في يوم شتوي بارد غاب عن تفاصيله دفء البيوت، يحزّ جوانحي شوق لدمشق السخية، تلك التي جئتها مع سابق الحب، صبية يانعة للدراسة في جامعتها، وما خذلتني، بل كانت لي كما كانت لكثيرين من أبناء الريف، فضاء لتنفس الحياة خارج رئة المجتمعات الصغيرة ومسرحاً لتحقيق الأحلام والطموحات الكثيرة.
منحتني دمشق مفاتيح لأبواب خلتها لا تفتح، وقادتني أزقتها إلى منابع شغف لا تنضب، وأطلعتني على أسرار كبرياء التواضع بمعنى التكبّر على المتكبّر، وتزودت منها بكشّاف البريق الخادع لرهط الاستعراض المعرّش كالسرطان على رئة المدينة، ففي دمشق العميقة القيمة للجوهر والأصل والحسب والنسب، وما تبقى زبد مصالح زائلة.
دمشق الآن تبدو وقد يبّس البرد أطرافها وعض الجوع أحشائها، حتى لم تعد مدينة، وإنما خليط من فلول قذفت بها عاصفة الدم إليها.
منحتني دمشق مفاتيح لأبواب خلتها لا تفتح، وقادتني أزقتها إلى منابع شغف لا تنضب.
نازحون وأمراء حرب، جوعى وأثرياء جدد، يرسمون بتواجدهم المتوازي والمتراكب معاً موزاييك فاضح القباحة، حين لا عدالة في تحصيل الرغيف ولا توازن بمشهد الشارع بالعين المجردة؛ إذ تتكوّم على الأرصفة أجساد المشردين بأمعائها الخاوية، فيما تعبر السيارات فارهة لتعهّر أمراً وقع حين لا رد لقضاء...
المشهد العام أعور، أكتع، أفصع. ثمة طوابير طويلة للانتظار في كل مكان مع فارق أن طوابير عيادات التجميل تفوح منها روائح العطور والانفصال عن الواقع، وطوابير الأفران والمؤسسات الاستهلاكية تنفث روائح العرق والقهر.
درجة الانفصام مرعبة في مدينة لم تعد تشبه نفسها، ولا تشبه ما سبق وقيل عن طيب وحلاوة مدينة بردى والياسمين والفل وزنود الست والعوامة وأصابع زينب، تلك المتواصل ذكرها في مرثيات الفيسبوكيين ممهورة بأغنيات الرحابنة. حتى أن رائحة الصرف الصحي التي تزكم الأنوف لا تردع ذلك التغنّي السياحي الببغائي، بل تفقأ دمّل الحنين إلى دمشق التي كانت، وكتاجر مفلس يتداول السوريون صوراً من الدفاتر العتيقة عن شام زمان. هل هناك هزيمة أو أزمة تعادل بفداحتها حلم العودة إلى الخلف؟! يا للبؤس، بل يا للعار.
أحتاج دمشق في يوم شتائي طويل كحاجة السوريين لدفء عزيز. يخطر لي الذهاب إلى حديقة السبكي القريبة أو حديقة الجاحظ، هناك حيث تتمطى الشمس بكسل لذيذ، اذ لم تُبقِ الحرب للسوريين سوى الطقس اللطيف. أنهض إلى مرآتي لأخفي علامات القنوط بألوان زاهية خفيفة، كرمى للقاء دمشق بوجه مستبشر، فهي تستحق لدين لها علي، فلولاها ما كنت كاتبة ولا صحفية.
درجة الانفصام مرعبة في مدينة لم تعد تشبه نفسها، ولا تشبه ما سبق وقيل عن طيب وحلاوة مدينة بردى والياسمين والفل وزنود الست وأصابع زينب. لا تردع رائحة الصرف الصحي التي تزكم الأنوف التغنّي السياحي الببغائي، بل تفقأ دمّل الحنين إلى دمشق التي كانت
أقطع ساحة الجسر الأبيض، وبدل التوجّه نحو طريق النهر وحيي الروضة وأبو رمانة، أهبط نحو شارع الطلياني ثم ساحة عرنوس ومنها إلى الصالحية، أعرج على شارع العابد، وهناك تتراءى لي من بين الوجوه ابتسامة بندر عبد الحميد المقتضبة، مقبلاً للسلام وبثّ عتبه الدائم: "جارتنا ولا نراك ألا مصادفة".
إحدى المرات، لا أذكر على وجه التحديد متى، رافقته إلى بيته المفتوح للجميع، وأخبرته أن صديقنا المشترك الناقد السينمائي الفلسطيني السوري بشار إبراهيم، كلّفني بأن أحمل إليه السلام وأن التقط له صورة في بيته، بدا سعيداً بالرسالة بقدر تألمه لشتات شمل الأصدقاء: "صوّري قد ما بدك بس لا تنشري بالفيسبوك".
في تلك الجلسة التي انضم إليها شخص آخر لا أعرفه أمضى معنا قليلاً من الوقت ورحل، أهداني بندر قدحاً صغيراً أبديت إعجابي به، فحملته بجيبي كشاهد على أجمل وأنقى فسحات دمشق، "بيت بندر"، ودلالة الاسم قصيدة.
لا لم أسأل عن مصير البيت بعد رحيل بندر، حسبي خسارة مساحة حرة كانت قدماي تقوداني إليها كلما نقص الأكسجين في الهواء. أذكر يوم حدّثني عن طريقة شرائه البيت وقد كان مستأجراً، كان فرحاً جداً ومندهشاً وكأنه حقق منجزاً للثقافة السورية، كما كان مندهشاً بحياة جديدة كتبت له بنجاته من قذيفة اخترقت نافذة بيته، لكن الأعجوبة التي أنقذته من القذيفة الطائشة لم تنقذ قلبه من التوقف كمداً! حين توقفت القذائف عن الانهمار على دمشق. غاب بندر وسبقه قبل سنوات بشار إبراهيم، وأصبحا أطياف صور تتراءى في شارع العابد الذي خلا من صدفة طالما كانت خيراً من ألف ميعاد.
هل هناك هزيمة أو أزمة تعادل بفداحتها حلم العودة إلى الخلف؟! يا للبؤس، بل يا للعار.
على غير عادتي القديمة، لا أبدل الرصيف قبيل وصولي مقهى الروضة، بل ثمة ما يشدني للتوقف أمامه والتحديق خلف زجاجه، لربما عثرت على وجه أعرفه من زملاء وكتاب ومثقفين ومهتمين بالشأن العام، كانوا يوماً يملؤون فضاء المقهى بقصص ونمائم تتطاير كالشرر لتصل إلى صفحات المجلات والجرائد، مشعلة معارك ترمّ عظام الثقافة المتآكلة.
بالكاد ألمح وجهاً أو وجهين أو ثلاثة وجوه لست على يقين أني أعرفهم، معظم الوجوه في المقهى بائسة، شاحبة كشخوص لوحات لؤي كيالي، تنكفئ على خراب داخلي عميق. لا أعرف أين يلتقي اليوم من تبقى من كتاب وصحفيين ومثقفين في دمشق، ثمة أجيال جديدة نبتت خلال الحرب تجاهد لصناعة مشهد جديد، ربما يتجمعون في مقاه مستجدة افتتحت خلال الحرب، من تلك التي تنفّرني ديكوراتها وإضاءتها المتكلفة، وتلتصق بمخيلتي وجوه روادها المنحوتة كثمرة حرب ساخنة.
شعور الغربة يلاحقني وكأني لست في دمشق، أخفّ الخطا لأصل مجلس الشعب (البرلمان) كما نحب أن نسميّه، تعبيراً عن الحنين لزمن كان فيه برلماناً لم نعشه ولكن سمعنا به. أتوقف محتارة أمام الساتر الإسمنتي الذي قسم الشارع الفرعي، فإذ سرت خلفه ربما أقلق سكينة الحرس، وإذا سرت على الجانب الآخر سأكون في مواجهة السيارات القادمة من ساحة يوسف العظمة.
يضحكني تفكيري الساذج، فثمة رصيف الطرف المقابل يمتد تحت الشرفات وأمام واجهات الألبسة الرجالية كافٍ لتسليتي بالفرجة على معروضات طالما جذبتني، قمصان، كنزات، بنطلونات، أحذية، أحزمة. لكن ما أراه الآن يكاد لا يصدق، فقد هبط الذوق ومعه الجودة وارتفعت الأسعار، أصفار كثيرة تتبعثر على الواجهات. من هنا وتحت ضغط إغراء التسوّق كنت أشتري الهدايا المؤجلة لأشخاص مجهولين ومناسبات محتملة. أشيح بنظري دون تشويق يذكر وثمة ما يدفعني للإسراع قبل أن أصاب بتصلّب حواجب التعجب بأعلى الجبين.
