على جدران طنجة علقت "منشورات" متطرفة تدين "لباس وسلوك" النساء في المدينة التي كانت رمزا للحرية طيلة القرن العشرين. لكنها بدل أن تخيف نساء المدينة تعالت الأصوات منددة بسلوك المتطرفين الذين يرغبون في فرض الوصاية على أجساد النساء.
انتشرت في طنجة الكثير من الأفكار الرجعية والمتطرفة التي تحلّل وتحرم ، وازدادت نسبة التحرش كما ارتفعت نسبة الشباب المتطرف المستعد للذهاب إلى جبهات القتال
"لم أستغرب بتاتا من انتشار هذه المنشورات ربما لأنني لاحظتُ انتشار الفكر المتشدد لدى الكثير من الشباب خلال زياراتي المنتظمة إلى مدينتي بعد أن فارقتها خلال مرحلة الجامعة"، تعلقُ سلمى على الملصق الذي التُقِطت صورته في أحد شوارع طنجة المغربية، وسرعان ما انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي.
المنشور الذي أثار غضب نساء المدينة، جاء فيه: "يُشرفني أن أتقدم بالتوبيخ للآباء والأمهات عديمي الشرف والحياء والدين، الذين جعلوا الشوارع تفوحُ بالإباحية ومتعوا الكثير من الناس بمفاتن بناتهن في سن الزهور (...) جميعهن بالبناطيل القصيرة والبناطيل الضيقة، حتى الملابس الداخلية أصبحت تظهر بوضوح".
"عروس الشمال" تغيرت
تقول سلمى، في حديث لرصيف22 "انتشرت في طنجة الكثير من الأفكار الرجعية والمتطرفة التي تحلّل وتحرم ما تشاء، وازدادت نسبة التحرش بشكل ملحوظ كما ارتفعت في المقابل نسبة الشباب المتطرف المستعد للذهاب إلى جبهات القتال لما يصفه بالجهاد".
وأضافت: "كلما حللتُ بطنجة أتعرضُ لملاحظات من الغرباء حول مظهري وأضطر إلى ارتداء ملابس "محافظة" حينما أخرج وحيدة، لأتفادى عبارات مستهجنة من قبيل "لا حول ولا قوة إلاّ بالله" والنظرات الغريبة. فأنا غير مستعدة لأتعارك مع الجميع في الشارع".
لا تزال سلمى تحتفظُ بصور جدتها وهي ترتدي فساتين صيفية في ستينيات القرن الماضي بشوارع طنجة، دون أن تتعرض لأي تحرش أو مضايقات. في الزمن الذي كانت فيه المدينة دوليةً يعيش فيها أجانب من كل الجنسيات، كانت الشواطئ مسموحة فقط لمن يرتدين ملابس البحر "البيكيني" والسراويل القصيرة "الشورت" للرجال في أجواء يسودها الاحترام المتبادل". تحكي سلمى، وهي تستحضر ذكريات يرويها أفراد عائلتها عن التعدد الثقافي في المدينة وتضيف "كانت هناك النساء اللواتي يرتدين الحايك أو اللثام، وترتدي بناتهن ملابس عصرية أنيقة دون أن يلتفت إليهن أحد ودون وصاية من أحد".
تضيفُ سلمى، وهي تتأسف عما آل إليه الوضع في عروس شمال المغرب، "بين الأمس واليوم، تغيرت ملامح طنجة كثيرا، بداية حينما بدأت تتسلل إليها بعض الأفكار المتشددة في التسعينيات مع انتشار الفكر الوهابي والجهادي مع شيوخ الشرق، ثم في السنوات العشرين الأخيرة التي شهدت تحولا كبيرا في تركيبتها السكانية"، إذ أصبحت مدينة عمالية تزايدت فيها مظاهر الفقر.
عقول متشددة ومتطرفة
من جهتها، لم تستنكر لينة إبريز، ابنة مدينة طنجة هي الأخرى، الخطاب الديني الذي تضمنته المنشورات، وما أثارته من جدل. بالنسبة إليها ما حدث يعكسُ طريقة التفكير التي تتبناها وتحاول فرضها فئة كبيرة من سكان المدينة.
كانت الشواطئ في طنجة مسموحة فقط لمن يرتدين "البيكيني" و "الشورت" للرجال، واليوم يرغبون في فرض تطرفهم. نساء طنجة المغربية يواجهن المتطرفين
وتوضحُ لينة، في حديث لرصيف22 "ما نُشر هو مثال عما تعيشهُ النساء في طنجة، فكل زي لا يوافق المعايير المحافظة سيكلفُ صاحبته سيلاً من التعليقات السلبية والنظرات التي قد تصل إلى التحرش الجسدي أو حتى إلى العنف، دون الحديث عن التحرش اللفظي الذي تواجهه كل النساء مهما كان شكل الملابس التي يرتدينها".
وتتفق لينة مع ما أوردته سلمى، بخصوص المتغيرِ الثقافي في المدينة، بالقول "المحزنُ في الأمر هو أن هذه الأفكار والمعايير دخيلة على ثقافة المدينة الأصلية التي كانت في ستينات وسبعينات القرن الماضي نموذجا للتفتح وللحداثة واحترام الآخر وحرياته، فما كانت ترتديه أمي وصديقاتها حينها ويعتبر زيا عاديا وطبيعيا صار اليوم يعتبر عريا ولا أخلاقيا".
"مجتمعنا شهواني"
ولم تعتقد حفصة أغبالو، البالغة من العمر 23 سنة، أن تجد المنشورات التي يتحدث عنها رواد مواقع التواصل الاجتماعي، ملصقة على جدار منزلها. لسوء حظها لم تكن قامتها طويلة كفاية لتزيلها من الحائط، ما زادها حنقا وغضبا شديدين.
تحكي حفصة، وملامح الصدمة لا تزال مُخيمة عليها "عندما انتبهت لوجود المنشور على جدار بيتي، وبعد الدهشة التي خيمت عليَّ، تساءلت كيف يمكن لشخص أن ينظر إلى فتاة في عمر 13 بعين الغريزة، وتساءلت هل فعلا هو إنسان أساسا أم ماذا؟".
تضيفُ حفصة، في حديثه لرصيف22، "لم أتمكن من إزالة الملصق لقصر قامتي، لكن بعد دقائق تداركتُ استغرابي، وتذكرت أنني أعيش في مجتمع لا يزال يعتبر المرأة عورة وهي أصل الفتن والفساد، ولا ينظر أساسا إلى إنسانية الإنسان، بل يبحث عن مظهره ليحكم عليه".
حفصة التي سبق وتعرضت لمضايقات شديدة في مدينة طنجة، بالرغم من ارتدائها "الحجاب"، تتساءل بغضبٍ بادٍ على وجهها الطفولي "كيف يمكن لنا أن نغير عقليات جامدة ملفوفة بالكبت والنظرة الشهوانية للفتاة، ما نعانيه لحظة خروجنا من بيوتنا صار مستفزا، واليوم صرنا في مواجهة خطاب ديني متشدد، يمكن أن يتحول إلى عنف".
كفى من الإرهاب!
وإلى جانب سلمى، لينة، وحفصة بنات مدينة طنجة، تواصلنا مع مريم بليل (25 سنة)، القاطنة بمدينة الرباط، وهي باحثة في القانون. أكدت بليل، في حديث لرصيف22، "أعتبرُ المنشورات نوعا من الإرهاب، لأنها تتضمن خطابا عنيفا، إذا سيطرَ على المجتمع سنكون أمام مشكلة كبيرة، لأن خطاب العنف ينتج حقدا مجتمعيا وسلوكيات عنيفة".
وأضافت "لا يجب التعامل مع ما نُشر بشكل عادي، لأن الذي نَشر ذلك الخطاب المتطرف هو نفسه الذي يعتقدُ بما يوجد في النص الديني، من النصح بالقلب ثم باللسان ثم باليد. هذا المتطرف يمكنه أن يتدخل بيده إذا أتيحت له الفرصة، وهذا فعل تأسيسي للعنف وللإرهاب"، تقول بليل، التي تفضِّلُ أن تعرف نفسها "بالناشطة النسائية، في مجتمع تنخره العقليات الذكورية الجامدة".
هذه الأفكار والمعايير دخيلة على ثقافة المدينة الأصلية التي كانت في ستينات وسبعينات القرن الماضي نموذجا للتفتح وللحداثة واحترام الآخر وحرياته
وتضيفُ "نحنُ نعيش في مجتمع يمارس المحاسبة والرقابة الإلهية بشكل دائم وفي جميع التصرفات، خاصة منها الشكلية، لأنه للأسف عدد من المعتقدات الدينية مرتبطة عند الناس بالشكل، وأي شخص مستعد ليحكم عليك من شكلك ومضايقتك، وغالبا ما يبدأ الأمر أولا من باب النصح ثم يصل إلى تجاوز حقه في أن يقدم ملاحظة، ثم يقتحم حريتك ومجالك الخاص".
"احموا حرياتنا"
حراسُ الجسد ومتتبعو حركات النساء، بتعبير مريم، لا ينشغلون إلاّ بخطاب التحريم، الذي ينتجُ بدوره خطابا تحريضيا ضد النساء، يمكنه أن يهدد سلامتهن الجسدية وأمنهن خلال التواجد في الفضاء العام.
لذلك لم يتأخر تفاعلُ عدد من الناشطات الحقوقيات بمدينة طنجة في استنكار المنشورات التي "شوَّهَت" ملامح مدينة الحرية والثقافة والحضارة.
تقدمت فاعلاتٌ حقوقيات بشكوى لدى وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية (المدعي العام) موضوعها فتح تحقيق حول من هو المسؤول عن إلصاق منشورات تحرض على الكراهية والعنف ضد النساء والفتيات على جدران وأعمدة الكهرباء بمدينة طنجة.
وحسب ما جاء في الشكاية التي توصل رصيف22 بنسخة منها، فإن الموقعات عليها اعتبرن أن الملصقات "تحث على الحد من تواجدهن وحريتهن في الفضاء العام وتعتبر أن من واجب الرجال التدخل لمنع النساء من التواجد بحرية في الفضاءات العامة، وهو عنف مبني على أساس النوع".
سعاد الشنتوف، إحدى المبادِرات والموقعات على الشكوى، قالت في حديث لرصيف22، "قدمنا الشكوى كأفراد، وسنضع أخرى باسم ائتلاف يضم جمعيات نسائية، للتعجيل بالتحقيق في ما نُشر واتخاذ إجراءات استعجالية لضمان حرياتنا، لأنه يمس بكرامتنا التي يكفلها لنا الدستور والتشريعات الدولية والوطنية".
وأضافت الفاعلة الحقوقية: "هذا التحريض يمسُ بسلامتي الجسدية ويعرض حياتي للخطر، بالإضافة إلى أن هذا الفعل يمكنه أن ينشر الفتنة في المجتمع ويُهدد استقرار وأمن المواطنات". فهل تتحول طنجة من عروس الشمال والحريات، إلى رهينة في أيدي المتطرفين؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...