في مُجتمع كغيره من المُجتمعات ازدادت فيه الظروف المادية صُعوبة بسبب جائحة كورونا، لم تقف نساء جزائريات مكتوفات الأيدي بعد توقف أزواجهن عن العمل بسبب القيود والتدابير الوقائية التي فرضتها السلطات الجزائرية منذ مارس/ آذار الماضي لمنع تفشي فيروس كوفيد 19.
أم ليديا ومحمد (36 عامًا) كانت تترأس نادي حرفي وزوجها يعملُ في مجال البناء، تقول لرصيف22: "إكراهات البقاء في البيت، وتوقف كلينا عن العمل بسبب هذه الظروف الاستثنائية، وقلة المداخيل أجبراني على مزاولة مهن تقليدية داخل أسوار المنزل لتحمُّل مصاريف شهر رمضان والأعياد، إضافة إلى الدخول المدرسي الذي لم يتبق له سوى أسبوعين".
وتُضيف أم ليديا: "تركيزي في البداية انصبّ على مهنة تقليدية موسمية، عادة ما تدرّ أرباحاً طائلة على النسوة في شهر رمضان وموسم الأعراس، والمتمثلة في صناعة أوراق الديول أو البسطيلة أو الملسوقة وعجينة القطايف والخبز المنزلي إضافة إلى حلويات موسمية أخرى".
"بيتي قبلة للزبائن"
وكانت أم ليديا في البداية تكلف ابنها محمد ابن العشر سنوات بالتجول في الأحياء على دراجته الصغيرة لبيع ما تحضّره بشكل يومي، وبمرور الوقت تحول منزلها المتواضع في منطقة "سواشات" شرق العاصمة الجزائرية إلى قبلة للزبائن الراغبين في اقتناء ما تُعده أصابع يديها.
وتحولت أم ليديا إلى "مُعيلة الأسرة"، وأنقذت أطفالها من شبح "الجوع"، في أوج الحجر الصحي المُشدد الذي عرفته بلادنا شهري مايو/ آيار ويونيو/ حزيران الماضيين، وتقول: "كنتُ أطبخ، وأنظف، وأعتني بالأولاد، وأحضر طلبات الزبائن اليومية، تسلحت بالقوة، أما زوجي فكان يقضي يومه بين النوم والتلفاز".
تتحدث أم ليديا ونشوة الانتصار الذي حققته في هذا الظرف العصيب ظاهرة على وجهها، وتقول إنها "فخورة بنفسها وبمنجزاتها"، وترى أنه بفضل أزمة كورونا، انكشف "الستار الحقيقي عن دور المرأة الحقيقي في إعالة الأسرة".
"كنتُ أطبخ، وأنظف، وأعتني بالأولاد، وأحضر طلبات الزبائن اليومية، تسلحت بالقوة، أما زوجي فكان يقضي يومه بين النوم والتلفاز"
أمُ ليديا ليست المرأة الجزائرية الوحيدة التي غيرت كورونا نمط عيشها، التقى رصيف22 إيمان، سيدة ثلاثنية أم لأربعة أطفال، لم تشتغل يوماً بسبب عدم تقبل زوجها فكرة عمل الزوجة، فهو يرى أن أفضل مكان للمرأة هو بيتها، والرجلُ هُو من يجب أن يُعيل أُسرته، تقولُ: "عندما تدهورت أوضاعنا المالية بعد توقفه عن العمل بسبب الحجر الصحي الذي فرضته سلطات بلادنا، فكرت في العمل داخل أسوار البيت".
وتُضيف إيمان أن زوجها عارض هذ الخيار بشدة بحكم أنه "رجل البيت، وهو من يجب أن يُنفق على الأسرة، لكنني ضغطت عليه بقوة وأصررت على العمل، خاصة بعد تفاقم دُيونه، وإصابته بفيروس كورونا، ومُكوثه في المستشفى أسبوعين كاملين".
وقررت إيمان استغلال هوايتها المُفضلة في صنع العجائن التقليدية، التي تعلمت تقنياتها على يد جدتها، التي كانت طباخة ماهرة في هذا المجال، تصنع "المطلوع" الخبز التقليدي الجزائري، إضافة إلى "المسمن" أو "المعارك"، و"البغرير" وهي عجائن تقليدية ترافق قهوة العصر والصباح، وتُؤكل بالعسل أو الزبدة، وإعدادها يتطلب أشياء بسيطة كالدقيق والملح والماء والزيت.
