يقترن قهر الرجل للمرأة في مخيال الفرد الجزائري بصورة نمطية عن المرأة الماكثة في البيت، التي لم تدرس بما فيه الكفاية لتتحرر فكرياً من هيمنة المجتمع، بتقاليده وأعرافه المجحفة، وكذلك المرأة غير العاملة التابعة مادياً واقتصادياً لأبيها أو أخيها أو زوجها، ممّا يجعلها عاجزة عن التمرّد أو الخروج عن عباءة "وليّ نعمتها" الذي ينفق عليها.
إلّا أن التغلغل في أوساط العمل بين الإدارات والمؤسسات والمدارس والجامعات يثبت أن هذه الصورة النمطية عن المرأة المقهورة غير مقتصرة على ربات البيوت، وغير العاملات، بل تمتد إلى النساء العاملات اللواتي يحملن شهادات عليا، لكنهن كثيراً ما يرضخن للتعسف الرجالي داخل العمل من اختراق للقوانين، وهضم للحقوق، وتحرّش، ومساومات أخرى.
نزعة الخضوع
تلاحظ هدى (وهي دكتورة وأكاديمية بإحدى كليات العاصمة الجزائرية)، ما تسميه "نزعة الخضوع" في سلوك زميلاتها من الأستاذات الجامعيات، وترفضها، تقول لرصيف22: "الشهادة ليست معياراً (كما يشاع) للمرأة المتحررة، هناك الكثير من زميلاتي الجامعيات هن أكثر خنوعاً أحياناً من المرأة التي لم تكمل تعليمها".
ولاحظت هدى أيضاً أنّ كل المناصب الإدارية العليا مسندة للرجال، وحتى المجلس العلمي للكلية مشكّل منهم، تقول: "أتذكر صدمتي حين رأيت قائمة المترشحين لمناصب المجلس العلمي للكلية، كانوا كلهم رجالاً، لقد علّقت يومها على غرابة الموقف في مجموعة أساتذة الكلية على الواتس آب، ولم تجبني ولا واحدة من زميلاتي صاحبات الخبرة والعلم الكثير".
"كانت نظرات المديرين المركزيين تحكي الكثير عن رغباتهم المكبوتة... يقمعون زوجاتهم ويشتهون الحصول على امرأة متحررة في العمل، ويقومون بتصرفات بذيئة، وغير محترمة"
"شهادة الدكتوراه دليل تفوق علمي في أحد التخصصات لكنها لا تدلّ بتاتاً على أن الحاصلة على الدكتوراه قد تحررت من عقدة النقص تجاه الرجل"، على حد تعبير هدى.
لا يقتصر الأمر في الجامعات على المناصب العليا، والإدارية، ولكن في تخصيص المهام، توكل إلى المرأة أطولها مدة، وأثقلها عبئاً، تقول: "جداول مراقبة الامتحانات والمداولات عنوان لاستعباد النساء، إلاّ إذا ما ربطتكِ بأحد المسؤولين علاقة جيّدة (مفهوم الجودة طبعاً يختلف من مسؤول لآخر). مجرّد إلقاء نظرة على الجداول يبيّن التفاوت بين ساعات العمل بين الجنسين أثناء هذه المهمّات، وحتى حينما نراقب امتحانات الطلبة في مدرّج كبير، يتجمع الأساتذة في حلقة مصغّرة للتسامر، بينما تقوم الأستاذات بالمراقبة، وعدّ الأوراق، ومتابعة توقيعات الطلبة، وغيرها من الأمور المتعارف عليها".
علقت هدى مرة على سلوك زميل لها، تراه عنصرياً حيال المرأة، فأجابتها أستاذة جامعية زميلة: "هو يتخيّلك زوجته التي تخدمه في المنزل".
"خفت أبدأ وظيفتي بمشاكل"
أمل (36 عاماً)، هي الأخرى موظفة بأحد أجهزة الدولة، تتمتع بجمال وجاذبية، وحاصلة على شهادة تعليم عالٍ، تذكر لرصيف22 كيف عاشت شهورها الأولى في الوظيفة الحكومية: "كانت نظرات المديرين المركزيين تحكي الكثير عن رغباتهم المكبوتة، رغم أنهم من عائلات محافظة، وزوجاتهم لا يغادرن البيوت تقريباً، إنهم يقمعون زوجاتهم ويشتهون الحصول على امرأة متحررة في العمل، ويقومون بتصرفات بذيئة، وغير محترمة".
تتذكر أمل كيف أن أحد هؤلاء كان يلحّ عليها وعلى زميلتها أن تدعواه إلى الغداء بأحد المطاعم، ولما أخبرته بأنها ستشتري له الغداء، وتحضره ما دام مصمّماً، قال لها: "أنا لدي جوع من نوع آخر".
كما تذكر واقعة أخرى مع مدير آخر جاء صباحاً ليصافحها، تاركاً في يدها ورقة صغيرة مكتوب عليها رقم هاتفه.
في اليوم التالي، أخبرت أمل زميلها بما حدث معها أمس، فشجعّها على كتابة تقرير عن حيثيات الموضوع لأنه يدخل في إطار التحرّش، لكنها لم تفعل ذلك. تقول: "كنت قد توظّفت حديثاً، لم أكن مرسَّمة "مثبّتة" وقتها، وخفت أن أبدأ مسيرتي المهنية بهذه المشاكل والصِّدامات".
