شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"نصف المجتمع سيهاجر والباقي مجنون"... موجات من الاكتئاب تهزّ الجزائر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 26 مايو 202105:12 م

"ما الذي يجعلك تكتئبين؟"

ضحكت بصوت عالٍ وأجابت: "ما الذي لا يجعلك تكتئبين في الجزائر؟"

هكذا ردّت صبرينة (35 عاماً) على سؤالي بنبرة ساخرة، وهي تنظر بعيداً حيث الكثير من المعاناة، والخيبة، والتعب النفسي.

لم تنتظر أن أطلب منها توضيحاً كي تستفيض في شرح ما يختلجها من وجع: "العاقل وسط المجانين يُحكم عليه بالجنون، أن تكوني امرأة جزائرية، وتقرّري أن تختاري ما يصلح لك، بدلاً من أن تكرري خيارات الآخرين، فذلك هو الشذوذ بعينه في هذا المجتمع".

مكتئبات وهستيريات

النساء اعتدن العيش تحت الضغط المجتمعي، بحسب صبرينة، ولهذا يقمن بنفس الخيارات التقليدية، التي لا تنجم في الغالب عن قناعة شخصية بقدر ما تكون محاولة للدخول في قالب عام وضعه المجتمع.

أما من تتردد في القيام بذلك، فتكون حسب المجتمع امرأة غريبة الأطوار، وأنانية، وغير صالحة، وهو ما يسبب الاكتئاب، حسب صبرينة، لمعظم النساء: "المرأة الجزائرية مكتئبة لأنها غير مقتنعة بما تفعله، فهي قد تتزوج فقط لتجنب وصمة "العنوسة"، وقد تتحمّل زوجاً تنفر منه كي لا تكون امرأة مطلّقة، وتنجب الأولاد كي لا يقال إنها عاقر، وتبقى لسنوات طويلة تمنيّ نفسها بحياة أفضل إلى أن يكبر أولادها، ويردّوا لها الجميل، وهي أكبر كذبة ألفّها المجتمع الجزائري، وأقنع بها الجزائريات اللواتي سرعان ما يكتشفن بعد فوات الأوان أن أجمل سنين عمرهن قد ولّت دون رجعة، فتجدهن إما مكتئبات أو هستيريات".

"المجتمع يدفعني لأن أستغل بعض الفتيات الهاربات من بيوتهن، خوفاً من العنف الأسري، كي أسرق قليلاً من البهجة تنقلب إلى كآبة لاحقاً"

غير أن صبرينة لم تجد الحل هي الأخرى في الخروج من حالة الاكتئاب، فرغم إصرارها على اختيار الحياة التي تريدها، لم تنجح في أن تجد السبيل إلى البهجة والاستمتاع بما تفعله، تقول لرصيف22: "المشكلة أن الخيارات محدودة لأن الجو العام ضاغط جداً، ويجعلني قلقة وخائفة طول الوقت، فأنا أعيش في مجتمع مشحون بالحقد والكره تجاه المرأة عموماً، فما بالك إذا كانت امرأة عزباء تعيش بمفردها كما أفعل".

"الحمد لله"

الإحساس بعدم الأمان والخوف من المستقبل عامل مشترك بين الكثير من الجزائريين، بما في ذلك المرتاحون مادياً، يقول سليم (40 عاماً) موظف في شركة فرنسية بالجزائر، وأب لطفلين: "الحمد لله على كل ما وصلت إليه، لكن هناك إحساساً دائماً أن هناك ما ينقصني. بعد أن أصبح لي أولاد، زاد هذا الشعور عندي، وأصبحت قلقاً على مستقبلهم".

ويشرح سليم تفاصيل الحياة التي تجعله حزيناً من أجل أولاده، خاصة حين يمعن النظر في كل ما يحيط بهم، بحسبه فإن كل الجزائريين عرضة للاكتئاب، يقول: "الأطفال مصابون بالشيخوخة، فهم لا يلعبون كما كنا نلعب ونحن صغار، تجدهم جالسين وممسكين بتلك الهواتف النقالة لساعات، أما الكبار فتحسهم جثثاً متنقلّة دون روح، من يبلغ سن الخمسين في الجزائر يشعر بأن حياته قد انتهت".

يُرجع سليم أسباب الاكتئاب إلى ضعف الخدمات، بما في ذلك وسائل النقل، فمن لا يملك سيارة لا يمكنه أن يلتحق بقاعات الرياضة، والنوادي، والذهاب إلى المسرح أو الأوبرا، وهو للأسف حال الكثير من الجزائريين الذين يجدون أنفسهم منعزلين عن جو الحياة المرحة والنشاطات الثقافية والأدبية والفنية.

ورغم أن سليم يعتبر نفسه من الطبقة "المرتاحة" مادياً يكتئب كثيراً، ويفكّر مثل الكثير من الجزائريين في الهجرة إلى الخارج.

"أطفال اليوم يحملون نفس المشاكل النفسية التي حملها آباؤهم، لأن العادات هي نفسها، لا بد أن نستوعب خطورة ما يحدث معنا وإلا فنصف المجتمع سيهاجر، والنصف المتبقي سيصيبه الجنون"

أمّا عن دوافع هذا الخيار، فيقول لرصيف22: "أعتقد أن الجزائر عاجزة أن تمنحني أكثر مما منحتني إياه حتى الآن، حياتي هنا شبيهة بمادة اقتربت نهاية صلاحيتها، لقد عشت كل شيء هنا، والقادم من سنوات عمري لن يكون إلا إعادة تدوير لحياتي السابقة، لهذا أفضل الرحيل بعيداً كي أعيش تجارب جديدة، علّني أجد متعة الحياة من جديد، قد أعود في سنوات تقاعدي للجزائر كي أشتري منزلاً هادئاً في أعالي الجبال، وأنعم بالهدوء والسلام في نهاية حياتي".

لكن لينا، (36 عاماً)، موظفة بإحدى الأجهزة الحكومية، لا تجد مكاناً للهدوء والسلام في الجزائر. تفكر بالهجرة، وترى أنها الحل الوحيد للمرأة في الجزائر، تقول: "لا أدري كيف تحمّلت هذا الوضع طوال هذه السنوات، أصحابي كلهم هاجروا، بما في ذلك البرجوازيون وأبناء العائلات الكبيرة، أما أنا فأبي كان يبيع لي الوهم والشعارات الوطنية، إلى أن ضاعت أجمل سنوات حياتي في الخوف والقلق والاكتئاب. أندم كثيراً على غبائي وسذاجتي لبقائي هنا كل هذه السنين".

وتخبر لينا رصيف22 أن هجرتها للخارج ليست مجرّد مشروع فتاة تطمح إلى الانطلاق والحريّة فقط، وإنما هو قرار لاجئ يخاف على حياته وسلامته الجسدية والنفسية، ويحلم بمستقبل أكثر أماناً وعدلاً، تضيف: "كوني امرأة يجعل مني ضحية في كل لحظة، في السيارة، في العمل، في الحي، في نظرات الناس الحاقدة والكارهة، الكل يتفلسف عليك، ويلومك، ويعطيك الدروس فقط لكونك امرأة، لكن لا أحد يحميك إذا ما تعرضت للأذى".

تلفت لينا النظر أيضاً إلى انسداد أفق تغيير وضعها، فما من شيء يمكن أن تقوم به لتنال أبسط حقوقها، تقول: "أذكر يوم تهجّم عليّ أحدهم أمام الجميع وأنا في سيارتي، ولم يتدخّل عابر لإيقافه، ذهبت بعد ذلك إلى مركز الشرطة، وبلّغت عنه، وزودته رقم السيارة وتفاصيلها، رغم ذلك لم يحدث شيء، عادي، هذا مصير النساء في الجزائر".

كيف أعيش حياة مبهجة؟

رياض، (42 سنة) صاحب وكالة عقارية، يدرك أن اكتئاب المرأة في الجزائر بسبب الضغوط المجتمعية، هو أيضاً سبب اكتئاب الرجل، فالمجتمع يقوم على الجنسين.

ومحاولة إقامة نظام اجتماعي يعطي الحرية للرجل، ويستعبد المرأة هو مشروع فاشل ينتج مواطنين معقدّين نفسياً، يقول: "لا يمكنني أن أستمتع في حياتي دون إسعاد المرأة التي معي، فكيف لي أن أعيش حياة مرحة وبهيجة، إذا كنت لا أستطيع مشاركتها مع من أحب؟"

ويضيف: "المجتمع بهذه الطريقة يدفعني لأن أستغل بعض الفتيات الهاربات من بيوتهن، خوفاً من العنف الأسري، وبحثاً عن قليل من السعادة اللحظية كي أسرق بدوري قليلاً من البهجة التي تنقلب إلى كآبة لاحقاً".

يصرّ رياض على أن النظام المجتمعي هو من يجعل الرجل جلاداً والمرأة ضحية، ويصنع من الرجال والنساء مرضى نفسيين، وأن حلقة الاكتئاب مستمرة في الجزائر ما دامت الأمور على حالها، يقول: "أطفال اليوم يحملون نفس المشاكل النفسية التي حملها آباؤهم، لأنهم يتربون على نفس العادات، والأعراف، والنفاق، وعدم التوازن، لا بد أن نستوعب خطورة ما يحدث معنا وإلا فنصف المجتمع سيهاجر، والنصف المتبقي سيصيبه الجنون".

وحسب دراسات فإن نسبة المرضى بالاكتئاب والاضطرابات النفسية ليست بالقليلة، بعض التقارير تشير إلى معاناة أكثر من نصف الشعب الجزائري، يرجعها البعض إلى مخلّفات العشرية السوداء، إلاّ أن من تحدثوا إلى رصيف22 قالوا إن الأمر يتعدى إرهاب التسعينيات إلى الهوّة الشاسعة، التي تفصل طموحات الجزائري عن الواقع الذي يعيشه، ليس فقط من الناحيتين الاقتصادية والأمنية، ولكن كذلك ثقافياً وفنياً وروحياً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image