قررت إيمان استغلال هوايتها المفضلة في صنع العجائن التقليدية.
تقول إيمان إنها نجحت في جذب الزبائن، الذين تحولوا بمرور الوقت إلى عملاء دائمين، إذ لم تتوقف حركة المبيعات، وازدادت بشكل يومي إلى درجة أنها أصبحت غير قادرة على تلبية جميع الطلبيات اليومية.
وبعد النجاح الكبير الذي حققته، تُفكرُ إيمان في توسيع مشروعها المنزلي وإطلاق متجر إلكتروني بمعية زوجها الذي كان يرفض فكرة عملها في البداية. تقول: "الظُروف الراهنة التي نعيشها بسبب جائحة فيروس كورونا أعادت إلى الواجهة المهن التقليدية مثل الخياطة والطبخ إضافة إلى ظاهرة التسوق الإلكتروني التي برزت بشكل لافت وقوي".
"توقف زوجي عن العمل"
فوزية أيضاً سيدة جزائرية، ربة بيت في العقد الرابع من عمرها، لم تكن تتخيل أنها ستدخل عالم الشغل والاستثمار من أبوابه الواسعة، تقولُ لرصيف22: "لم أخطط يوماً لدُخول عالم الشغل، لكن تداعيات جائحة كورونا، وتوقف زوجي عن العمل ما أدى إلى انقطاع دخله المالي والشهري، وتدهور وضعنا المعيشي، أجبراني على البحث عن حلول لإعالة أسرتي وسد حاجات أطفالي الصغار".
ورُغم أنها ربة منزل ومستواها التعليمي لم يتجاوز الطور الثانوي، فإن الثقل الذي كان ملقى على عاتقها كبير جداً، واعتمدت على موهبة الخياطة التي كانت تهواها منذ الصغر، وانتهزت فرصة حلول عيد الفطر لخياطة ملابس للصغار، وبدأت بعرض ما تنتجه على الأهل والجيران، فحظيت بتشجيع كبير، وارتفع عدد زبائنها، خاصة أن جميع المحلات التجارية كانت مغلقة في تلك الفترة بسبب الحجر الصحي.
ولم تقتصر أفكار فوزية على خياطة الملابس وأغطية الفراش ووسائد النوم، بل صارت تصنعُ كمامات للحماية من فيروس كورونا، تقول: "أنا فخورة بنفسي لأنني تمكنت ومعي سيدات مثلي من المساهمة بشكل كبير في السباق المحموم الذي خاضته سلطات بلادنا لتوفير كمامات واقية".
تختم فوزية قصتها، والابتسامة تتسع على وجهها بالقول إنها تُفكرُ اليوم في تطوير مشروعها، وهي الآن تعمل على الحصول على منحة لتمويل مشروعها الخاص، والدفع به خارج أسوار البيت، بعد أن كانت في وقت سابق ربة بيت تنحصر مهامها في الجلي والتنظيف والطبخ وتربية أطفالها الصغار.
"لم أخطط يوماً لدُخول عالم الشغل، لكن تداعيات جائحة كورونا، وتوقف زوجي عن العمل ما أدى إلى انقطاع دخله المالي والشهري، وتدهور وضعنا المعيشي، أجبراني على البحث عن حلول لإعالة أسرتي وسد حاجات أطفالي الصغار"
وتقول الناشطة الجمعوية دليلة حسين لرصيف 22 إن كورنا ساعدت العديد من الجزائريات على التخلص من أدوارها التقليدية، وساعدتها في إثبات قدرتها على قيادة الأزمات، رغم التحديات الكبيرة التي واجهتها خلال فترة الحجر الصحي.
وتُضيف أن الكثير من النساء لم يلتحقن بالجامعات ومستواهن التعليمي محدود لكن أثبتن جدارتهن في جائحة كورونا بفعل المواهب والمهارات التي يتقنها كخياطة الكمامات والألبسة الطبية والأقنعة الواقية، إضافة إلى بعض المهن التقليدية الأخرى على غرار صناعة الحلويات والمأكولات التقليدية، معتمدات في ذلك على عملية التسويق الإلكتروني الذي برز بشكل كبير في الجزائر منذ بداية الأزمة الصحية في فبراير/شباط الماضي.
وتُؤكدُ حسين أن قطاعاً عريضاً من النساء الجزائريات جعل من كورونا وسيلة للتغير نحو الأفضل بعد أن كان دورهن ينحصر في أعمال البيت، وأثبتن أنهن قادرات على قيادة الأزمات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...