قرأت قبل فترة قصة قصيرة للسورية المقيمة في هولندا سناء عون بعنوان "صور مقطبة"، تتحدث فيها عن أمّ فقدت ابنها في الحرب، وفي حمى بحثها عنه وعدم الاهتداء إليه، صار شغلها الشاغل أن ترفو صوره الممزقة بقطع من فستانها، وتُلوِّن الثقوب بقلم أزرق، وكأنها بذلك تُعيد بناء ذاكرتها عنه، وترمم حنين فَقْدِهَا وحنان أمومتها المستلبة، عبر ألبوم خاص نشرت صوره على أحد جدران منزلها الذي التهمه صاروخ، مقيمةً معرضاً خاصاً عن الذاكرة بوصفها "حارسة الزمن"، بحسب تعبير الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار.
الصورة باعتبارها مقاومة للزمن، قادرة على قلب "نيغاتيف" حاضر الحياة إلى خلايا نابضة باستحضار الماضي، وإعادة تمثُّل أفراحه وأحزانه، وجومه وابتساماته، خوفه وأمانه. كل ذلك يستدعي الاحتفاظ بألبوم الصور كوثيقة إثبات لما كُنَّاه، ومحاولة منح الماضي ديمومةً ما، عبر الاحتفاظ بلحظات لا نُريد أن تُنسى.
وكما يقول المؤرخ الفرنسي روبنيل، فإن "الزمن هو واقع محصور في اللحظة ومعلَّق بين عَدَمَين"، أي أننا نُريد أن نصعق الموت ونَنْوَجِدَ مرَّة أخرى، من خلال تقليب ألبوم الصور. وسواءٌ أكان ألبوماً تقليدياً، أم مُجلداً على حواسبنا المحمولة وهواتفنا النقالة، فإن الحنين هو سيد الموقف، لدرجة أن كثيرين منا يعتبرونه من الوثائق الرسمية التي ينبغي اصطحابها في حال اضطررنا للنزوح من منازلنا، وإلا بقي جزءٌ منّا معرَّضاً للضياع أو التلف أو السرقة.
نحب ونرغب بالاحتفاظ بألبوم الصور كوثيقة إثبات لما كُنَّاه، ومحاولة منح الماضي ديمومةً ما، عبر الاحتفاظ بلحظات لا نُريد أن تُنسى.
ويمكن أن ينطبق على ألبومات الصور وصف "كاتدرائية الاستذكار الهائلة" الذي يُطلق على رواية "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست، ففي هذه الألبومات بحث عما فقدناه، عن أشخاص غَيَّبَهم الرَّحيل المُرّ، عن أماكن باتت رهينة الخراب أو الغياب الاضطراري، عن أزمانٍ تتكاثف فيها الضحكات والإيماءات الخجولة وحتى التَّغضُّنات الآسرة لوجوه من نُحِبّ، حتى يكاد الرُّجوع إلى صُورِنا كأنه ترداد لأغنية محفورة في أعماق وعينا، أو على الأقل رَجْعُ صدىً مُغمَّسٌ بالحنين لما نتمنى أن يعود.
لم يبق من ذاكرتي سوى الكلام
يحكي أحمد كمال الموسى، مدرس الرياضيات والخطَّاط والفنان التشكيلي، لرصيف22، قصّة فقدانه "ذاكرته المُصوَّرة" كما يُسمِّيها، منذ طفولته حتى لحظة رحيله القسرية عن مدينة الرقة.
يقول: "كنّا نُخبِّئ ألبوماتنا مع الذهب لأنها غالية جداً علينا، لكن نزوحنا كان مفاجئاً، فبعد تفجير الجسر المخصص لعبور نهر الفرات، اضطررنا لقطعه بزوارق محلية الصنع، ولم تكن لدينا مهلة لجلب أي شيء من حاجياتنا، بحيث لم يبق لدي الآن أي شيء مُصوَّر يربطني بماضيّ، ابتداءً من طفولتي وصوري مع أبي وأمي وأخوتي وفي المدرسة، مروراً بصور طلابي وزملائي وأصدقائي بعد أن درَّست لأكثر من 30 عاماً في مدارس الرقة ودمشق".
هذا الغياب المفاجئ للصور اضطر الفنان ذا الأعوام الثلاثة والخمسين لإعادة رسم ذاكرة جديدة لأبنائه، فعندما يسأله ابنه الأصغر عن ملامح جده، وهل كان له شاربان أم لا، يستدعي أحمد ذاكرته ويحاول رسم وجوه أفراد العائلة الغائبين، غير عالِمٍ مقدارَ اقتراب رسوماته من الحقيقة، "لذلك أعتقد أن ابني يُعيد تدويرها في مخيلته، وصدِّقني أن ذلك مؤلمٌ جداً".
