منذ وفاة المخرج حاتم علي، استيقظ بداخلي وعي لمكوّنات شخصيتي لم أكن قد وقفت أمامه بهذا الانتباه من قبل.
صحيح أنني مثل كثيرين أقتات على ذاكرتي، ولا أكفّ عن سرد ذكرياتي واستحضارها والاتكاء عليها، في أقوالي وأفعالي القصدية وسلوكي اللاشعوري، وحتى في أحلامي وكوابيسي، إلا إنني لم أقف مرّة لأتأمّل بنظرة تفكيكية في جزيئيات شخصيتي، التي وجدتني أقف أمام واحدة من أعذبها بوفاته. كأن هذه الخسارة أعادت كثيراً من السوريين إلى سوريّتهم العذبة المفتقدة، فاتّجهنا جميعاً، مثل موجة حزن عنيفة اجتاحت دمشق، في مشهد وداعه الأخير.
عقب ذلك الوداع بدأت ذكريات غائرة كثيرة تطفو على سطح الشعور، وهنا أستحضر فيلم الأنيميشن الرائع Inside out الذي يقدّم هذه العملية المعقدة، من خلال تصوير الذكريات على أنها كرات ملوّنة مرصوصة بالألوف في حاويات أسطوانية زجاجية ضخمة، كل لون منها يرمز إلى الشعور المرتبط بالذكرى، وحسب المواقف التي تعيشها الطفلة، بطلة الفيلم، كانت الكرات/ الذكريات تتدحرج إلى مركز التحكم الذي يمثل ساحة الشعور، ونرى هذه الطفلة تعيش صراعات نفسية وشعورية تبعاً لألوان الكرات المتدحرجة، لا سيما حين تكون الكرة واحدة من تلك الغائرة التي يقذف بها اللاشعور فجأة.
كأن هذه الخسارة أعادت كثيراً من السوريين إلى سوريّتهم العذبة المفتقدة، فاتّجهنا جميعاً، مثل موجة حزن عنيفة اجتاحت دمشق، في مشهد وداع أخير.
هذا ما حدث لي تماماً، بدأت الكرات تتدحرج إلى ساحة شعوري، وجميعها متعلقة بكرة حاتم علي والدراما السورية وشارات المسلسلات ومخرجيها ومؤلفي الموسيقى التصويرية.
مرّ شهران على رحيله، وبإمكاني القول بأن ذاكرتي انقلبت رأساً على عقب خلال هذه الفترة، وتبلورت نظرتي لمن أكون وما شكّلني بشكل أوضح وأكثر دقّة. باختصار، طفت سوريّتي على السطح، وعدت إليّ في أواخر الثمانينيات (كوني من مواليد عام 1984) ولم أبدأ أعي المسلسلات قبل عام 1988. وهنا أعترف أنني ذُهلت حين علمت أن مسلسل دائرة النار -أول أعمال حاتم علي التمثيلية- كان في ذاك العام، بينما كنت أنا، ابنة السنوات الأربع، أحد متابعيه.
بقيت على هذه الحال إلى أن صدمني خبر قبل أيام قليلة يتعلّق بمرض المطربة السورية ميادة بسيليس، التي تشكّل أحد أعمدة أساس ذائقتي الموسيقية منذ طفولتي، وهنا تبدأ الكرات بالتدحرج.
كرة دويتو الأختين
من أولى أغاني بسيليس التي أتقنت غناءها أغنية "اذكري أيام كنا في سمر"، في حين لم أكن أتجاوز التاسعة على ما أتذكر، وكنا أختي وأنا نشغّل شريط الكاسيت الذي يبدأ بهذه الأغنية ونتشارك غناءها، في دويتو طفولي باهر لطالما وصل إلى أسماع جيراننا الذين كانوا لا يكفون عن سؤال أمّي عن المناسبة التي كانت عندنا في اليوم السابق، لتجيبهم خجلة بأن ابنتيها تحبّان الغناء والموسيقى لا أكثر.
ولم نكن نكفّ عن الغناء مروراً بأغاني الكاسيت كلها التي تنوعت أجواؤها بين الراقص مثل "لَارْسِل سلامي لسالم" والحزين مثل أغنية "سليمى"، وهنا تتدحرج كرة أُخرى.
كرة الخال
لم تهب الحياة أمّي أخاً، وبالتالي لم تهبني أيّ خال، لكنّي كنتُ أنادي أخوال أمّي "خالو" وكان لهذه الكلمة وقع محبّب في قلبينا أختي وأنا حين نلفظها. وكان لخالو عبدالله، المقيم في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، قصّة عشقه المميزة لميادة بسيليس، وتحديداً لأغنية "سليمى".
عاد بعد سنوات عديدة من الغياب في زيارة إلى سورية لأدهش بشخصيّته التي سمعت عنها الكثير من أمّي وجدّتي. كان طفلاً بشعر أشيب، حنوناً، ومرهف الإحساس. لا يكاد يتكلم عن شيء إلا وتسيل دموعه على خدّيه. لا يكفّ عن عناقنا والاعتراف باشتياقه للأهل والبلد. طلب من أختي أن تؤمّن له شريط الكاسيت نفسه لأنه يحبّ صوت ميادة كثيراً، وفهمنا يومها أن لأغنية "سليمى" ذكرى ما في قلبه.