بالكاد ألمح وجهاً أو وجهين أو ثلاثة وجوه لست على يقين أني أعرفهم، معظم الوجوه في المقهى بائسة، شاحبة كشخوص لوحات لؤي كيالي، تنكفئ على خراب داخلي عميق
أهرب إلى الزقاق حيث نادي الضباط القديم ومقابله فندق الشام، أقف أمام صالة سينما الشام، أحدق في شباكها المغلق، مستعيدة أيام الجامعة في التسعينيات، حين كانت الصالة الوحيدة في سوريا التي تعرض أفلاماً حديثة، وذكريات مهرجان السينما الذي كان الفرصة السنوية الوحيدة للسوريين لمشاهدة أفلام عربية وأجنبية غير تلك التي يعرضها التلفزيون الرسمي في سهرة الأسبوع، بل فرصة لمشاهدة الأفلام السورية، ولقاء نجوم التمثيل والتدرب على كتابة مواد صحفية نعبّد بها طريق وصولنا إلى الصحافة.
المكان شبه مهجور، وأنا لا أشعر بالأسف. كأني ما لثمت لها شفاهاً، كأني ما وصلت ولم تصلني... وكأن ما هبّ على ذاكرتي كان مستعاراً من ذاكرة آخرين عاشوا ذلك الزمن بدمشق ومضوا مع ما مضى.
أتابع السير على رصيف الفندق لغاية مقهى البرازيل، وربما هي المرة الأولى من خمس أو ست أو سبع سنوات، لا أذكر بالضبط، التي أنتبه فيها إلى أن ثمّة بنكاً خاصاً قد اقتطع قسماً كبيراً من المقهى، مستولياً على زاويته المطلّة على شارعين! يا لهذه البشاعة! ماذا فعلوا بهذا المكان الذي أمضيت فيه أجمل الأوقات حول طاولاته حين كان يؤمه زوار دمشق في الربيع والصيف ومواسم المهرجانات الثقافية، حين كنا طلاباً، كنا نرى هنا الشاعر محمد الماغوط جالساً إلى طاولته قبل أن ينقل مواقعه إلى مقهى أبو شفيق في الربوة، وإلى هذا المقهى كان حنا مينه يأتي أسبوعياً، كما كان يأتي وزراء سابقون وفنانون وكتاب وشعراء وممثلون.
مقهى البرازيل كان لطبقة الميسورين من المثقفين والفنانين، أو للراغبين منهم بالهروب من مقهى الروضة لبعض الوقت، وكان مع مقهى الهافانا الذي كان يرتاده مظفر النواب ونخبة من الكتاب والشعراء، الفسحة الخلاقة للطامحين بتقدم ركب الصحافيين في بلد بلا صحافة، كان ذلك في نهاية التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، وحينها كان يأتي وبشكل دوري، وكل على حدة أو مجتمعين، الدكتور عبد السلام العجيلي من الرقة، والصحافي والناشر رياض نجيب الريس من بيروت ومعه عدد من محرري مجلته "الناقد"، كما كان يأتي شيخ القصاصين، زكريا تامر وزوجته نادية أدهم من أوكسفورد، وكانوا جميعهم ينزلون في فندق أمية، أما اللقاءات الصباحية فتكون في مقهى البرازيل، وغالباً ما كانت تتحوّل الطاولة بحضور الريس أو تامر أو العجيلي إلى اجتماع مفتوح يؤمه رواد المقهى من الكتاب والصحفيين والمثقفين بدمشق، وتمتد الأحاديث وتتشعب وتمتلأ الأجواء بصخب المستطرف من الكلام، قبل أن تنفض الجلسة، لتنعقد جلسة أخرى حول طاولة غداء في مطاعم وسط دمشق، زنوبيا، الكمال، ألغورا، أروما كافيه، ويسبرس، أبو العبد... وغيرها.
على هذه الأرصفة وسط دمشق، مشيت إلى جانب العجيلي وكان يسألني أخبار رياض الريس في كل لقاء، ويحملني إليه نصائح صحية، كما مشيت مع رياض الريس وكان يسألني عن العجيلي ويحملني إليه مطالب بإتمام كتاب وعده بتسليمه قريباً. أما زكريا تامر وزوجته فكنت أنهل من ذاكرتهما الدمشقية قبل مغادرتهما البلاد في الثمانينات، وكنت حينها بلا ذاكرة تذكر.
هؤلاء وغيرهم كثر من الأصدقاء ممن غابوا عن دمشق أو عن الحياة، باتوا ذاكرتي الموجعة. ذاكرة تبكيني كما أبكي دمشق التي عشتها يوماً بكل جوارحي.
دمشق التي تئنّ من البرد والجوع والفاقة، ومن حيتان يقضمون أظافرها ويتمادون بالعبث بها حدّ التوحش. ليتها لم تأكل قلبي حين وفدتها فتية، بل ليتني أبرأ من حبها وأقوى على هجرها، لكن؛ هل يبرأ عاشق من عشقه إن غدا المعشوق سبياً؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com