شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
شو بيبقى من الحكي؟

شو بيبقى من الحكي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 10 فبراير 202111:05 ص

عدّة وريقات يابسة، مصفرّة ومتناثرة، تعبث بها الرياح، تتدحرج على الأرض، ثمّ تحملها إلى أعلى، لتعود وتهبط بانسياب على درجات عتبة باب منزل عتيق. يوماً ما، كانت هذه الوريقات خضراء، نضرة، "مكتوبة" على صفحة غصن، كانت عنواناً للحياة. نسجت مع الكثير من العناصر الأخرى سجادة وجود الشجرة. أما اليوم، فلم يبق منها سوى تلك البقايا اليابسة المصفرّة الخفيفة التي تحملها الريح حيث شاءت.

بسيطة بلحنها وأسلوبها ووزنها، كما لو أن طفلاً يعزفها بسبّابته على البيانو... ما الذي يدور بين الإيقاع والتركيبة اللحنية والكلمات في أغنية فيروز "شو بيبقى من الرواية"؟

هذه الصورة الشعرية الكلاسيكية في الأدب وفن الرسم، حيث هي الأطر المألوفة لتقديمها، ولكن من الجميل جداً أن نراها هنا مرسومة بالموسيقى. فهذه الصورة ترسمها نوتات منفصلة بشكل لافت، تفرّ من البيانو كطيور سنونو تخرج تباعاً من تحت سطح قرميد، بسيطة بلحنها وأسلوبها ووزنها، كما لو أن طفلاً يعزفها بسبّابته على البيانو.

تتقلّب قليلاً حول أساس مقام الكرد (في الأسفل)، فتفاجئها هبة ريح تطيّرها إلى الأعلى مرة أخرى، ثم تهبط بعد ذلك إلى ما دون مستوى أساس المقام، فتعود ريح الوتريات وتحملها برفق على ثلاث دفعات، لتودعها بسلاسة وأناقة على الدرجات الثلاث لعتبة باب الأغنية.

تبدأ الأغنية بمجموعة من الأسئلة، نلاحظ عليها عدة ملاحظات من ثلاث نواح وهي: تركيبتها اللحنية، إيقاعها والموسيقى المرافقة لها. وهذه الملاحظات تكشف لنا عن جانب مهم من جوانب الجمال التعبيري في هذه الأغنية.صدفة غريبة أن يصفّق الجمهور في هذه النقطة بالذات. ربما صفق لظهور فيروز على المسرح لأداء الأغنية، في مسرحية تحمل اسم "ناس من ورق"، وربما صفق لرسالة خاطبت لاشعوره الجمعي، بواسطة اختزال فني مدهش للرمزية الشهيرة التي تختزنها صورة الأوراق الصفراء.

من الملفت أن فيروز لم تظهر في أيّ من مسرحيّتها بعلاقة حب عادية. فهي إما أن تكون بنتاً مرصودة تنتظر الحب للخلاص على "جسر القمر"،  أو فتاة فارقت حبيبها الهارب من سفر برلك، أو صبيّة تنتظر بياع الخواتم ليخطبها لحبيب مجهول

تقول فيروز:

"شو بيبقى من الرواية؟ شو بيبقى من الشجر؟ شو بيبقى من الشوارع؟ شو بيبقى من السهر؟ شو بيبقى من الليل؟ من الحب؟ من الحكي؟ من الضحك؟ من البكي؟ شو بيبقى؟ شو بيبقى؟ شو بيبقى يا حبيبي؟"

التركيبة اللحنية

إن فيروز تقولها تباعاً عبر ثنائيتين من الأسئلة، تتسمان بأنهما تنتهيان بنبرة استفهام استنكاري، نصوغه عادة في كلامنا العادي اليومي عندما نكون عارفين للجواب ورافضين له، حيث نرفع نغمة الجزء الأخير من العبارة أو الكلمة التي نستخدمها.

وإذا دققنا في تلك النهايات، نجد أنها تزيد من النبرة الاستفهامية بشكل تصاعدي، يرفع مستوى التوتر الداخلي للحن والكلمة بشكل خفي، ممهداً للتصاعد اللحني الأوضح الذي سيأتي في المقطع التالي.

اللحن في جملة "شو بيبقى من الرواية" مصاغ من درجتين فقط، إذ يرتفع من درجة سي إلى دو (نصف صوت موسيقي). أما لحن "شوبيبقى من الشجر" المركب أيضاً على درجتين، فيرتفع من درجة سي إلى مي، أي ما يعادل 2.5 بعد صوتي.

"شو بيبقى من الشوارع"، هنا نفس القفزة بالشطر الأول "شو بيبقى من الرواية"، أي قفزة نصف صوت موسيقي.

"شو بيبقى من السّهر؟"، هنا القفزة أطول من الأولى وتبلغ بمقدار 3.5 صوت، وهنا نلاحظ أن تكرار لحن الجملة الأولى لم يقد إلى تكرار ما حدث في السؤال الثاني، بل إلى تصعيد في اللحن.

من ناحية الإيقاع

نلاحظ أن ضربات آلة التامبورين لم تأت في أماكن الضغط القوي من اللحن (حيث يتزامن معه التصفيق الفطري لمستمع عادي)، أي الأماكن التي نحسّ بشكل فطري بوجوب وقوع الضربات فيها، بل أتت بانزياح زمني، يقال عنه في مصطلحات الموسيقى "سينكوب"، وقد خدم ذلك التعبير عن الإحساس بانفصال وتبعثر مكوّنات لحن هذه الجملة، كأوراق الشجر المتساقطة.

المرافقة الموسيقية

المرافقة الموسيقية مقتصرة فقط على ضربات واضحة يؤديها الجيتار، تسمى (الكوردات أو التآلفات)، متزامنة مع نهاية كل سؤال على حدة، ومكونة بطريقة تدعم الجمل الغنائية في رسم نهايات مختلطة بين الاستفهام والتّقرير والاستنكار المتصاعد في الأداء.

يتصاعد الاستنكار في الأسئلة: "شو بيبقى من اللّيل/ من الحبّ من الحكي/ من الضحك من البكي؟"، ويظهر ذلك التّصاعد، أيضاً في نفس المجالات التي تحدثنا عنها أعلاه وهي: اللحن والأداء الغنائي والإيقاع والموسيقى المرافقة.

شو بيبقى من الملاهي؟
من رصيف القمر؟
من الناس لي حبوا؟
من اللوعة من الضجر؟

من ناحية اللحن والأداء الغنائي، يتجلى التصاعد في وصل الأسئلة بعضها ببعض، خلافاً للانفصال الذي بدت عليه الأسئلة في البداية، ويتجلى أيضاً في ارتقاء النوتات تدريجياً على سلّم المقام، وصولاً إلى سقفه، ويترافق ذلك مع ارتفاع في قوّة الأداء الغنائي، وظهور جليّ لمشاعر الغضب والاستنكار.

أما من الناحية الإيقاعية، فالتصاعد يتجلى في تغيّر طبيعة الضربات الإيقاعية البسيطة التي رافقت المَغْنَى حتّى الآن، لتتضاعف سرعتها وتصبح أكثر وضوحاً وتوتراً.

أما المظهر الثالث للتصاعد في الأغنية فهو في المرافقة الموسيقية، فالمستمع لهذه الأغنية ربما قد يلاحظ الحركة المشحونة للموسيقى في الخلفية، وإذا حاول بعضكم التدقيق فيها وفي طبيعتها، رغم صعوبة ذلك في بعض المواضع، فسيجد أن الوتريات تبدأ بتصعيد لهجتها المتذمّرة المستنكرة، اعتباراً من بدء الغناء في المقطع السابق "شو بيبقى من اللّيل، من الحب، من الحكي؟"، وتشكّل تركيبات لحنية معقدة شيئاً فشيئاً، متحرّكة باضطراب بالغ ومتواترة بسرعة، تصل إلى الذروة مع عبارة "شو بيبقى يا حبيبي؟" التي تطيلها السيدة فيروز بشكل واضح، حيث نسمع في الخلفية الموسيقية لتلك الإطالة أو المد، صوت إعصار هائل من الوتريات، يهبط إلى أدنى درجة من المقام، ثم يرتفع مرة أخرى، ويصمت بشكل نهائي ومفاجئ مع نهاية الأداء الغنائي للجملة "يا حبيبي".

في هذه اللحظة تصطدم كلّ تلك الانفعالات والمشاعر بجواب بسيط وهادئ: "بيبقى قصص زغيرة".

يرافق هذا الجواب في الخلفية هبّات متخامدة من الغضب، تؤديها الوتريات عبر نبضات من التآلفات (كوردات)، ويعود الإيقاع المتمثل بالتامبورين إلى حظيرة الفطرة، حيث تعود ضرباته من مغامرة "السينكوب" إلى مكانها الطبيعي في نقاط الضغط القوي للحن، وفي هذا تعبير موسيقي بديع عن الفكرة الأساسية للنص، وهي الخلاصة المقصودة: "بيبقى قصص زغيرة"، واستطراداً في الجواب، وإكمالاً للصورة: "عم بتشردها الريح".

هنا تبدأ زوبعة الريح بالتشكّل، لتحمل معها تلك "القصص الزغيرة" إلى أعلى، وليبدأ الإيقاع بالتحول إلى شكل غربي راقص (جيرك)، وترسم الموسيقى صورة تشبه في تركيبتها حركة الرياح، وهي تحمل ما غنمته من "الرواية"، وتظهر خلالها ضربات البيانو واضحة وهي تتطاير في الريح، كما تظهر حركات التوزيع الداخلية لآلات الباص الوترية (تشللو وكنترباص) لتضيف غنى أكبر للموسيقى.

 تعود الموسيقى لترسم ذات الجملة الموسيقية التي مهّدت فيها للغناء بتكرار آخر لنفس القصة، إنما بكلمات أخرى: "شو بيبقى من الملاهي/ من رصيف القمر؟/ من النّاس اللّي حبّو؟/ من اللّوعة من الضّجر؟"

مرة أخرى، تساؤلات منفصلة، وبنفس اللّحن وطريقة الأداء والمرافقة الإيقاعية، لكن التوزيع اللحني في الخلفية هنا، يختلف عن المقطع الأول، فبعد عبارة "شو بيبقى من الملاهي" تماماً، تنبثق نوتة موسيقية طويلة جداً، تؤديها مجموعة الكمان في مستوى الجواب الحاد.

تحاول هذه النوتة أن تلفت نظر المستمع بحضورها أولاً، كونها لم تكن موجودة في المقطع الأول الشبيه، وبطبيعتها ثانياً، حيث تتخذ لها مكاناً عالياً بدت فيه بالغة الحدة، تحضيراً لأذن المستمع وتنبيهه للدور الذي ستؤديه في نهاية هذه الجملة. فمع عبارة "اللّي حبّو" تنزل تلك النوتة الموسيقية المرافقة لتنفصل عن مسارها بشكل متوتّر جداً، وكأنها تتفلّت منه، لتعبّر بشكل رمزي عن نهاية علاقات الحب التي تتحدث عنها العبارة.

هنا تستوقفني هذه الملاحظة، لأعود وأتذكر الكثير من الملاحظات ذات العلاقة، حيث يمكننا الحديث مطوّلاً عن علاقات الحب ومفهومه عند الأخوين رحباني، وهو أمر تمّ التطرق إليه أيضاً ومقاربته من خلال مقالتي السابقة "شهيدة ونعمان".

"بيبقى قصص زغيرة" تجيب فيروز قبل تتابع "عم بتشردها الريح"... وترسم موسيقى الرحابنة صورة تشبه في تركيبتها حركة الرياح تظهر خلالها ضربات البيانو واضحة وهي تتطاير فوق الريح

وفي هذا السياق، ربما نلاحظ بعض الملاحظات الغريبة:

فيروز لم تظهر مرة واحدة بعلاقة حب عادية، ولم تظهر مع زوج أو وأولاد، فهي إما أن تكون بنتاً مرصودة، تنتظر الحب للخلاص من الرّصد على "جسر القمر"، أو بنتاً تعيش مع أبيها، أو خالها كما في مسرحيات كثيرة، أو فتاة تعيش مع جدتها، يجبرها عطل سيارتها على البقاء في قرية نائية اسمها ميس الرّيم، تحمل فستان زفاف، ولكنه ليس لها، بل لفتاة غيرها، أو فتاة فقيرة تُزَفُّ لملك سيلينا دون حب، في مسرحية "هالة والملك"، أو تفارق حبيبها الهارب من سفر برلك، أو تنتظر بياع الخواتم ليخطبها لحبيب مجهول.