أهدته أختي نسختين من الشريط، فكاد يطير من الفرح والتأثر وطلب إليها أن تُسمعه إياه فوراً. ما زلت أراه كيف أغمض عينيه وراح يهزّ رأسه منتشياً بحلاوة الصوت وعذوبة الذكرى. مرت سنوات بعد زيارته تلك ليعود في 11 سبتمبر 2001. ذهبنا لاستقباله في دمشق لكنه لم يلبث أن وصل مع زوجته الأمريكية إلا وكان برجا التجارة يشتعلان، فكان لقاء ووداع في آن، لأن زوجته كانت متوترة للغاية ومرتابة من تبعات الحدث الجلل، ولم تكن قادرة على الانتظار لحظة، فاضطر مجبراً للعودة، إرضاء لها ورأفة بأعصابها في غمرة استغرابنا ردّة فعلها واستنكارنا لها، نحن العرب المساكين الذين سقطت البلاد فوق رؤوسنا لكننا ظللنا نعيش حالة نكران لواقع خرابنا المطلق.
توفي خالو عبدالله ولم يستطع العودة بعدها، لكنّه أوصى أن يحرقوا جثمانه ويحتفظوا برماده. أتساءل، تُرى هل تبقى الذكريات محفوظة في ذرّات الرّماد تلك؟
تقسو الحياة لكنّها تكمل، ويبقى صوت ميادة بسيليس يحرّض حبّ الحياة فينا: هيك ضلّك.. عم تفتح قلبك لكل حدا، وحامل جرحك وماشي بهالمدى
كرة الكنيسة الملوّنة
تقع بطريركية الروم الكاثوليك في حيّ بستان الديوان بحمص. تلقّب هذه الكنيسة بالكنيسة الملوّنة بسبب زجاجها الملوّن. لطالما استقبلت أكبر الاحتفالات الدينيّة وكان لها حضور مميّز في موسم عيد الفصح تحديداً.
أواخر التسعينيات، استضافت الكنيسة الملوّنة المطربة ميادة بسيليس، لإحياء أمسية ترنّم فيها ترانيم الآلام، وعلى الرّغم من تواجدنا قبل ساعة ونصف من موعد الأمسية إلا إننا وجدنا الزّحام قد وصل إلى منتصف الشارع. لكن الجميل أنّهم وضعوا مكبرات الصوت في باحة الكنيسة، حيث استطاع الناس الواقفون خارجاً سماع الترانيم.
كان حضورها كرنفالاً حقيقياً، لذا كررت البطريركية دعوتها في سنوات لاحقة.
في تلك الفترة كانت أغنية "كذبك حلو" من الأغنيات المفضّلة لدى المراهقات، وكان لا بدّ لكل فتاة لم تعش مثل هذه القصّة أن تتخيّل أنها تعيشها حين تسمعها.
ومع مسلسل "نساء صغيرات" بدأت أتلمّس ذلك الخيط الساحر الذي يربط مسلسلات المخرج باسل الخطيب، بموسيقى سمير كويفاتي وصوت ميادة بسيليس.
تتدحرج الكرات لأصل إلى كرة "حنين"، كرة سقوط بغداد عام 2003.
مع مسلسل "حنين" الذي أبدع المخرج الخطيب في تشكيل مشاهده والموسيقي كويفاتي في تأليف موسيقاه التصويرية والفنانة بسيليس في غناء شارته التي كتب كلماتها الشاعر الحلبي سمير طحان، عرفت كيف يمكن لقلبي أن يذوب، وترسّخت لدي القناعة بذلك الخيط الساحر بين هؤلاء المبدعين.
كرة الحبّ
عام 2006 وقعتُ في الحبّ. وبينما كنتُ في زيارة لمدينة دير الزور للمرة الأولى في حياتي، ضمن مهرجان اتحاد الشبيبة الأدبي، كانت إرهاصات الحبّ تفتك بقلبي وجسدي. كنّا في الباص نتّجه إلى الجسر المعلّق حين باغتني صوت أعرفه جيداً يغني "يا محلا الفسحة"... نعم، إنها ميادة، استغربت كيف لم أسمعها منها من قبل، وأذهلني أنها أجمل مرة أسمعها فيها. سألت نفسي حينها: أتراه الحبّ هو من جعلني أشعر بهذا أم أنها حقّاً أجمل من غنّاها؟
سألت نفسي حينها: أتراه الحبّ هو من جعلني أشعر بهذا أم أنها حقّاً أجمل من غنّاها؟ مرّت السنوات وعلمتُ أنّ السؤالين لهما إجابة واحدة هي نعم، فميادة بسيليس لا تنفصل عن الحبّ
مرّت السنوات وعلمتُ أنّ السؤالين لهما إجابة واحدة هي نعم، فميادة بسيليس لا تنفصل عن الحبّ.
تقسو الحياة لكنّها تكمل، ويبقى صوت ميادة بسيليس يحرّض حبّ الحياة فينا:
هيك ضلّك..
عم تفتح قلبك لكل حدا،
وحامل جرحك
وماشي بهالمدى
يمكن شي هوا
يرجّعنا سوا
ويغمرنا الحنين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع