شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
نافذة مفتوحة على القدس وأخرى على المخيم

نافذة مفتوحة على القدس وأخرى على المخيم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 12 مايو 202111:52 ص

يدور العالم حول عالمه، ويظل الفلسطيني يراوح مكانهُ في هذه الكرة الأرضية التي ما إن تضربها بإصبعك حتى تدور، لتبحث فيها عن بلادك الضائعة بين اللونين الأزرق والبني، أين بلادي على الخريطة؟ وربما أصبحنا نسخر من أسئلتنا لنسأل: أين المخيم على الخريطة الناقصة؟ راوح مكانك. لا إجابة عن السؤال الخطأ في العالم الخطأ. أسكن في المخيم منذ ولدت، في مخيم نهر البارد شمال لبنان، على الطرف السوري، على الحدود التي لا تحدّها حدود، بين الجنسيات التي تتشابه في كل شيء، وتختلف جغرافياً. عند مدخل مخيمي كُتبت عبارة لافتة للنظر، هي: "هذا المخيم هو الأبعد عن فلسطين". مقارنة بالمخيمات الأخرى، هو الأبعد، نعم. لكن هذا المخيم هو الأقرب إلى فلسطين الروح، لأن العادات والتقاليد فيه ما زالت ثابتة على العادات القديمة في فلسطين؛ المأكل والمشرب ولهجات القرى، هي هي، لأنه المخيم الوحيد الذي ليس له احتكاك مباشر بالجوار اللبناني.

كنتُ أجلس ذات نهار على الكنبة بين النعاس وبين الصحو، أنام وأصحو. شعرت بالهاتف يرتج ارتجاجاً، فقد نسيته صامتاً. فتحت الخط، وإذ بلهجة فلسطينية اخترقت أذني من الوهلة الأولى. تفضّل. مرحبا باسل. أهلاً. أنا شاب من القدس وأعمل إعلامياً في إذاعة. أهلاً وسهلاً، لهجتك لا تختلف عن لهجتي. آه والله أين تسكن يا باسل؟ قلت: في مخيم نهر البارد. صمت، وقال: آسف لا أسمعك، كررتُ له ما ذكرت، قال: هذا مخيم؟ قلت نعم، مخيم في شمال لبنان، قال "ما بعرفش..."

"هذا المخيم هو الأبعد عن فلسطين". مقارنة بالمخيمات الأخرى، هو الأبعد، نعم. لكن هذا المخيم هو الأقرب إلى فلسطين الروح، لأن العادات والتقاليد فيه ما زالت ثابتة على العادات القديمة في فلسطين

وأردف: أول مرة أتكلم مع شاب من مخيم نهر البارد، واستغربت بأن لهجتك فلسطينية أصلية " قح زيّنا يعني"... قلت له نعم، لا تختلف بيننا وبينكم، نحن في الشتات فلسطينيون. قال: يا رجل، الفلسطينيون في المخيمات الأخرى في لبنان لهجتهم قريبة إلى اللهجة اللبنانية، لهجتك أنت فلسطينية. المهم، أريد منك أن تحدثني عن المخيم، وعن ظروفكم؟ أريد أن أعرف أكثر عن المخيمات في لبنان، وأريد أن أسافر إلى لبنان كي أعيش في بيروت، فأنا أحب العيش في مدينة مثل بيروت. قلت له مستغرباً: أنت في القدس، وتبغي السفر إلى بيروت كي تعيش فيها؟ قال: بلادي طبعاً عزيزة علينا جميعاً وقدسيتها فينا، وأنت تعرف أننا نفديها بالدم واللحم. لكن أحنّ إلى السفر. سفرك يا صديقي طبيعي، لكن بالنسبة إلى سفرنا الطويل نحن اللاجئين، فهو ليس طبيعياً... فنحن على سفر دائم في المخيم.

لا نريد للقدس أن تأتي إلى المخيم، بل نريد للمخيم أن يعود إلى القدس

بين القدس ومخيم نهر البارد مسافة بعيدة وقريبة من نواحٍ عدة. لم أشعر بالبعد من الوهلة الأولى في التواصل المستمر مع مجد. لكن المجد يا مجد هو أنني لم أتخلَّ عن لهجتي، ولم أتركها تضيع في بلاد الشتات، وهذا ما اعتبرته تحرراً من النسيان الذي قد يجعل الإنسان المشرد، إنساناً عادياً ويتكلم بلهجة منفاه على أنّه وطنه. توقعت أن مجد، ابن القدس، أو ابن ما بين رام الله والقدس، سيسألني في التواصل الثاني، ماذا تأكل؟ أو ماذا طبخت أمك اليوم؟ وسأقول له: مسخّن فلسطيني. ربما سيتفاجأ من جوابي هذا، ويقول لي: يا رجل المسخّن نحن نطبخه هنا. ربما لن يصدق من تواصلنا الثالث أنّ ثوب أمي مطرز بالكنفة الفلسطينية. ولن يصدّق أنني أعيش في مخيم نهر البارد، فيحسبني جارهُ المقدسي، وأمزح معه. يسعدني التواصل مع مجد. يجعلني أعيش متخيلاً نفسي في فلسطين. لكن تخذلني النافذة التي تثبت لي في كل مرة أنني في المخيم، وأضِيق بين نافذتين: نافذة مفتوحة على القدس، وأخرى مفتوحة على زواريب المخيم. ومن سوء حظي أنني مخيّر بإغلاق وفتح الأولى، ولست مخيراً بالتحكم بالثانية، إلا في داخلي النابض بها. وتسعفني ذاكرتي إلى مقولة غسان كنفاني "خيمة عن خيمة بتفرق". لكن لو سمح لي هنا أن أقول: "نافذة عن نافذة بتفرق"، ويبقى المخيم فلسطين المؤقتة التي تدفعنا إلى تذكّرها الدائم، وتذكّر أحداثها ولا سيما في المواجهات الحالية في القدس (ساحة باب العامود)، حيث خرج الشبّان في مخيم نهر البارد كي يتضامنوا مع شبّان القدس، ووقفوا في ساحة المخيم. وأنا أمرّ من هناك، من شارع السوق الذي يفضي إلى ساحة المخيم التي تحتوي على علم فلسطين، وصورة ياسر عرفات، وخريطة فلسطين، همستُ في داخلي بعد تواصلي مع مجد: يا ليتها كانت ساحة باب العامود، ونحن في مخيم نهر البارد نجتمع بها بعد الإفطار. و"دعسة على راس نتنياهو هناك". يا ليتها كانت يا مجد، تلك الصرخات تمتزج مع صرخاتنا هنا، يا ليتها كانت يا مجد.

لا نريد للقدس أن تأتي إلى المخيم، بل نريد للمخيم أن يعود إلى القدس. ولو حاولنا نحن في دواخلنا أن نصنع قدسنا بأيدينا، بالفيديو المنشور الذي تدور فيه الكاميرا بتقنية عالية تُشعرنا أننا هناك. نتفحص المكان، ونتحسس حجارة القدس عبر شاشة الهاتف. هذا الحضور التقني جعلني مراراً أتصل بمجد، كي أسأله إذا كان يستطيع أن يرسل شاباً من أصدقائه القريبين من الحرم أو من السور كي يكتب اسمي على ورقة بيضاء، ويأخذ صورة ويرسلها إلي؛ كي أثبت لنفسي أن اسمي وصل قبلي إلى هناك، عابراً جسراً إلكترونياً وفضاءً أزرق. ذات نهار مخيميّ سألني مجد المقدسي: ماذا تقرأ يا صديقي الآن؟ قلت له: الآن فتحت ديوان محمود درويش كي أبحث عن قصيدته الرائعة "في القدس". هذه القصيدة تختصر مدينة القدس كاملة، قال: اقرأ بعض الأبيات منها، فقرأت: "في القدس/ كنت أَمشي فوق مُنْحَدَرٍ وأَهْجِسُ: كيف/ يختلف الرُّواةُ على كلام الضوء في حَجَرٍ؟ / أَمِنْ حَجَر شحيحِ الضوء تندلعُ الحروبُ؟"

حتى انقطع الاتصال بيني وبين مجد، مع انقطاع التيار الكهربائي في المخيم، وصمتُّ.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard