شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
نحن الذين لا نعرف إلى أين ننتمي

نحن الذين لا نعرف إلى أين ننتمي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 15 سبتمبر 202002:28 م

الحسكة

انقطعت المياه عن الحسكة، لأول مرة ينتبه الناس إلى هذه المحافظة المنسية، المختصرة عادة بنظرة استغراب للناس القادمة منها، وكأنهم قادمون من بلاد أخرى. رد الفعل الموحّد عند معرفة أنني من الحسكة هو استغراب أمرين: أنني شقراء ولا أجيد لهجتها، هذه الملاحظات السطحية لأننا لا نعرف بلادنا جيداً. نختصر الحسكة بلون بشرة ولهجة. حصل تعارف متأخر جداً مع البلاد في وقت تغيرت فيه التضاريس والديموغرافيا، تعود الحسكة إلى ذاكرتي مجدداً عندما يتأمل الشاب الواقف على الحاجز قليلاً في هويتي وهو ينظر إلى اسم القرية مطولاً: "وين هي؟"

زرت القرية عدة مرات، آخرها منذ خمسة عشر عاماً، لا تفاصيل كثيرة راسخة، هي مشاهد بصرية انطبعت في مخيلة طفلة. حتى مدينة الحسكة التي اكتشف الناس مؤخراً أنها جزء من البلاد، لا أتذكرها مطلقاً.

أتذكر بيوت القرية المهملة، حيث لا شيء سوى صحراء، نوبات "العجاج" الذي يعمي العينين، المسافة الطويلة والرحلة اليومية التي سيعانيها من يقرر أن يكمل تعليمه، أتذكر أيضاً ملامح جدتي لأبي ولكنها غير واضحة تماماً.

جميع القرى التابعة للحسكة عطشى منذ زمن، يمر عليها سائقو الصهاريج، يبيعون المياه المعبأة للناس المضطرين لشربها ومعها الأمراض المعوية التي سترافقهم على الدوام، ضمن أحد فصول حياة شاقة جداً لأناس بسطاء يعيشون على حافة الحياة تماماً منذ زمن بعيد، قبل أن يعلم بهم أحد أو يمروا في هاشتاغ أو حملة تضامن فيسبوكية.

تمرّ هذه القرى أيضاً تحت شمس الظهيرة وأبناؤها جالسون في الحدائق بانتظار دورهم في المستشفيات الحكومية، السبب الوحيد الذي يضطرهم لتحمل نفقات القدوم للعاصمة. أراهم في عيادات الأطباء، تعاملهم سكرتيرة الطبيب بفوقية، ربما لا تدري هذه الموظفة، التي لم يتجاوز تفكيرها جدران غرفة الانتظار، كم ولدت هذه القرى من أطباء ومهندسين، كتابٍ ومثقفين، وكم قطعوا طريقاً شاقاً في الصحراء حتى خرجوا من الظل.

مثلما تحولت آلامنا ودمارنا إلى "تريند"، يلقى الضوء أحياناً على حلب المنهوبة، ثم تعود لعتمتها وحيدة مع خرابها وآلام وحشتها

حلب

مثلما تحولت آلامنا ودمارنا إلى "تريند"، يلقى الضوء أحياناً على حلب المنهوبة، ثم تعود لعتمتها وحيدة مع خرابها وآلام وحشتها. 

عندما توفي جدي لأمي، ذهبت إلى حلب استعداداً لمراسم الدفن، كنت أصغر من أن أستوعب الموت تماماً أو أراه موجعاً كما اليوم، كنت أرى الناس حولي غريبين قليلاً. أتذكر جدي أحياناً، لا أفهمه كثيراً، أكثر الشخصيات تعقيداً تلك المتأرجحة بين الريف والمدينة، أستغرب كيف تسير الجينات، عندما أنظر في صورته أرى شيئاً من عيني، أستغرب أيضاً أني أشبه خالاتي في بعض طباعي، أحاول تحليل هذه الطباع، هل تنتمي إلى الشام أو إلى حلب، أفكر دائماً ما تأثير هذا الثلث فيني الذي ينتمي إلى حلب؟

دمشق

حيث وُلدت، حيث كل شارع شكل جزءاً مني، لا يوجد أي زقاق صغير لم يشهد لقاءً أو وداعاً، الحدائق التي أنهكت أمي وهي تجوب بابنتها الصغيرة بالعربة بينما كان أبي يؤدي الخدمة العسكرية، وتقف في نهاية الجولة لتقطف الياسمين المتفلت إلى الخارج، روضات الأطفال التي تنقلت بينها، حفلات الكورال التي كانت ترسلنا إليها المدرسة، والتي يسبقها ليلة طويلة جداً تضيق أمي فيها خصر التنورة لأني كنت نحيفة جداً، مدرستي الابتدائية التي لا زلت أحس بضربات قلبي عندما أمر بجوار بوابتها في شارع النهر، وأتذكر كم قضيت صباحات بجوارها قبل بدء الدروس.

أتخيل مديرتنا، حفيدة عبد القادر الجزائري، واقفة على الدرج ككائن أسطوري، لم أعد أصادف نساء مثلها. أتذكر مدرستي الإعدادية والنافذة التي تطل على السبع بحرات، حيث كنا، صديقتي وأنا، نجلس ونستمع لأغاني عمرو دياب سراً، لاحقاً مدرستي في الشعلان، ومن ثم جامعتي ودوامها الطويل ومخابرها التي لا تنتهي، الجلوس في مقاهي ساروجة على ضوء الشموع وعامي الأخير في الجامعة الأكثر مأساوية، عندما تغيرت البلاد وكشفت عن وجهها الحقيقي، ربما نستحق ذلك، نحن الذين تجاهلنا الظلام طويلاً، مررنا بجواره وتخيلنا الحياة الوردية.

لا تعنيني دمشق اليوم، أحاول تجنبها، لا أريد أن تشكل فيني أشياء أسوأ، لم تعد المدينة وهي تحتضر قادرة على تشكيل أي شيء جميل، أحاول المحافظة على نفسي كشخص سوي قدر الإمكان، لا أريد أن أتشوّه أكثر، لا أريد أن أقضي حياتي أفكر بالبؤس في كل لحظة وهو متجسد في هذه المدينة

الشام وبيت الشيخ محي الدين، البيت العربي القديم الذي تملكته الدولة، أمر جواره وأتذكر حكايات جدتي عنه، عن مطبخه المسكون بالجن وعن والدتها التي ورثت عنها أمي حبها للورد الأصفر، أتعرف على الشام أكثر من خلال جدتي وطباعها "الشامية جداً"، أستمع إلى حكاياتها عن نهر بردى والشام غير المشوهة .

لا تعنيني دمشق اليوم، أحاول تجنبها، لا أريد أن تشكل فيني أشياء أسوأ، لم تعد المدينة وهي تحتضر قادرة على تشكيل أي شيء جميل، أحاول المحافظة على نفسي كشخص سوي قدر الإمكان، لا أريد أن أتشوّه أكثر، لا أريد أن أقضي حياتي أفكر بالبؤس في كل لحظة وهو متجسد في هذه المدينة.

نحن الذين لا نعرف تماماً إلى أين ننتمي، تتملكنا جينات مختلطة، تشكلنا كائنات غير تقليدية متناقضة، نحن لا نسألك: "إنت من وين؟" في أول لقاء، ولا تعنينا الجغرافيا، نحن من نُنبذ غالباً من المغرقين في عاداتهم وتقاليدهم، نشفق عليهم لأنهم لا يعيشون متعة اكتشاف المختلفين عنهم في هذه العالم، نحن فقط ننظر إلى ما يحتويه قلبك، وحينها نقرر أن نحبك أو نكرهك، ولكننا نتقبلك في كل الأحوال. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image