"عشان بعيد عن ربنا"، "قوم صلي لك ركعتين"... يربط بعض المصريين بين الإصابة بالاكتئاب، والذي قد يكون لأسباب فيزيولوجية، وبين "البعد عن الله"، ويصور بعض المشايخ المكتئب وكأنه يعاني من عقوبة إلهية، والحل في التقرب من الله.
ما يدفعنا لطرح تساؤل: هل عانى أشخاص متدينون من الاكتئاب، هل نجح التدين و"التقرب من الله" في الشفاء من هذا المرض؟
يقول محمد، شاب ثلاثيني ولد في أحد محافظات جنوب مصر، المتشددة اجتماعياً ودينياً، إنه لم يعش طفولة كالآخرين، بل اختبر تجارب نفسية قاسية، بدأت في سن السادسة بوفاة والدته ومعاملة زوجة أبيه السيئة، وظل حتى نهاية مراهقته يندمج مع منتمين لتيار ديني متشدد.
حرّم محمد الغناء على نفسه استماعاً وممارسة، كان يتحين كل فرصة للتقرب إلى الله، حتى أنه فكر في قطع عضوه الذكري حتى لا يعيقه عن الجنة.
"التقرب من الله لا يساعدني"
يوماً بعد يوم كانت الفجوة داخل روحه تزيد، ولم تشفع النصائح بزيادة قراءة القرآن والصلوات وغيرها، فازدادت معها حالته من الغضب والضيق والاختناق والتشنجات والعصبية الزائدة طوال الوقت، واضطرابات شديدة في النوم وكوابيس لا تنتهي، حتى وصلت للتفكير في الانتحار.
حرّم محمد الغناء على نفسه استماعاً وممارسة، كان يتحين كل فرصة للتقرب إلى الله، حتى أنه فكر في قطع عضوه الذكري حتى لا يعيقه عن الجنة، ولكن اضطراباته النفسية زادت، حتى وصلت إلى التفكير في الانتحار
يقول محمد: "فكرت أرمي نفسي في المية بس كنت أجبن من كده"، بمرور الأيام تعمّق الشاب الصعيدي في قراءات نقدية للدين، كما قرأ عن الأمراض النفسية وعلاجاتها، وتأكد أن التقرب من الله لم يساعده في العلاج نفسياً، مضيفاً أنه حتى حينما فكر في الذهاب إلى طبيب نفسي في قريته لم يكن ذلك ممكناً، فهذا النوع من الأطباء لم يكن متوفراً في قرى الصعيد ولا حتى مدنها، في التسعينيات من القرن الماضي.
"أنا مش طبيعية"
"كنت هقتل بنتي وأقتل نفسي معاها، حاولت أنتحر أكتر من مرة"، تحكي فريدة (اسم مستعار) شابة عشرينية، واختصرت كيف أنها جربت كل العلاجات الدينية لتتخطي نوبات الغضب، الصراخ والحالة النفسية السيئة التي مرت بها.
تقول فريدة: "صليت كتير وقرأت قرآن ودخلت جوامع وقرأت أذكار، لكن مفيش فايدة، محدش كان مقتنع إنه عندي مشكلة، حاسة أني مش طبيعية"، يختنق صوت فريدة وهي تصف كيف عاشت طفولة صعبة بين أبوين منفصلين تحرش خلالها زوج أمها بها، واضطرت للعيش مع خالتها التي لم تكن أماً جيدة. حُرمت من الاهتمام اللائق بها كطفلة حتى وصلت إلى سن الثامنة عشر، حينما اختبرت أول زواج لها وانتهى بالطلاق بعد اكتشافها خيانته لها، كل ذلك راكم داخلها ضغوطاً نفسية كبيرة لم تقو على تحملها. كانت دائمة الصراخ والبكاء والغضب، حتى أنها فقدت النطق لعدة أيام.
بعد ولادة طفلتها، ذهبت إلى طبيب نفسي بعد تزايد الاكتئاب وتفاقم الأعراض النفسية التي وصلت إلى حد محاولة الانتحار. العلاج النفسي ساعدها كثيراً، وبدأت في استعادة عافيتها، وذاقت النوم بعمق لأول مرة منذ سنوات طويلة، وعاد جسمها إلى الامتلاء بعدما فقدت كيلوغرامات عديدة.
اتصلت بدار الإفتاء تطلب منهم فتوى بسبب حالتها النفسية الصعبة عندما كانت ابنتها بعمر الـ 7 أشهر، كانت حاملاً بطفل آخر، ولم تقو وقتها على التحمل، وطلبت الإجهاض ورفض زوجها. أغلقت باب الغرفة عليها وظلت تكسر في كل شيء حولها، وقبل أن تنهي كل ذلك بقتل نفسها، أنقذها زوجها في اللحظة الأخيرة موافقاً على مواصلتها لعلاجها النفسي."
