"، شاركوا في حرب التحرير بجانب الجزائريين: رهبان كنائس، صحافيون، كتّاب، عمال، تجمع بينهم أصولهم الفرنسية (وجنسياتهم)، ومنهم أودين، ألبير كامو، لويزات إغيلهريز، ومنهم أعضاء شبكة جونسون، وهم مجموعة من الفرنسيين أمّنوا الدعم اللوجستي لجبهة التحرير عبر تسليم وإيصال المراسلات والوثائق وسمّوا لذلك بحاملي الحقائب les porteurs de valises.

وبهذا، نجد فرنسيين وجزائريين في طرفي الصراع، ما يجعل تناوله في الوقت الراهن أشبه بتناول شأن عائلي خاص، كما وصفت مارين لوبان العلاقة بين البلدين في الحقبة الكولونيالية.

قانون نيوتن الثالث

"لكلّ فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه". هذا هو قانون نيوتن الثالث. رغم شاعرية حرب الجزائر وما تحمله من دلالات على قدرة الأهداف النبيلة على تجميع القوى الثورية من مختلف الاتجاهات، إلا أنها لا تخلو من النقاط/ الأحداث الخلافية التي قد تشوب بياضها الأسطوري، خاصة إذا كانت هذه الأحداث تُروى من أفواه عن عيون عاينت الثورة وزامنت تمخضاتها.

في رواية أخرى مناقضة لرواية "بنوا راي" التي ذكرناها سابقاً، تروي النائبة السابقة في البرلمان الأوروبي عن حزب الخضر، ماري كريستين أولاس فور، جزائرية المولد، شهادتها عن قتل فلاحين من سكان حيّها آنذاك، أثناء فترة الحرب، بطريقة "الابتسامة القبائلية"، أي الذبح من الأذن إلى الأذن. شكل الذبح الهلالي ما يوحي بابتسامة العنق، مع تكثف هذه الظاهرة حسب الشهادات في منطقة "القبايل"، وربما إلى هذا تعود التسمية التي استثمرت ماكينة البروباغندا الفرنسية جيداً في الترويج لها.

أيضاً، في رواية "أنا، حسن،حركي، مقيد، مذبوح"، يتناول الكاتب تيري رولي، في ما يشبه المذكرات لأحد الحركيين، مثل هذه الحوادث، ويقول إنها استهدفت الحركية بصفة خاصة، كعقاب على ما يعتبره "الفلاقة" (التسمية التي استعملها السكان لوصف المقاومين، واتخذت في البدء بعداً سلبياً لارتباطها بالعنف لكنها لاحقاً صارت مدعاة للفخر) خيانة.

في الطرف المقابل، يتحدث الرقيب "نوال فافرليار" في روايته "الصحراء في الفجر" Le désert à l'aube (1966)، عن جرائم حرب ارتكبتها القوات الخاصة الفرنسية تجاه المعتقلين من الأبرياء وأسرى الحرب، ما دفعته للهرب من الخدمة العسكرية والالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني ALN (الجناح العسكري لجبهة التحرير الوطني).

تختزن الذاكرة الشعبية الجزائرية الكثير من الفظاعات التي ارتكبتها القوات المستعمِرة، وأيضاً المستوطنون الفرنسيون، ضد أبرياء ومدنيين خاصة في الأيام الأخيرة قبل إعلان الاستقلال.

تتضارب الروايات، والتي يطغى عليها الجانب العاطفي النوستالجي، ما يقلص من مصداقية كل منها. لكنّها تبقى مادة تاريخية قد تدعم وقائع ما سيُظهره البحث في الأرشيفات التي تعد السلطات الفرنسية بإطلاقها مستقبلاً.

لا يمكن كتابة تاريخ على قاعدة وثائق دولة حصراً، دون اعتبار ما جاء روايات مختلفة، وإلا سيكون تاريخ السلطة وعبره ستتسرّب ألاعيب السياسة. وأمام الترسانة الأكاديمية الفرنسية، يجب على النخب الجزائرية المسارعة إلى فتح ملف دفاتر الحرب وإزاحة لحافها المقدس قبل أن تباشر النخب الفرنسية في كتابة روايتها الكاملة عمّا جرى.

رغم الإجحاف الفرنسي والإفراط في التقديس من جانب النخبة السياسية الجزائرية، تبقى حرب الجزائر أم الملاحم عن جدارة. أغوت ثورة التحرير قلوب العديد من المناضلين الأميين آنذاك بدءاً بفرانز فانون، الطبيب النفسي والكاتب الذي تعود أصوله إلى جزر المارتينيك، والمناضل ضد العنصرية في إفريقيا، والذي ترك رخاء الوظيفة في فرنسا حيث درس وعمل، ليتجه نحو الجزائر ويلتحق بصفوف الثورة مع جبهة التحرير سنة 1957 ويعمل في صحيفة المقاومة، "المجاهد" Elmoudjahid.

وبلغ صدى حرب التحرير أطراف المحيط الهادئ. احتفى الأيقونة الفييتنامية "هو شي منه" بزيارة وفد من جيش التحرير الوطني سنة 1958. كذلك سحرت الـ Guerilla (حرب العصابات) الجزائرية العديد من الأمميين فاعترف فيدال كاسترو بالحكومة الانتقالية الجزائرية سنة 1961 وقدّم لها الدعم السياسي والمالي، بالإضافة إلى إشادة تشي غيفارا ورفاقه بالمجهودات التحررية للجزائريين، مع إرسال محاربين من أمريكا اللاتينية واستقبال جرحى جزائريين. وزارا غيفارا الجزائر واستقبله هواري بومدين، أحد رموز ثورة التحرير، لإلقاء آخر خطاب علني دولي له في 24 شباط/ فبراير 1965.

في السنة الدراسية 2006-2007، أصدرت الحكومتان الفرنسية والألمانية كتاباً مدرسياً للتاريخ المشترك بين البلدين. أما في الضفة الجنوبية، فما تزال الكثير من المسائل التاريخية عالقة بين الجزائر وفرنسا وخاصة قضية "الاعتذار" الذي تستثمره الطبقة السياسية في البلدين.

خمسة مليارات يورو هي قيمة الصادرات الفرنسية إلى الجزائر، تاريخ مشترك يمتد إلى 200 عام تقريباً، مع أكثر من مليوني جزائري على الأراضي الفرنسية عدا مزدوجي الجنسية والمهاجرين غير النظاميين: كل هذه العوامل تدعو إلى حل الخلافات التاريخية العالقة بين البلدين حتى يتسنى للشعبين بدء صفحة جديدة وقطع طريق الاستثمار في الخلافات أمام التيارات اليمينية المتطرفة في البلدين، والتي اشتدت سطوتها مع الطوفان الشعبوي الذي يغزو أوروبا في السنوات الأخيرة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard