شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
لم أخلع تاريخي الشخصي عندما خلعتُ حجابي

لم أخلع تاريخي الشخصي عندما خلعتُ حجابي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 9 مارس 202104:45 م

لا بدّ من الاعتراف أنّ أكبر مشكلة واجهتها بعد خلعي للحجاب كانت مع أحلام ذاتها، أن أقف أمام المرآة وأن تتغير صورتي التي أَلِفتُها لسنوات. لا يمكن التكهّن بحجم المفارقة التي وَضعتُ فيها، حين كنت أضع صورتي بحجاب إلى جانب صورتي دون حجاب فأفتش عني بين الصورتين.

الحكم العام سهل جداً، وقد يتمثل بسؤال خارج المحتوى: "شو اللي خلاكي تشلحيه إذاً؟!" لن أتجاوز هذا السؤال كي أتخلّى عن الإجابة، كأنني أتبرأ منها، أو أجبن عنها، أو ليبدو كأن صاحب السؤال تفوّق عليّ، ولا أن أواجه السؤال بسؤال آخر: ولماذا لا أخلعه؟ ولا أجد أنه من الحكمة أن نرفع السؤال فنضع ميزان الحكم فيه فوق كتف الدين،

ما أحاول كتابته كلَّ هذا الوقت هو بحث في هذه الإجابة، فمن قال إن حياة إنسان، بجسده وروحه، قائمة على سؤال وجواب؟ من قال إن الآخر يمتلك السؤال وعليه فإنني بالضرورة أمتلك الإجابة، الإجابة التي ترضي السائل؟ ثم من قال إنّ إجابتي عليها أن تكون صحيحة؟ ثم من رسّم منطق الصحة والخطأ ليحاكم إجابته وسؤالي؟ ولن أقول: من أعطى أحداً حق استجواب من يحاول أن يشرح طريق انحداره، أو صعوده، في الحياة؟

أنا أبحث في جسدي، لأجد علامات طريقي فوق هذه الأرض، من علامات الرضوض فوق هذا الجسد، أو من لمسات الحنان عليه، مما رُشق فوقه، أو أشيح عنه. وسؤالٌ من هذا النوع إن كان ثمة مُخوَّل حقيقي للإجابة عليه فهو الزجاج أو الماء أو الهواء أو الغبار. وهذا ليس نأياً بالأفكار ورفعها على رفوف مطبخ الشعر للتخلص من قراءتها بوضعها في المجاز! بل من باب إن أي فكرة هي فكرة شعرية، وإن الجسد خيال، مادامت الروح لم يستطع حتى الآن أن يمسك عليها أيُّ واحد بغير قبضة الحب أو الكراهية أو الموت!

وصلتني رسائل كثيرة في حينها، حدث الأمر قبل سنوات، والسنوات لا تذبل كأزهار في وعاء، بل يتجاوزها العمر وهو يحمل هذا الذبول في جلده. أشاحت وجوه كثيرة بعيونها عن وجهي، كأنّ التجاذب المعرفي بيني وبين أصحابها قد تبخّر فجأة، فَقدَ صاحبُ الوجه كونه مَعدَناً، وأنا فقدتُ أن أكون مغناطيساً، أو العكس، لا أحد منّا بات يعرف الآخر؛ حصل تشويش على خط التواصل بيني وبين كثير من الناس من حولي. أرسلت لي تلميذة درّستها لسنوات، ودرّست أخواتها، وكنت أحبّ وجهها الأليف، وما يشعّ منه من براءة نورانية، قالت لي في تلك الرسالة إني حطمتُ الصورة التي لطالما احترمتها!

لم أتسرّع في الحكم، ووقفت طويلاً أمام هذه الرسالة ورسائل أخرى، حتى وهي مغلقة، وكانت الرسائل غير الواضحة أكثر قسوة، وخاصة تلك التي لم تصلني، فقد شرب الكون ما فيها من لغة حالكة وحقنها مع كل هواء أتنفسه! تساءلتُ عما انكسر فعلاً، ومن تأذّى، ومن كسر مَن.

أبحث في جسدي لأجد علامات طريقي فوق هذه الأرض، من علامات الرضوض فوق هذا الجسد، أو من لمسات الحنان عليه

كنتُ بهذه الوقفة المتأنية أنأى بنفسي عن إعطاء العام فرصةَ توظيفِ ما هو شخصي لصالحه من ناحية، وكنت، من ناحية أخرى، أبدو في هيئة الشخص الخائف الذي يريد أن يسترد شجاعته ليشرح نفسه لا غير، ولم تبدُ هيئة الخائف الشجاع قبيحة. كنت أفهم لماذا أقف. أرى نفسي من الخارج وأدعوها أن تتكئ بصلابة على حائط الشكّ. كنت أدرك أنّ التحول داخل الجسدِ شِعرٌ، أو أيّ شكل من أشكال التعبير، وكانت اللاطمأنينة فكرة كتابة، على شكل مونولوغات مكتومة، ظلت تتشكّل دون أن أعاندها، لكن دون أن أكتبها أيضاً؛ عرفت أن الكتابة في حالة الألم تتحول إلى ردّ فعل أو شكل من أشكال الانتقام، ولو فعلت ذلك فكأنني أهين جسدي، أعرّضه للجلد، عندما يتحول إلى مادة للصراع وهو لا يخصّ أحداً سواي!

بدا شرح النفس هذا كأنه دفاع عنها، إلا أني لم أطرده خارج البيت، بل أفرغت، للتوضيح، سريراً وغطاءً وضوءاً!

تتشكل اللغة من الحروف، لكن المعاني تتشكل من داخل التلقّي نفسه. كنت أعرف أنّ هذا التعارض سيشكّل معنى، لكنه يحتاج هذا الوقت. وكانت تلك المرة الأولى التي أعطي فيها الزمن فرصةً باعتباره فعلاً، وليس مكاناً للفعل.

لطالما اكتشفت معانيَ مع أشخاص محددين، ولطالما أضعت معانيَ مع أشخاص آخرين، ثم فريق ثالث سبّب لي الوجومَ التام، فتحولتُ مع بعض الناس إلى صحراء. ماتت لغتي، وهؤلاء هم من هجرتُهم. انظروا، إننا نتحدث عن الجسد، لكننا نتحدث عن التعبير بهذا الجسد، ولم أكد أصل بعدُ للحديث عن الحركات بالجسد ودلالاتها، وهذا ما سأكتب عنه لاحقاً.

أنا أتحدث هنا عن التعبير بقوة الجسد من الداخل، بامتلاك قوة تعريفه، وبحركته بين العام والخاص، والحركة هنا لا تعني الحركة بقطع المسافات، بل الحركة في المكان دون أن يبارح الجسد محلّ إقامته. إنها داخل البيت. بين الجدران. مع نفسك، في غياب الناس خلف سور البيت، وحضور قوتهم في الحكم الذي تنقله لك الرياح على شكل رسائل. إنه أن تكون/ي مراقَباً/مراقَبة ولا توجد عينٌ تراك. كأنك تركت جسدك في الخارج حين عدت لترتاح/ي من ضوضاء الآخرين، ومازالوا يفتشون فيه، ليكتشفوا أنه لم يعد يشبه في أحدِ تفاصيل حضوره ما اعتادوه. إنهم الآن يتحسسون جسدك ويتحسسون أجسادهم، وسيجدون الفرق، حتى لو كان الفرق مجرد فكرة داخل الجسد، فللجسد أفكار تنمو داخل حلمات الجلد، ولكل عضو لسان، وحين يمرض هذا العضو أو ذاك فإنّه يئن وحين يفرح يضحك. أنت فقط تظنّ/ين أنك من فعل ذلك: ضحك أو بكى.

كان بإمكاني ببساطة أن أتراسل مع مؤسسة حقوقية في بلد ما، لأطلق صرخة استغاثة. لديّ تلك الكلمات المفتاحية التي فتحت الأبواب لنساء عربيات وغير عربيّات، ولا ألومهن، للهرب بأجسادهن: امرأة، مجتمع تقليدي، جسد، حجاب، سلطات تقليدية، احتلال، كاتبة، لكن لشخص مثلي عرف صرخته في أرجاء هذا الفضاء كان التخلي عن المكان سيعني التخلي عن الصرخة نفسها؛ إذ ما دلالة أن يتحرك جسدي في أرض غريبة لا يعرفها. إذا كان جسدي مادة متجاذبة الحركة في الحيّز، فمغادرة الحيّز هي خسارة أولى لدلالة الحركة.

يظن الناس بعد أن تخلع فتاة حجابها فإنها تخلع تاريخها كلّه. التاريخ الشخصي طريق، ولا أحد يخلع طريقه، إنه يمضي فيه

قلت لصديقاتي أريد أن يكون الناس الغرباء أول من يرى شَعري هنا! الناس الذين لا أعرفهم ولا يعرفونني، ولم أكن أسعى لتقديم نفسي للغرباء حتى أتحرر من خصائص الحكم وأولها القسوة وأفضلية المقارنة. قلت لهن أريد أن يظهر شعري للأُسود على المنارة في وسط رام الله. يتحرك في وسط المدينة ناس غرباء يمرون سريعاً، والأسود، حيث تقف هناك منذ سنوات ما بعد النكبة، لم تأزر، ولن تزأر عندما ترى شعري.

كنت مثل امرأة تريد أن تدلف إلى الخارج بشلل نصفي، أو عين عوراء، أو ساق مبتورة؛ كنت سأظهر وسيبدو كأنّ أحدها سيشير إليّ فجأة، كنت أدرك ذلك، وأصبحت أريده بشدة. بدا الأمر اختباراً للواقع في مساحة الخيال، لكنه في الحقيقة كان طريقة واقعية لإعطاء الجسد المتخيل فرصة ظهوره في الواقع. فلكلٍّ منا صور متخيلة عن جسده لا يستخدم إلا القليل القليل منها حسب اشتراطات الحيز وخصائصه. تنتظر النساء المناسبات كالأفراح مثلاً لكشف أجزاء من أجسادهن، متخفيّات هذه المرة، خلف فكرة الفرح، فيظهرن في مكان أحادي الحضور، أمام نساء أخريات، بما خفّ من الملابس مع وضع الماكياج وكشف الشعر. وجدت نفسي مرة في السوق، وأنا أرتدي تنورة، لا تكشف سوى عظم ساقي السفلي، أغلب العيون رحلت وحطت هناك. كانت كلّ عيون المدينة تقف فوق هذه المسافة المكشوفة من الساق، فثقلت فجأة وكدت أسقط.

ومرة دخلت حديقة عامة دون أن ألبس لباساً يناسب حديقة عامة، لقد وصلت لأذني كثير من الانتقادات اللاذعة وصبت فيها، ولمتُ نفسي: في الحديقة العامة عليّ أن ألبس ملابس الحديقة العامّة!

لم أكن أنتظر، إذاً، أن تزأر الأُسود بمجرد أن ترى شَعري. لقد كان اختباراً صغيراً للحرية لا أحد يعلم أهميته بالنسبة لي، إنه أمر شخصي جداً، فرصة للاتساع من الداخل، وتمدّد جلدي من الخارج. إنه أن أغمر الكون بهذا الجسد المحدود الضئيل!

أردت أن أختبر علاقة صورتي مع الجبال والبيوت والطرقات التي عرفتني وعرفتها. كان لهذه الجمادات صوت. وكان صوتها الصمت. وكنت أريد أن أسمع صوت الصمت قبل أن أسمع صوت الناس الزاعق. فكّرت بالناس قليلاً، باعتبارهم في منزلة ثانية بعد الشارع والشجرة وجسم الحافلة، وكنت أريد أن أفعل هذا هنا في فلسطين وليس في مكان آخر. لم أكن أريد أن أهرّب جسدي كأنه بضاعة محرّمة، ولأفعل به ماذا؟ في الحقيقة لا شيء.

للجسد أفكار تنمو داخل حلمات الجلد، ولكل عضو لسان

يظن الناس بعد أن تخلع فتاة حجابها فإنها تخلع تاريخها كلّه. من قال إن التاريخ الشخصي شوكة أو وردة وأنه يخلع بمجرد خلع الحجاب. التاريخ الشخصي طريق، ولا أحد يخلع طريقه، إنه يمضي فيه، وأنا أمضي في طريقي، وطيّرت مع الرّيح قطعة القماش التي وُضعت فوقه ما يزيد على أربع وعشرين عاماً، وأنا أسير، وهذا شأني، ونقطة، أيتها الأفواه!

كنت بهذا الفعل البسيط، يوماً فيوماً، أقارب دلالة جسدي وهو في حركة التجاذب، كأنه صوت، بين العام والخاص، وأختبر كون شَعري مشاعاً، وشكلي مشاعاً، وصورتي وأنا أكتشف كم كانت ملكية عامة، وكان كل ما أسعى إليه هو أن أمتلك معرفة أكثر عن نفسي!

أريد أن أواصل سيري في الطريق لأفهمها، فأنا وإن كنت أعرف من أنا، فما أعرف محدود، فالمعنى ليس ثابتاً، والقبض عليه فعل آني. أصبحتُ أُخضع لتعريف نفسي بنفسي من جديد، كأننا نفتح صفحة جديدة في حياتنا معاً، أحلام بحجاب وأحلام دون حجاب! في السابق كنت امرأة مسكوت عنها، مثل سرّ، أو حقيقة مطلقة، أو شيء متروك، أو فاعلة خير في حقّ المحيط العام، أو رافعة لراية الجميع، وكنت أعرف أني امرأة تحظى بدرجة عالية من الرضى، والآن تغامر، وهي تفتح صفحة جديدة مع نفسها، بمفردة "الرضا"، فجأة صارت هذه المفردة في مهب الريح، ثم طارت مع حجاب الرأس.

وفي الصفحة التالية أصبحت امرأة مرئية أكثر من اللازم، تحت عدسة مكبرة، أو أضواء ساطعة، والعدسة والأضواء كأنهما يعبثان بي، ويفتشّان في جسدي. كأن المجتمع كلّه تحول إلى طبيب نسائي. لم أكن قد تعرّيت، إنني بكامل ملابسي. كل ما فعلته أنني كشفت الغطاء عن شَعري! شعر منكوش، طويل قليلاً، لونه أسود تخالطه توشيحة شمس، في المكان الذي ولدت فيه، وهأنذا أفعل ما أريد فيه، لأني لا أريد أن أطعنه في ظهره، مثلما يفعل الناس ببعضهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image