كنّا نُخبِّئ ألبوماتنا مع الذهب لأنها غالية جداً علينا، لكن نزوحنا كان مفاجئاً ولم تكن لدينا مهلة لجلب أي شيء من حاجياتنا، بحيث لم يبق لدي الآن أي شيء مُصوَّر يربطني بماضيّ، ابتداءً من طفولتي وصوري مع أبي وأمي وأخوتي وفي المدرسة، مروراً بصور طلابي وزملائي
ويضيف: "لاعتقادي أنني قد أعود لبيتنا في الرقة، خبأت ذاكرة موبايلي داخل عمود الستارة، لكن البيت استحال رماداً، ومنذ فترة جاءني أحد الأشخاص بما وجده بين الرُّكام: عقد البيت ومجموعة من الصور الملتصقة بفعل الأمطار. لم أهتم إطلاقاً بالعقد، بل بدأت أحاول فصل الصور بعضها عن بعض، والمحافظة عليها قدر الإمكان، وعثرت على صور بحالة جيدة نسبياً ونسختها، فمن الصعب ألا يبقى لدى المرء من ذاكرته سوى الكلام. الصورة عموماً وثيقة صادقة وليست كالكلام الذي يحتمل التكذيب".
كأنني أمام مقصلة
تقول المترجمة ومصممة الأزياء السورية يمام مسوح لرصيف22: "لم تكن الصور قديماً للتسلية كما اليوم، بل كانت توثيقاً جدياً للحظة، وقد تأخذ منا دقائق من التركيز ونحن نحاول ضبط الأنفس حتى نكاد ننفجر ضحكاً. لا مجال للخطأ هنا، فالعدد محدود والهدر مرفوض. نكدّس ابتساماتنا، ونرصّ رائحتنا وأصواتنا وأحلامنا لنخبئها كلها في صورة واحدة، نَصُرُّها مع مثيلاتها كالمؤن للشتاءات القادمة، كمن يخبئ في حصالته قِرْشَهُ الأبيض ليومه الأسود".
من ألبومات صور المصممة يمام مسوح
تمتلك يمام المقيمة في دمشق ذكريات غنية، وفق وصفها، فلديها آلاف الصور التي التقطتها بكاميرا والدها الكانون الصغيرة المرافِقة لها أينما ذهبت، تقول: "في المدرسة والرحلات وبيت جدي في القرية، وعمتي التي رحلت وبقيت ضحكتها تعلو كلّما فتحت ألبوم الصور، ومشوارنا الأول وحدنا أنا وصديقات المدرسة عندما صادفنا أستاذ الجغرافية المرعب ونحن نتعانق لنأخذ الصورة، ومن شدة ذعرنا منه صوّرنا أقدامنا فقط، وأيضاً رحلتي الأولى إلى مدينة تدمر ومن خلالها تصورت وأنا أهوي عن ظهر الجمل محاولةً الابتسام للكاميرا برغم ذلك".
وتكمل: "كنت أعاني من تصنّع الابتسامة أمام الكاميرا، فلم يكن هذا بالأمر السهل عليَّ، كنت إما أبالغ بها كالمهرجة، أو أطبق وأَزُمُّ شفتيّ وأفتح عينيّ كأننّي أمام مقصلة. اليوم نأخذ يومياً عشرات الصور للشوارع والأحذية، لثيابنا وطعامنا وسهراتنا، والمئات من السيلفيات، لنحتفظ بواحدة فقط نشاركها على صفحاتنا على مواقع التواصل، ونحذف الباقي بمنتهى البساطة، على خلاف المشهد وأنا أرى أمي تمزق صورتها مع صديقتها منذ أكثر من عشرين سنة، حينها أدركت أننا لن نرى هذه الصديقة في بيتنا بعد اليوم".
بالنسبة ليمام، كانت الصور مواقف حيّة مع كل ومضة ننفخ بها الروح، أما اليوم فصورنا تشبه النزوات العابرة، وهي تعتقد بما يقوله أنيس منصور: "الماضي جميل لأنه ذهب، ولو عاد لكرهناه"، لأن ذاكرة الألم قصيرة، وأثر الضحكة كالفراشة لا يزول، لذا نَحِنّ لما مضى.
من ألبومات صور المصممة يمام مسوح
نحن أبناء الهَبَاء
يقول الصحافي السوري جواد ديوب لرصيف22: "تخطرُ في بالي بدايةً حين تسألني عن ألبومات الصور، علاقةُ الإنسان بالزمن، بالمشاعر التي نحاول أن نؤبّدها على شكل صور هي بطريقة ما إشارةٌ إلى أننا أبناء الهباء، وأننا لا نعدو كوننا ذاك الصوت المثير المنبعث من مِغلاق العدسة: «تشك»! وأننا حين كنا نبتهج ونحن نلتقط تلك الصور، لم يكن قصدنا فقط أنْ نعينَ الذاكرةَ على تحمّل ثقل الغياب والفقدان المحتملين، بل كنا من دون أن ندري نؤكّدُ على الشيء الوحيد الذي لا نستطيع إيقافه: الموت!".
ويتساءل ديوب المقيم بمدينة صحنايا في ريف دمشق: "لماذا يحتفظ العاشقُ بصور معشوقِه؟ لماذا يصرّ المُحبّون على الاحتفاظ بصور أحبّتهم؟ أَلِأنّ الذاكرة تخونُهم في استرجاع لون عيونهم أو عرض الحاجبين وشكل الأنف وعدد الشامات التي تغزّلوا بها كما لو أنها نجوم درب التبّانة؟ أم هو ذاك الخوف البدائيّ العميق من الزمن، مِن تحوّلٍ مفاجئ يُغيّر "كلَّ شيء كائن" بضربةٍ مِن مخلبِ الفقدان إلى "الشيء الذي كان"؟ إنه ربما ذاك الخوف من أن تُخدَشَ أو تتمزّق الصورة الذهنية المألوفة والقريبة إلى القلب؛ لذلك يرعبنا أن تتلفَ صورةُ من نُحب خوفاً من أن ينتقلَ ذلك التلف الفيزيائي بشعوذةٍ شيطانيةٍ ما إلى جسدِهِ الواقعيّ الملموس فيفقُدَ كونه الجسدُ المحبوبُ والمشتهى!".
سواءٌ أكان ألبوماً تقليدياً، أم مُجلداً على حواسبنا المحمولة وهواتفنا النقالة، فإن الحنين هو سيد الموقف، لدرجة أن كثيرين منا يعتبرونه من الوثائق الرسمية التي ينبغي اصطحابها في حال اضطررنا للنزوح من منازلنا، وإلا بقي جزءٌ منّا معرَّضاً للضياع أو التلف أو السرقة
هزيمة الموت
فنانة التصوير الضوئي أسمهان حامد تعبر عن رأيها بالتصوير الفوتوغرافي بالقول: "هو لغة يقدم من خلالها الفنان البصري صوراً متنوعة، منها ما يكون مفتوحاً على عدة تأويلات بصرية، ومنها ما يطرح تساؤلات من خلال ثنائية التشابه والتنافر، ومنها ما يحتفي بجمال الكون وكائناته ومكوناته، ومنها ما يقدم سرداً ضوئياً لمواقف اجتماعية أو سياسية أو ذاتية، وهنا تتجلى قوة الصورة أي قدرتها على إحياء الماضي ونفخ الروح بالأشخاص والأمكنة، وبالتالي هزيمة الموت والانتصار على الزمن بشكل من الأشكال".
من صور الفنانة أسمهان حامد
أما في ما يتعلق بالحنين لألبوم الصور، فتقول حامد، وهي من بلدة وادي العيون بمحافظة حماه: "افتقدنا وجوده وتجديده بين ممتلكاتنا الشخصية كشيء محسوس ملموس نتيجة طغيان الثورة الرقمية، فكانت الأفلام التي تتحمض وألبوم الصور ضمن ضحايا هذه الثورة"، لافتةً إلى أن "العلاقة بألبوم الصور تتباين بين الناس، هناك من يهرب منه ويشعر بعدائية تجاهه، وهذا نابع من مواقف تتعلق بذكرياته عن ماضيه، وهناك من يشعر بكثافة عالية من الشوق والحنين لكل شيء قديم، ويعتبر الألبوم ملف حنين، ملف الزمن الجميل، ملف الماضي الذهبي".
وكيفما كانت علاقة المرء مع صُوره، قبل الفقدان وبعده، أو قبل عمليات التجميل وتبديل السّحنات وبعدها، وسواءٌ أكان زمن التقاطها أجمل وأبهى وأقل مرارة من الحاضر، أم كان صعباً أقرب إلى الغصة، وبغض النظر عن انتباهنا إلى أهمية توثيق تلك اللحظة في حينها من عدمه، يبقى "الحنين ندبةً في القلب وبصمةُ بلدٍ على جسد. لكن لا أحد يحنُّ إلى جرحه.. لا أحد يحن إلى وجع أو كابوس. بل يحن إلى ما قبله. إلى زمانٍ لا أَلَمَ فيه سوى أَلَمُ الملذات الأولى، التي تُذوِّبُ الوقت كقطعة سُكَّرٍ في فنجان شاي" كما يقول محمود درويش ضمن ديوانه "في حضرة الغياب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع