بيوت متلاصقة، شوارع يعبرها المارة بصعوبة لضيقها، لا مرافق صحية، مياه شديدة الملوحة هذا إن توفّرت... هو قدر يتقاسمه أهل مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين المجبرين على التعايش مع واقع عيشهم في "علبة سردين"، وفق تشبيه أحد سكان المخيم، إلى أن تحِين لحظة عودتهم إلى مدنهم وقراهم الأصلية. وبرغم ذلك كثيرون يحبون الحياة فيه.
سأكون كاذباً لو...
يُعد مخيم الشاطئ من أكبر مخيمات اللاجئين في قطاع غزة. على مساحة لا تتجاوز كيلو متر مربع، على شاطئ البحر المتوسط غربي القطاع، يعيش أكثر من 82 ألفاً أغلبيتهم قدموا منذ العام 1948 من قرى الجورة، وبرير، وحمامة، وهربيا، والسوافير، والفالوجة، بالإضافة إلى مدن المجدل ويافا.
التمسك بالمخيم هو الخيار الأكثر ترداداً على ألسنة أغلب سُكانه. أبو علي جربوع (50 عاماً ) يسكن مع زوجته وثمانية من أبنائه في بيتٍ لا تتجاوز مساحته الـ70متراً، سقفه من "الإسبست" وجدرانه متشققة ولا يحمي لا من حر الصيف ولا من برد الشتاء. هو أشبه بـ"زنزانة في الصيف، وتجري من تحته الأنهار في الشتاء"، كما يقول صاحبه.
"بيوتنا في الحارة ضيقة جداً كعلب السردين. نُعاني من سوء تهوئتها وعدم تعرضها للشمس، وهذا ما يزيد من نسبة الرطوبة داخلها. فمثلاً، بيتي لا يطل على شارع عام إلا من خلال غرفة واحدة ولا أستطيع فتح نافذتها كون المسافة التي تفصلنا عن شبابيك بيت الجيران لا تتعدى المتر".
أبو علي الذي عاش منذ طفولته في المخيم يجد تشابهاً كبيراً بين طفولته في السبعينيات من القرن الماضي وطفولة أبنائه الآن. فبرغم تطور الحياة فإن المشاكل الأساسية التي يُعانيها المخيم ما زالت كما هي: المياه شديدة الملوحة ولا تصلح للاستخدام وهي تأتي بشكل متقطع وقد تُقْطَع لمدة أسبوع أحياناً، وعدم وجود بنية تحتية، وقرب البيوت بعضها من بعض، واكتظاظ السكان. ويشير أبو علي إلى أن "أقصى ما يُمكن أن يفعله أبنائي هو اللعب في الشوارع الضيقة وهذا غالباً ما يرفضه الجيران لأنه يُزعجهم والمنتزه الوحيد للمخيم تجده مكتظاً باستمرار".
مرارة العيش التي ورثها أبو علي عن والده المُهجّر من يافا يتشارك تفاصيلها مع جيرانه. وهذا ما ولّد نوعاً من المحبة والتآلف الاجتماعي. يروى أبو علي: "كانت أمي تعُد في رمضان وجبة إفطار واحدة وما إن يحين موعد الإفطار حتى نجد على السفرة أكثر من خمسة أطباق من الجيران. وهذا الترابط ما زال موجوداً لكن بوتيرة أقل نظراً للظروف المادية الصعبة".
الخروج للعيش خارج أزقة المخيم والخلاص من ظروفه القاسية فكرة تراود أبو علي. يقول: "سأكون كاذباً لو قلت إنني لن أخرج من المخيم إن توفرت لي الظروف. مَن منا لا يُحب التوسع والتطور والعيش برفاهية؟ مّن منا لا يُحب لأبنائه حياةً أفضل. لكن أين هي؟".
لا نتأقلم خارجه
ليس بعيداً عن بيت أبي علي، ولكن بظروف معيشية أفضل، يقطن د. صلاح جاد الله مع عائلته منذ الستينيات. وبرغم معاناته في شبابه ظروفاً معيشية صعبة وتنقّله بين أكثر من دولة أوروبية وعربية، فهو يُخالف أبو علي في خيار الخروج من المخيم. سنحت لجاد الله فرص للانتقال إلى مكانٍ آخر لكنه رفض ذلك موضحاً "أن رفاهية العيش في أمريكا وبريطانيا لا تساوي شيئاً أمام بساطة العيش والترابط الاجتماعي بين الجيران في المخيم".
جاد الله يعمل أستاذاً جامعياً، وهو أب لأربعة أطباء. يقر بالظروف الصعبة التي يعشيها أبناء قطاع غزة عامةً وأهل المخيمات خاصة. هو أحدهم ومرّ بظروف اجتماعية واقتصادية صعبة منذ كان مسؤولاً عن عائلته وعمره لا يتعدّى العشرة أعوام بسبب دخول والده السجن. ولكنّه تحدّى الصعوبات وأكمل دراسته في الخارج وكان لموقف أمه من دراسته المكلفة مادياً أثر كبير في حياته دفعه للتمسك بالمخيم وأبنائه. يقول: "بعد أن انتهيت من دراسة البكالوريوس في القاهرة لم أكن أملك ثمن استخراج الشهادة، فعدت إلى غزة. وحين علمت أمي بذلك منحتني قلادتها الذهبية التي لا تمتلك سواها كي أسدد باقي الرسوم الجامعية وأدفع مستحقات الشهادة".
بيته المكون حالياً من طابقين في بناءٍ بسيط يقوم على مساحة مئة متر مربّع كان قديماً بيتاً مسقوفاً بـ"الاسبست"، كبيوت معظم جيرانه. وفي مرحلة من مراحل حياته اضطر للسكن بعيداً عن أجواء المخيم. تلك الفترة كانت قاسية عليه وعلى عائلته ولم ينجحوا في التأقلم خارج المخيم. لذلك قرّر العودة من جديد إلى المخيم معللاً ذلك بقوله: "تربيت على مرارة العيش والتحمل، منذ صغري لذا لا أجد حلاوة العيش إلا هنا في أزقة الشاطئ".
يؤكد جاد الله أن المخيم بلا شك يُقيّد أحلام شبابه وفتياته، ويقول: "الجيل الصاعد جيل منفتح على العالم بسبب مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا الجيل يعي مدى الفروق المعيشية بين حياته وحياة غيره في الخارج"، ويضيف: "من حق أبنائنا العيش برفاهية والتمتع بكامل الحقوق، وعلى الجهات الدولية والمحلية المسؤولة أن تعمل على عدم وراثة الجيل الجديد لمعاناة الجيل القديم".
"عيشة هنية"
"حياتنا زمان كانت حلوة وفيها راحة بال رغم التعب". بهذه الجملة بدأت الحاجة أم أحمد القوقا (70 عاماً) حديثها. فالناس كما تقول كانت أكثر طيبة وأشد ترابطاً في ما بينهم والبيوت كانت أمامها أراضٍ مفتوحة بعكس اليوم.
وتُشير أم أحمد إلى أن حال المخيم يزداد سوءاً يوماً بعد يوم و"تكالب الظروف على الإنسان جعلت اليأس يحيق بالمخيم وأهله". أكثر ما يشكو منه أهالي المخيم هو انعدام القدرة على البناء أفقياً، الأمر الذي اضطر الكثير من السكان، بسبب ضيق المسكن وزيادة عدد أفراد الأسرة، إلى هدم منازلهم الأسبستية وبناء منازل من الإسمنت من طوابق عدة على أنقاضها.
أم أحمد عملت مع زوجها وأبنائها الخمسة في مهنة صيد السمك وبيعه منذ ربيع عمرها وكان ذلك سبباً في تحسين ظروفهم المعيشية، ومكّنهم من بناء بيتهم الجديد. وبرغم امتلاكها قطعة أرض خارج المخيم فهي لا تُفضل الخروج منه قائلةً: "والله ما في أحلى من عيشة المخيم وبساطة أهله".
حل جزئي
تتردد الشكاوى ذاتها على ألسنة كل سكان الشاطئ. وكلهم يجمعون على وجود ترابط اجتماعي قوي بين أبناء المخيم. رائد زقوت هو مختار عائلته ويقطن في بيت مساحته مئة متر، يؤكد أن "أبرز ما يُميز المخيم فعلاً هو علاقة أبنائه بعضهم ببعض. ففي المجتمعات الحديثة تجد الشخص يسكن في برج سكني ولا يعرف من هو جاره، على اختلاف ما تجده في المخيم حيث الترابط الأسري والتضامن الاجتماعي قويان. عادات وتقاليد أبناء المخيم لا تجدها في الخارج".
يؤكد المختار: "برغم المشاكل التي يُعانيها المخيم، فإن أغلب سكانه لا يفضلون الخروج منه. فهو حلّ جزئي إلى حين العودة وفيه يشعرون كأنهم عائلة واحدة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...