وبالعودة لأغنيتنا، فإنه من الطبيعي بعد استعراض هذه الملاحظات، أن نجد ذلك التلميح الموسيقي الرحباني الذكي واللافت المرافق لعبارة "الناس اللي حبوا".

وفيما عدا الفرق المذكور، تسير الأمور بتوزيع شبيه للمقطع السابق ولكن بكلمات مختلفة: "شو بيبقى من البحر من الصّيف من المضي/ من الحزن من الرّضى؟/ شو بيبقى؟/ شو بيبقى يا حبيبي؟"، وأيضاً يبقى "قصص زغيرة عم بتشرّدها الرّيح".

تتكرر نفس الزوبعة من الريح لتحمل معها هذه المرة، إضافة إلى نوتات البيانو، صوت فيروز ذاته الذي يطير مع النغمة هنا، ثم يتلاشى بشكل غير ملحوظ، ثم يبدأ التمهيد لمقطع جديد بلحن جديد، يبشّر به التغيير الواضح بتنفيذ إيقاع الجيرك، فهنا تنضمّ إلى الإيقاع تنويعات بسيطة جداً ولكنها مهمة، حيث نسمع من خلالها صوت عجلات قطار.

عجلات قطار، يعني أن هناك سفر، أي غربة وتغريب، وهذا ما تؤكّده الكلمات التي تؤديها السيدة فيروز بعد ذلك: "مع قصص الريح غرّبني، ع شطوط العمر غرّبني"، وترتفع طبقة اللحن عند طلبها: "واكتبني اكتبني/ ع الورق اكتبني/ ع الحزن وع الزّهر/ ع الصّيف وع البحر/ ع الشّجر/ وع الضّجر/ وع السّفر اكتبني/ اكتبني…".

نلاحظ أن كلمة "اكتبني" تكررت خمس مرات في المقطع الأخير.

لماذا تتكرر كلمة معينة خمس مرات في جملة قصيرة كهذه؟ لماذا هذا الرّجاء المبالغ به في الكلمات وأسلوب الغناء؟ ولماذا تطلب كتابتها وإحياءها كل تلك الأشياء؟ الورق، الحزن، الصيف، البحر، الشجر، الضجر.

الجواب بكل بساطة: أن تكتبني يعني أن تدفع بي في الزمن إلى الأمام دائماً، فتخترق بي الأزمنة وتخلدني، حيث الخلود هو الحلم الأزلي للكائنات. فإن لم تفعل هل تعلم ماذا سيحدث؟

تأتي الإجابة فوراً: فالق حاد يقصم ظهر نوتة الغناء العالية التي تغني فيها السيدة فيروز كلمة اكتبني الأخيرة، حيث تسقط من علياء المقام إلى أسفله.

هناك، حيث لا يبقى سوى "القصص الصّغيرة" التي "تشردها الريح"، والتي لن يعرفها أحد.

الآن نستطيع أن نستنتج لماذا قام الرحابنة بصنع "ناس من ورق"، كتبوهم على الورق، أو "قصقصوهم" من ورق.صمت طويل جداً، يبتلع قصصاً وأشخاصاً لم يُكتبوا على الورق، فلم يقرؤهم أحد، ولم يثبِّتْهم أحد في ذكرى من ذكريات الحياة: الصيف، البحر، السفر، الشجر، الضجر.
هؤلاء ليسوا إلا أوراقاً صفراء يابسة، ستعود الريح لتذريهم على طرقات العدم ومنافيه، وهذا ما ترمز إليه العودة إلى بداية الأغنية.

فأن نكتب الناس يعني أن نخلدهم، ونصل شطرات الأزمنة ببعضها البعض تعبيراً عن الخلود المنشود، وفي أغنية "قصقص ورق" من نفس المسرحية دليل آخر يتلاقى مع القراءة السابقة لأغنية "شو بيبقى من الرواية".

"قصص ورق/ ساويهم ناس/ قصقص ورق على اسم النّاس/ سمّيهم بأساميهم ونحاكيهم بيصيروا ناس/ أنا كتبني ورقة على اسم البكي/ لوّنها بالفرقة بهموم الحكي/ وبكّيني/ وغنّيني/ وخبّيني عن قصص النّاس".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image