"انظري إلى لباسك"
يعوّل بعض الذكور في أوساط العمل على خوف النساء من المواجهات والصراعات التي قد تمسّ سمعتهن أو تعطي انطباعاً سيئاً عنهن، وعن جديّتهن في العمل، كما يعولّون في كثير من الأحيان على "حليفاتهم"، اللواتي يشاركهن نفس النظرة الدونية للمرأة، وهو ما حدث مع نورا (37 عاماً)، أستاذة بإحدى المدارس المتوسطة بالجزائر العاصمة. تقول لرصيف22: "أذكر أن الخلاف يومها كان مهنياً حول قضية الإضراب، ومشاكل العمل، وكان هناك اختلاف حاد في وجهات النظر، وفجأة حوّل زميل لي النقاش إلى إهانات شخصية، فصرخ بوجهي محاولاً تحقيري أمام الآخرين: "أنظري إلى لباسك أوّلاً" في غرفة الاجتماعات".
علقت هدى مرة على سلوك زميل لها، تراه عنصرياً حيال المرأة، فأجابتها أستاذة جامعية زميلة: "هو يتخيّلك زوجته التي تخدمه في المنزل"
لم تسكت نورا، ودافعت عن نفسها، فتحولت لهجته إلى العنف، وهدد بضربها أمام الآخرين الذين أمسكوا به، بينما واصل هو تهديده، كأنه "في مشهد مسرحي ذكوري".
قررت نورا أن تنتصر لكرامتها بالقانون، وأول ما قامت به هو كتابة تقرير ضد الشخص المعني، كما طلبت ممن شهدوا على الاعتداء التوقيع معها على التقرير، وهنا كانت الصدمة، تقول: "لم يرض رجل واحد منهم أن يوقّع على التقرير تضامناً مع زميلهم، وهو أمر كنت أنتظره لأني أعرف تضامن الذكور فيما بينهم حينما يتعلّق الأمر بخلاف مع المرأة، لكن الصدمة جاءت من بعض زميلاتي اللواتي رفضن كذلك التوقيع، متحججات بعدم إلمامهن بالموضوع وتجنّب شهادة الزور".
وتضيف: "ما زاد الطين بلّة موقف المديرة التي قامت بكل ما بوسعها كي تمنع التقرير من الوصول إلى الجهة الوصيّة حفاظاً على سمعة مؤسستها، حتى والدي يومها بعد أن علم بالموضوع لم يتحمّس كثيراً لتصعيد القضية إلى الجهة الوصيّة، وطلب مني تهدئة الأمور، والاكتفاء بالمصالحة داخل المؤسسة".
تجنّب المشاكل
قضية استغلال المرأة العاملة وإهانتها وهضم حقوقها لا تقتضي حلاّ قانونياً فقط، لأن المواد القانونية التي تحمي المرأة العاملة موجودة، ويمكن تفعيلها إذا ما لجأت صاحبة الحق لذلك، غير أن الإشكال الحقيقي يكمن في المعتقد المجتمعي السائد عند نساء ورجال، بأن المرأة خُلقت كي تتحمل المصاعب، ولا خيار أمامها سوى الرضوخ، وتجنّب المشاكل قدر المستطاع، و"الانحناء حتى تمرّ العواصف بسلام"، وهو ما حدث مع كوثر (37 عاماً) التي تعمل بإحدى الشركات الخاصة بالجزائر.
تحكي كوثر لرصيف22 أزمتها مع مديرها في العمل بسبب عطلة الأمومة، إذ بعدما علم هذا الأخير بحملها (هي واثنتان من زميلاتها بنفس الشركة) استشاط غضباً، وأطلق العنان لخطاب تحقيري كاره للمرأة: "لو عاد لي الأمر، لما وظّفت امرأة، لا تعرفن سوى الإنجاب وتعطيل العمل، بسببكن أنا مضطر للبحث عن مستخلفين، أنتن عبء على الاقتصاد، ناهيك بأزماتكن العاطفية ومشاكلكن الهرمونية، كائنات مزاجية تشتكي طول الوقت".
عاتبت كوثر المدير على الطريقة التي صاغ بها خطابه، لكنه تمسّك، حسب ما ترويه، بجوهر فكرته، وباقتناعه أن النساء لا يصلحن للعمل في الشركات الاقتصادية الهامة، ولم يحدث شيء.
وتتداول صحف ومنصات رقمية بين الحين والآخر المعدلات المرتفعة لتعليم المرأة، فبحسب تصريح مسؤول حكومي كانت نسبة تعليم المرأة 21.2% بين عامي 1963/1962، في حين ارتفعت عام 2017 إلى 62.5% من عدد الطلبة المسجلين، أما فيما يخص الدراسات التحضيرية لشهادة الدكتوراه فالنساء يمثلن 52.5% من عدد الطلبة، ومن أصل 60.000 مدرس جامعي من مختلف الرتب تمثل النساء نسبة 47%.
ولكن القهر والظلم الواقعين على المرأة العاملة المتعلّمة في الجزائر لا يقلاّن عنفاً وإهانة عن قهر المرأة المحدودة المستوى التعليمي أو ربة البيت، ما دامت لم تتحررّ النساء من المعتقد الجمعي السائد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 5 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.