يأتي هذا المقال ضمن الملفّ المُعدّ لشهر أكتوبر 2019, في قسم "رود تريب" بـ"رصيف22" والمعنوَن: "بصحتك يا ساقي... بارات عربية لا بدّ من زيارتها".
"الحمامة البيضاء"، هكذا يعرف المغاربة تلك المدينة التي يبدأ منها الليل على شواطئ البحر المتوسط؛ إنها "تطوان" ذات البيوت الزرقاء في أيام الصيف الصاخب لمدينة لا تهدأ ليلاً ونهاراً. التأمل في الطبيعة الاجتماعية لسكانها المحبين للحياة، يجعلكم تظنون أن العوامل التي تجعل منها بيئة جاذبة لحياة السّهر كثيرة، تلمحونها وأنتم على ملتقى الطريق إلى شارع "محمد الخامس" في الحيوية التي تسيطر على المكان، لكن الحالة المحافظة للمجتمع التطواني، تجعل الكثيرين من أهلها يفضلون أن يقضوا سهراتهم في طنجة على بعد كيلومترات، حيث تتفتح أبواب الحرية في المدينة السياحية التي تحمل في باراتها وسهراتها، روائح أكثر حداثة.
في تطوان، المدينة المحافظة، تشتهر بارات "أم ربيعة"، و"هوتيل بارادور"، و"جنين"، وتجتذب زبائنها من السياّح الذين يقصدونها، بالإضافة لزبائنها القدامى الذين يرتبطون بالمكان، ولا يفرق بالنسبة لهم كثيراً، الذهابُ إلى طنجة.
أما على الطريق إلى طنجة، فإن أيام العطلات، تشهد ما يشبه هجرة شبابية جماعية لاقتناص السهرة في بارات المدينة المكتظة بالسياح الأوروبيين، والشباب المغاربة. المدينة الساحرة تعتبر السياحةَ مصدرَ الدّخل الأساسي لها، بما تملكه من مشاهد طبيعية خلابة، خاصة في المدينة القديمة (القصبة) التي تطلّ على البحر الأبيض المتوسط، بأبراجها وأبوابها العتيقة التي لا زال بعضها باقياً حتى الآن.
شريط المدينة الساحلي الممتدّ بطول 16 كيلومتراً على خليج طنجة الكبير، يضمّ عشرات من أماكن السهر والبارات، في ظلّ أنها مصيف جاذب للآلاف من السيّاح سنوياً، سواء من داخل المغرب وخارجه، حيث تستحوذ وحدها على نصف عدد السياح الوافدين للمغرب، وهو ما يجعل تلك البارات تعجّ بالبشر طوال أشهر الصيف.
لحالة المحافظة للمجتمع التطواني، تجعل الكثيرين من أهلها يفضلون أن يقضوا سهراتهم في طنجة على بعد كيلومترات، حيث تتفتح أبواب الحرية في المدينة السياحية التي تحمل في باراتها وسهراتها، روائح أكثر حداثة
من أشهر بارات طنجة التي تجذب الكثيرين، هو بار "الخبز الحافي" الذي تمّت تمسيته بعنوان رواية الكاتب المغربي الكبير "محمد شكري"، ولم يكن "الخبز الحافي" هو الاسم الأصليّ للبار العتيق، والمشهور منذ عقود وسط أماكن السهر في المدينة، ولكن صاحب البار قام بتغيير اسمه تقديراً لمحمّد شكري الذي كان المكان هو المفضّل على الإطلاق بالنسبة له، وبين جنباته قد كتبَ أغلب إبداعاته الأدبية، وتردّد عليه يومياً لعقود.
تُعتبر مساحة بار "الخبز الحافي" متوسطةً مقارنة بباقي بارات طنجة، أو ما بين المتوسط والصغير. وقد تغيّرت تركيبة الزبائن في السنوات الأخيرة مع الشهرة التي اكتسبها المكان بسبب "محمد شكري"، وأصبح مستوى البار يميل إلى الرقيّ مع تحوّله إلى مطعم أيضاً
تُعتبر مساحة بار "الخبز الحافي" متوسطةً مقارنة بباقي بارات طنجة، أو ما بين المتوسط والصغير. وقد تغيّرت تركيبة الزبائن في السنوات الأخيرة مع الشهرة التي اكتسبها المكان بسبب "محمد شكري"، وأصبح مستوى البار يميل إلى الرقيّ مع تحوّله إلى مطعم أيضاً. المثقفون في طنجة أصبحوا من رواد "الخبز الحافي" بصورة أكبر، كما أجتذب أفراد الطبقة الوسطى، بعد أن أصبح لا يشبه البارات الشعبية كما كان في الماضي.
الانفتاح السياحيّ قد غيّر طبيعة اللّيل في طنجة، الذي أصبح صاخباً للغاية؛ ففي الوقت الذي ينام فيه العديد من الطنجاويين من سكّان المدينة، يبدأ يوم جديد في المراقص والملاهي الليلية المنتشرة في أحياء البوغاز المغربي الكبير. تغيّرت المدينة الهادئة كثيراً مع سياسة الانفتاح والزيادة المطردة لعدد الأجانب الوافدين، حتى أصبحت كالمدن الكبرى التي تجري في مواكب الحداثة، وأصبح رؤية الراقصات وبائعات الهوى أمراً معتاد في أماكن السهر الطنجاوية، وهو أمر لم يكن معتاداً في بدايات القرن الجاري.
في الوقت الذي ينام فيه العديد من الطنجاويين من سكّان المدينة، يبدأ يوم جديد في المراقص والملاهي الليلية المنتشرة في أحياء البوغاز المغربي الكبير
ارتفاع نسبة السياحة ساعد على ظهور ما يسمّى بـ"تسمين" النوادي الليلة والبارات، بالآلاف من النساء المطلقات والمغتصبات والهاربات من المدن النائية، وهو الأمر الذي يرفضه الكثير من سكّان المدينة، الذين يدخلون في مشاحنات كثيرة أيضاً مع مرتادي البارات الجديدة التي بدأت في الزحف على الأحياء السكنية، ومناطق وسط المدينة وشارعيْ "مولاي عبد الله" و"محمد السادس"، وغيرها من الشوارع المكتظّة بالسكان المحليين، الذين أصبحوا يشكون غياب خصوصيتهم مراراً. وتقول الإحصائيات غيرالرسمية إنه يتواجد حالياً ما يزيد على 200 نادي ليلي وبار وأماكن للشرب في مدينة طنجة.
الشرب في الساحات العامة أصبح من الظواهر التي تشهدها طنجة أيضاً مع ارتفاع الأسعار في البارات السياحية والنوادي الليلية، ورغم أن القانون المغربي يعاقب بالحبس لمدّة تتراوح بين شهر واحد وستة أشهر، وبغرامة مالية كبيرة، كلَّ شخص وُجد في حالة سكر في الأزقّة أو الطرق أو المقاهي أو الكباريهات أو الأماكن العمومية، إلا أن واقع الأمر يقول إن هناك فئة غير قليلة أصبحت تختار بعض الساحات العامّة لتناول المشروبات الروحية.
الاقتصاد الكبير لصناعة الكحوليات في المغرب، والمليارات التي يتمّ تحصيلها في شكل رسومٍ على أنواع المشروبات الكحولية والنبيذ، من الأسباب التي تقود إلى غضّ البصر عن بعض التجاوزات أحياناً؛ فانتشار استهلاك المشروبات الكحولية في المغرب أصبح أمراً واقعاً، في ظلّ تحوّلها إلى أكبر مصنع للنبيذ في العالم العربي، حيث تقوم بتخصيص ما يزيد عن 37 ألف فدان لزراعة العنب أو الكروم الخاصة بالنبيذ، وتنشط زراعة النبيذ في منطقة "مِكناس".
وقد ازدهرت زراعة العنب كثيراً خلال الفترات الاستعمارية، عندما استغلت السلطات الفرنسية الأجواء المغربية لتطويرها، وهو ما أستمرّ حتى بعد رحيل الفرنسيين، وطبقاً لأحدث الإحصائيات عن معدّلات الاستهلاك؛ فإن المغاربة يستهلكون سنوياً ما يزيد عن 131 مليون لتر من الكحول، غالبيتها من البيرة إلى جانب النبيذ، وبعض المنتجات المستوردة الأخرى كالفودكا، وينجاوز معدل استهلاك المواطن المغربي دولاً غربية كثيرة، منها فرنسا والولايات المتحدة.
"الدار البيضاء" الشهيرة بـ "كازا بلانكا"، هي ثاني أكبر المدن المغربية بعد العاصمة، الرّباط، ولها نصيب من سهرات البارات المغربية، بليلِها المجنون. الشاعر المغربي "محمد مقصدي"، يقول لرصيف 22: "هنا الحانات تغلق بين منتصف الليل إلى الثانية أوالثالثة في أقصى الحدود، ولكن لعشّاق السهر بعد ذلك، تتبقى فقط العلب الليلية الصغيرة لاستكمال مشروباتهم.
وتشتهر كازا بلانكا بحاناتها الشعبية في وسط المدينة، مثل بار "الدون كيشوت" الذي يرتاده الكثير من الصحفيين والكتاب وروّاد الوسط الثقافي المغربي، وهو بار صغير المساحة، ولكنه مزدحم دائماً، يجعلكم مضطرّين للصُّراخ حتى يستطيع أن يسمعكم من يجلس بجواركم.
يصِف "مقصدي" ليل كازا بلانكا بأنه مجنون، ولكنه ليس بصخب ليل القاهرة على سبيل المثال، فيما تشبه بارات الدارِ البيضاء القاهرةَ في تباينها أيضاً بين الصيف والشتاء؛ ففي الصيف تكون أماكن السّهر أكثر حيوية، في ظلّ رواج السياحة، كما أن الصورة تختلف بين الأماكن الشعبية والراقية، وتتّجه أغلب الطبقات الراقية إلى الفنادق على شاطئ "عين الذياب"، أشهر شواطئ كازا بلانكا. ويقضي الكتّاب والصحفيون المغاربة أوقاتاً طويلة في حانات المدينة، وبعضهم أوفياء لحانة واحدة، فإن أردتم مقابلة كاتب محدّد، فعليكم أن تذهبزا إلى هذا البار الذي يتحوّل إلى ما يشبه مقرّاً رسمياً له.
أما في العاصمة، الرباط، يُعدّ مطعم "نادي الكرة الحديدية"، من أشهر بارات المدينة وأكثرها رقياً وحداثة، وهو بار كبير المساحة، في الأصل كان نادياً للكرة الحديدية، ولكنه تحوّل مع الوقت إلى بار أكثر منه نادٍ، رغم أن المسابقات ودوريات الكرة الحديدية، مازالت تقام بداخله. وتضمّ شريحة الزبائن، أغلبَ نخبة الرّباط من كتّاب وسياسيين وصحافيين، ويمتاز "نادي الكرة الحديدية" بأسعارِه المنخفضة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...