كانت تجربتي الأولى ممتعة في اجتياز حدود كانت ممنوعة، بل أكثر من ذلك لم يكن مجرد عبور من منطقة جغرافية يفصلها عن أخرى حدٌّ رسمته جغرافية وهمية، تماماً كما هي الحدود التي تمنعنا من ممارسة الكثير من أمور حياتنا المنتهكة الخصوصية، والتي اخترقتها ألف رصاصة عن سابق إصرار وترصد.
في 2014 حدثت معي تجربة كانت نقطة تحول في حياتي. حين قررت أنا وصديقتي الصحافية المحترفة في إعداد التقارير لبعض المواقع الالكترونية، والناشطة المدنية، أن نجتاز الحدود بين سوريا وتركيا، وتحديداً في منطقة الشريط الحدودي بمناطق الإدارة الذاتية الكردية. لم تكن الحدود بهذا التشدد والخطورة حينها، فيكفي أن تتواصل مع مُهرب وتدفع له مئتي دولار لتتمكن من العبور لتركيا. وهذا لا يعني أن القصة تنتهي بسهولة، فالمخاوف من التعرض لطلقة رصاص أو اعتقال أو العودة دون السماح بالعبور كانت واردة.
لكن بعد عناء يوم وليلة في نقطة عسكرية حين تم القبض علينا لأننا فشلنا في الاستمرار بالركض واجتياز المنطقة المراقبة بسرعة. لا أعرف بالضبط لماذا لم ينتابني الخوف ونحن في غرفة الاستجواب؟ بعد أن أمضينا ليلتنا الأولى في العراء، وليلتنا الثانية في غرفة بثكنة عسكرية تخلو تماماً من النساء، إلا أنا وصديقتي وشابةٌ أخرى برفقة زوجها.
اللافت هو المترجم الكردي، الذي استجوبنا أمام الضابط التركي وهو يسأل بشك: "تريدين أن نصدق سبب مخاطرتكما، وأنت أم لأربعة أطفال بأنك قدمت مع فتاة عزباء الى تركيا مجتازة الحدود، فقط لإعداد تقرير صحافي وحضور تدريب؟" .
مختصر القصة إنني كنت سعيدة باجتياز الكثير من الحدود بعدها، وكانت تجربة ثرية بالتجارب التي جعلتني اكتشفت لاحقاً أننا معشر النساء قادرات على تخطي الكثير من الممنوعات والحدود الوهمية التي تعيق تطورنا والاستمتاع بحياتنا وتحد من حريتنا.
نحن نعيش حياتنا كنساء، في محاولات كثيرة للخروج من قفص التابوهات، واختلاس الفرص للتهرب من ملاحقة الكم الهائل من الممنوعات التي تنهال علينا من كل المحيطين بنا بذريعة الوصاية، وتحت مسميات عديدة، وسوط العنف المتشدق يجلدنا، وهم لا يزالون يتفاخرون به ويمارسونه ليلاً ونهاراً.
هذا العنف البعيد عن الممنوع، الموجود في كل شيء يخصنا، ولا رادع له، نساء يُقتلن بلا رحمة، وأطفال يرمون في النهر، وحرائق وثورات وحروب لا يردعها أي قانون ولا يمنعها أي ممنوع ولا يردعها أي دين.
بالإضافة إلى الممنوعات التي أثقلت كاهلنا ونغصت حياتنا وتلازمنا كظلنا، مرة باسم الأهل بذريعة الخوف والعيب، ومرة باسم الدين بذريعة الحلال والحرام، وأخرى باسم العادات التي تجيز ولا تجيز. وبالنهاية تمنعنا من أن نحيا "الحياة كاملة"، نعم تحيا نساء وهن يعشن الموت كل يوم.
نحن نعيش حياتنا كنساء، في محاولات كثيرة للخروج من قفص التابوهات، واختلاس الفرص للتهرب من ملاحقة الكم الهائل من الممنوعات التي تنهال علينا من كل المحيطين بنا بذريعة الوصاية
قبل يومين قرأت عبارة مؤثرة باللغة الألمانية، على ورقة نعي لرجل نمساوي مات في الثمانين من عمره:
"الآن لم أعد موجوداً في هذه الحياة، ولكني عشتها فعلاً".
أتساءل هنا هل نحن بالفعل عشناها، هل كان لنا أن ننعم بفرصة الحياة على هذه الأرض لولا أن أبانا آدم أكل من التفاحة المحرمة وارتكب المعصية وخالف المفروض؟
أهي حياة النساء، المترافقة بالبؤس والقمع، أم هو الانتماء لمجتمعات ما زالت تأكل وتشرب من منابع التخلف الاجتماعي، فمجرد التفكير بطريقة مختلفة، ومحاولة لإحداث التغيير أو كسر القيود، وممارسة إنسانيتنا المشروعة، كافية لتنهال علينا الاتهامات والشتائم والصفات السيئة، واستلاب الحقوق أضعافاً مضاعفة مقارنة بالرجال الذكوريين في مجتمعاتنا المشبعة بالتخلف والجهل والفقر والحروب والقمع.
ضقنا ذرعاً ونحن نحاول التخلص من هذه الممنوعات، التي تخنقنا وتسبب لنا إعاقات شتى. نحاول بأقصى ما نملك من صبر وقوة لنخوض تجاربنا الخاصة، ونحرر مشاعرنا من القمع ونخلع الرضا المزيف، ونحاول أن نسلك طريقاً مغايراً لما كان مرسوماً من قبل أجيال سبقتنا، فلنعلن أن هذه الممنوعات لم تعد تناسبنا بتاتاً.
ورد في كتاب التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور لمصطفى حجازي: "الحب التملكي، ففيه يمتلك الأب، الأم والأولاد، يحميهم ويؤمن احتياجاتهم، ولكنه يقرر مصيرهم وتوجهاتهم الحياتية. والأم تحب أبناءها وترعاهم بشكل تملكي، فهي تتفانى في خدمتهم وتقدم نفسها وعطاءها دون تحفظ، شريطة أن تحتفظ بسيطرة خفية عليهم، سيطرة الحب إنها تقيدهم بواجب الوفاء، ومن خصائص الحب التملكي التساهل في كل شيء ما عدا الرغبة في الاستقلال والتوجه نحو التفرد".
نحن هو ذاك المقهور، نعم مجتمعنا الذي تتولى فيه الذكورية أدوار الإرشاد والقوامة على المرأة خاصة، وتحرمها من خوض تجارب كثيرة، وتفاصيل تبدو مجهولة تجذبنا بلمسة سحر خفية، فنكتشف خساراتنا لأننا كنا مخدوعات بالكثير من الممنوعات والقوالب الزائفة التي لا أساس لها من الصحة.
طفولة بألوان وألعاب وطريقة وملابس محددة، ومراهقة بدت مرعبة في بيئاتنا التي يكتنفها الخوف والكبت، وتنهال الممنوعات لنفرز في مدارس خاصة بالإناث، ونمنع من الكثير مما هو مسموح لأقراننا الذكور. لا يزال ركوب الدراجة حلماً يراودني وأنا في الأربعين، وارتداء الملابس القصيرة وارتياد المسابح والضحك بصوت عالٍ، والتحدث عن الحب والجنس، والتعبير عن مشاعري بصراحة، وخوض تجربة الحب التي لا تزال تمارس خفية، والدورة الشهرية الزائر المريب بحضوره، أتذكر كيف كانت تتم عملية شراء كيس الفوط النسائية وكأنها عملية تهريب لكيس من المخدرات.
هنالك أمور كثيرة، البعض منها يضحكني وأنا أتذكرها، كيف سلبت منا أوقاتاً كنا أحوج فيها للسعادة والحرية واختبار كل شيء.
وحتى الحياة الزوجية كنا ندخلها، ونحن نرتدي ثوب الخوف من خوض التجربة الجنسية الأولى، إنها تبدو أقرب لعملية الاغتصاب، الشعور المريب بالوصمة والعار ونحن نمارس ما كان محرماً الاقتراب منه أو التحدث عن تفاصيله، لنكتشف أننا كنا نحتاج لدورة في محو الأمية في الجنس والعلاقات الزوجية.
قرأت عبارة مؤثرة باللغة الألمانية، على ورقة نعي لرجل نمساوي مات في الثمانين من عمره: "الآن لم أعد موجوداً في هذه الحياة، ولكني عشتها فعلاً". أتساءل هنا، هل نحن النساء بالفعل عشناها؟
حدثتني صديقتي الكردية السورية التي تعيش في ألمانيا عن تجربتها الخاصة بالزواج، قالت: "تعرفت على رجل من الجنسية الألمانية، وعشت معه تجربة حب خارجة عن العادات والتقاليد، بل مخالفة للدين الإسلامي، وبالرغم من أنني لم أكن صغيرة وتجاوزت العقد الثالث من عمري، لم أحصل على موافقة عائلتي الكردية المسلمة إلا بعد عناء ومشقة".
ما حدث معها في ليلة الدخلة هو إنها بعد سنتين من علاقة الحب تجنبت فيها خوض الحميمية الجنسية، عجزت تماماً عن ممارسة الجنس معه ثلاثة أشهر بالرغم من أن القران تم بعقد زواج شرعي وقانوني، واضطرت للذهاب إلى طبيبة معالجة نفسية للتخلص من "مشكلتها".
وحين سألتها عن سبب ما حدث، قالت: "كان الشعور بالعار يلاحقني والخوف من الألم النفسي متغلغلاً في جسدي، ارتبطت بذاكرتي شوائب العادات والممنوعات، وأعاقتني عن ممارسة الجنس".
تصوروا حتى في غرف النوم ذات الخصوصية تلاحقنا الممنوعات والمحرمات، ما يجوز له وما لا يجوز لها من سلوكيات ومبادرات وأحاديث وتفاصيل خاصة.
هل نبقي رغباتنا وتفضيلاتنا طوال حياتنا طي الكتمان؟ أم نتظاهر بالرضا والرضوخ للقوانين المجتمعية المزاجية والمحرمات التي تحيط بكل زوايا حياتنا في الأكل والشرب والمشاعر والطقوس الدينية والتوجهات السياسية وحتى بمظهرنا الخارجي؟ أم أن ممارسة النساء للحرية الشخصية تعتبر تفكيكاً للعقلية السلطوية التي تبدو للكثيرين بأنها تنهار أو مهددة بالزوال.
أي كائن هذا الذي يحق له التدخل في تفاصيل يومنا ونومنا، مأكلنا ومشربنا، صلاتنا وصيامنا، ملابسنا وشركاء حياتنا. اتركونا نختبر لذة الفشل وجمال المحاولة.
إلى متى سيستمر هذا الخوف من وضع أيدينا على جراحنا، والتلويح بالصوت عالياً: كفانا قمعاً وتعنيفاً، قوانينكم أصبحت رثة، لا تقي من شر ولا تحمي من برد وجوع، إنها لم تعد تناسبنا، وها هي مجتمعاتكم التي ننتمي إليها انهارت فوق رؤوس الجميع، وممنوعاتكم تشهد على ما حدث ولا يزال يحدث.
اتركونا، نحاول أن نعيش الحياة كما نريد لأنفسنا، دعونا نقرر ما يناسبنا، حياتنا ملك لنا وليست هبة من أحد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.