"المرض لا يُعالج بالدعوات"
"كنت صغيرة جداً، أعتبر نفسي طفلة وقتها، رغم أني كنت في مراهقتي متدينة جداً، فقد ولدتُ في عائلة سلفية، أرتدي النقاب وأؤدي كل الفروض والنوافل"، تقول هدير، اسم مستعار، شابة مصرية تتجاوز الخامسة والعشرين، وتحكي عن واقعة حدثت قبل عشر سنوات.
تضيف هدير لـرصيف22: "أجبرني أهلي على الزواج من رجل يكبرني بحوالي عشرين عاماً، رغم كوني طفلة، لاقتناعهم أن هذا هو الدين. عانيت كثيراً خلال طفولتي وخلال زواجي من اكتئاب شديد".
"طلب زوجي أن أزيد في صلاتي وصومي".
دخلت في حالة نفسية سيئة بعد وفاة أول طفل لها وفكرت في الانتحار، فذهب بها زوجها إلى طبيبة نفسية، ولكنها كانت متدينة، وطلبت منها أن تزيد في صلاتها وصومها وتتقرب من الله. وعلى مدار شهرين لم تترك فرضاً، وكانت تصوم وتقرأ القرآن كثيراً، لكن حالتها لم تتغير، تقول: "كلما كنت أصلي كنت أكتئب ويزداد حزني أكثر وأكثر لأن حالتي لم تكن تتحسن، أيقنت وقتها أن ما يحدث عبث".
ذهبت هدير إلى طبيب آخر وحينما بدأت في تعاطي أدوية للاكتئاب، تحسنت حالتها تدريجياً، وأيقنت أن المرض النفسي لا يمكن علاجه بالصلوات والدعوات.
"تعاملوا معي أني ملبوسة"
تأخذنا ميادة (اسم مستعار) شابة عشرينية، لما قبل أحداث ثورة 25 يناير، والتي شكلت حداً فاصلاً في حياتها. تقول إنها عاشت طفولة متدينة في أسرة سلفية الهوى، لكن في الثامنة عشر كانت تنتابها أعراض جسدية شديدة لم تتحملها، مثل ضيق تنفس وأرق لمدة 30 ساعة، ثم نوم لنفس المدة وضربات قلب سريعة، وكانت تشعر وكأن روحها تخرج من جسدها.
أيقنت أن هناك مشكلة نفسية تمر بها، لكن أهلها لم يروا الأمر كذلك وذهبوا بها في البداية إلى طبيب أمراض قلب، فأخبرهم أنها لا تعاني من أي مشكلة، ونصحهم بالذهاب إلى طبيب نفسي، لكنهم لم يستمعوا له.
تضيف ميادة: "قالولي وقتها قربي من ربنا وكل حاجة هتبقى كويسة إنتي يعني إيه اللي تاعبك، بتاكلي وبتشربي وعايشة كويس فين الأزمة؟!". انصاعت في البداية للتفسير العائلي، تقول: "لم يكن لدي خيار سوى أن أستشيخ، أصلي وأصوم وأقوم الليل، كل ذلك كان وسيلة لأتخفف من العبء النفسي الذي أشعر به".
"أصلي لأتخفف من العبء النفسي الذي أحسه".
الحالة لم تشفَ إلا عندما وجدت نفسها ضمن الملايين ممن شاركوا بثورة يناير 2011، مدفوعين بالأمل في التغيير، وفرحت بخلع رئيس الدولة وقتها عن منصبه، تقول: "بعدها تلاشى الاكتئاب تماماً، ولقيت إني مبسوطة وحاسة المستقبل أفضل".
بشكل غير واعٍ أوقفت الصلاة والصيام، وأدركت أنهم لا علاقة لهم بالتأثير في حالتها النفسية، سواء بشكل إيجابي أو سلبي، ولم يكن سوى ممارسة قهرية لا جدوى منها.
كانت ميادة محظوظة بشكل كاف حينما أدركت ضرورة أن تذهب بنفسها إلى طبيبة نفسية، استمعت لها وعرفت مشكلتها، وتحدثت الطبيبة مع عائلتها لتشرح لهم حالتها، لكنهم اعتبروا مرة أخرى أن ما تمر به ابنتهم اليافعة هو مجرد "دلع"، وبسبب الابتعاد عن الله أو تمرد على الواقع وعدم الرضا به.
وحينما كانت تنتابها نوبات غضب وصراخ من كثرة الضغط، كانوا يتعاملون معها أنها "ملبوسة" من الجان، ثم يقومون بتشغيل القرآن في البيت. كل هذه العوامل جعلتها تأخذ قرار الاستقلال عنهم.
"فقدت الرغبة في الحياة"
أما ندى (اسم مستعار)، 26 عاماً، من محافظة المنوفية، تعتبر نفسها "متدينة معتدلة"، ترتدي ملابس، تصفها بالـ"عادية": بلوزة، وبنطلون، وتؤدي الفروض الأساسية.
في طفولتها شهدت ندى وفاة والديها وحرمت منهما، وحينما كبرت وتزوج أشقاؤها، فضلت أن تقيم بمفردها في بيت العائلة عوض أن تسكن مع أحدهم وهي عزباء، لكن كانت حالة ندى النفسية لم تكن بالأفضل طوال هذه السنوات.
بحلول العام 2016 بدأت تأتيها حالة غريبة، تشنج وإغماءات متعددة تكز فيها على أسنانها، وفقدان للرغبة في الحياة واضطرابات في النوم، فتنام أياماً متواصلة، وأياما أخرى تقضيها دون ساعة نوم واحدة، فتسبب لها انهياراً في أعصابها، ونوبات صداع نصفي مزمنة، وصلت أنها في حوالي 4 أيام تناولت 20 حبة مسكن لتسكن الألم ولم يتوقف.
لجأت ندى بوازع روحاني منها إلى الجانب الديني، فكانت تصلي كثيراً وتقرأ القرآن وتشغل سورة البقرة بجوارها كل ليلة عند نومها، لكن لم يشفع كل ذلك في دحض كوابيسها ولم تزدها تلك المحاولات إلا سوءاً.
أخذت قراراً لبدء العلاج النفسي، واكتشفت أن الأمر له علاقة بتجارب نفسية قاسية وعنيفة مرت بها منذ طفولتها، كما أنها في وسط أصدقائها كانت أشبه بالإسفنجة، تمتص منهم مشاكلهم وتتعب بسببها وتستهلك طاقتها.
لماذا لا يعالج الدين الاضطرابات النفسية؟
نتائج المسح القومي للصحة النفسية لمصر في عام 2018، أكدت أن 1 من كل 4 أشخاص مصاب بنوع من الاضطرابات النفسية، أي أن 25% من المصريين يعانون من الأمراض النفسية، وتتنوع أعمار المصابين بين صغار وشباب وكبار السن. وبحسب تقرير عن منظمة الصحة العالمية في 2019، أكد أن مصر شهدت أعداداً كبيرة من المنتحرين عام 2016، وصلوا إلى 3799 حالة انتحار.
"التديّن الذي يروّج له رجال الدين خلق لدى الناس حالة نفسية غير سوية، جعلتهم يسكتون عن الظلم بدعوى الصبر، ويكبتون الاحتياجات الطبيعية"
نور أحمد، أخصائية ومعالجة نفسية قالت لرصيف22 إن بعض الاضطرابات النفسية تكون لأسباب بيولوجية، أي خلل في إفراز أنزيمات وهرمونات في الجسم، مثل الاكتئاب فهو ينتج عن نقص السيرتونين في الجسم، مؤكدة أنه مهما اقترب الإنسان وقتها من الله فلن يحدث أي تغيير في جسمه، لأن الجسم يحتاج إلى ضبط الخلل في كيمياء الدماغ.
وتضيف: "هنا يصبح دور الدين جانبياً، مثلاً المجنون يسقط عنه التكليف لأنه لن يستطيع ممارسة الروحانيات التي يعتقد الناس أنها ستحل المشكلات والاضطرابات النفسية، فالجنون نفسه مرض عقلي قد يصل إليه الإنسان نتيجة ضغوط نفسية".
أما داليا وصفي، الباحثة في العلوم الإنسانية، فترى أن الطبيعة البشرية لا ترضى القبول بالواقع، وأن "التدين بشكله الحالي في مصر وعدد من الدول الإسلامية ليس حقيقياً، وأصبح يحمل صوراً شكلية ومتطرفة ويتم استخدامه من السلطة".
وتدلل وصفي على ذلك بأن "الدين الإسلامي مثلاً يطلب من البشر السعي ورد الظلم والوقوف بجانب الحق، وكل هذه صفات فطرية طبيعية، أما "التدين" الذي يروّج له رجال الدين فخلق لدى الناس حالة نفسية غير سوية، جعلتهم يسكتون عن الظلم بدعوى الصبر، ويسكتون عن المعاناة الجسدية والنفسية، ويجبر الإنسان نفسه على محاربة نفسها واحتياجاتها الطبيعية، كبت المشاعر والدعوة للعنف والكراهية، وكل ذلك يدمر أي نفس سوية، ويجعلها متألمة ومهزوزة دون معرفة السبب، وهو مخالف للطبيعة، أما العلاج النفسي الطبي فيحل هذه المشكلة ويساعد على المرونة وتقبل الآخر وتطوير النفس".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...