"أذكر أنه لم يكن لي حق الاستفادة من موارد الأسرة وعائداتها. حين كنت صبية لم أجرؤ يوما على طلب شراء الفوطة الصحية، لأنهم كانوا يعتبرونها مضيعة للمال"، هكذا حكت رشيدة ذات الثلاثين ربيعا، لنساء أخريات داخل ورشة مغلقة تسترجع خلالها قصتها الشخصية. أمّا السعدية المرأة الأربعينية، فتجلس أمام الكاميرا متوترة. يلتمع الفرح في عينيها الكُحْليَّتَيْن وهي تستعد لتوثق قصتها في فيديو، قبل أن تقول "لم أتوقع يوما أن أستجمع شجاعتي وأتحدث بطلاقة عن قصتي أمام كاميرا لكن اليوم كل شيء مختلف". مسارات المرأتين في الحياة لا تتشابه، لكن يجمع بينهما أمر واحد: مقاومة كل الأفكار النمطية في المجتمع الريفي المغربي للنجاح في الحياة.
بنات المغرب المنسي
خلال لقائي برشيدة كانت تبتسم للجميع وكأنها لم تقاس أبدا. تعدل النظارات الطبية بيديها، ثم تشبك أصابعها. تغالب التوتر الذي تحاول إخفاءه، فهي على وشك الانطلاق في رحلة العودة إلى الوراء غوصا في تفاصيل الحياة التي عاشتها. تأخذ الشابة التي ترعرعت في قرية قُرب مدينة زاكورة (الجنوب الشرقي) نفَسا عميقا ثم تحكي: "وأنا طفلة كنت أريد أن ألعب وأهتم بواجباتي المدرسية أكثر، لكنني لم أكن أستطيع ذلك. كان يلزم عليّ القيام بالأعمال المنزلية من كنس وتنظيف ومساعدة في المطبخ. أو بأعمال مرهقة كالمشي مسافة طويلة بحثا عن الماء أو لإطعام المواشي. كنت أتمنى أن أستمتع بدوري بالرسوم المتحركة في جهاز التلفزيون الذي دخل القرية حديثا، لكن جدي كان صارما في منعنا. فمشاهدتنا للتلفزيون كانت بالنسبة إليه مضيعة للوقت واستنزافا للكهرباء".
بشِق الأنفس وتردُّدٍ من طرف العائلة درست رشيدة إلى آخر سنة من التعليم الابتدائي. خلال الامتحان نهاية العام، حرستها أستاذتان. تقول وشفتاها ترتجفان إن إحداهما استرقت النظر إلى الأجوبة التي كتبتها على ورقة الامتحان. كانت أجوبة صحيحة في غالبها، فسألتها ما الذي تطمح إليه بعد اجتياز الامتحان، شردت الطفلة ساهمة، ثم أجابت: "أريد إكمال دراستي". نظرت إليها الأستاذة القادمة من المدينة ساخرة ثم التفتت إلى زميلتها تتندر بجواب الطفلة وتردد في تهكم "تقول إنها تريد إكمال دراستها!".
قال استخفافا بقدراتها "لم يفلح الرجال فكيف لبنت أن تنجح". ثم أضاف "إذا أرسلتها إلى المدرسة ستعود حاملا أو بفضيحة". نساء مغربيات قاومن التقاليد ونجحن
على خلاف رشيدة، لم يحالف الحظ السعدية في الدراسة. حين التقيناها كان تبتسم باستمرار. متلهفة لحكي قصتها هي الأخرى. تتحسر على ما مضى، فجدها كان يرفض تماما فكرة أن تدرس البنات وكلما بلغت إحدى حفيداته سن الدراسة، ذهب إلى المقدم (موظف حكومي) في القرية الواقعة نواحي الصويرة الساحليّة (وسط البلاد) حاملا كميات من السكر، ويترجاه ألا يسجلهنّ في قوائم المتعلمين الجدد. بدل دخول المدرسة كُنَّ يُدفعن للعمل في الزراعة داخل حقوله، حتى لا يضطر إلى توظيف عمال مياومين يساعدونه في الأشغال الشاقة.
أحلام مجهضة ومقاومة
تقول السعدية إنها حين كانت تسترق النظر إلى جهاز التلفاز، كانت تحلم أن تصبح صحافية. لكن هذا الحلم أجهض دون أن تتعلم حتى إمساك القلم. فبعد أن أمضت طفولتها وجزءاً من صباها بين الفلاحة وأشغال المنزل، زوَّجتها عائلتها وهي تبلغ خمسة عشر عاما بالكاد.
تقول المرأة إنها عانت الكثير وتحملت مسؤولية كبيرة لا قِبَل لها بها. كان الزوج في البداية قاسيا وحادّ الطباع، ولم يكن يسمح لها بالخروج من المنزل دون إذنه نهائيا. حتى إنها حين ذهبت ذات يوم إلى الحمَّام الشعبي بدون إذنه، عنَّفها عند عودتها.
كادت رشيدة بدورها أن تحرم من المدرسة. وكان إكمال التعليم بعيدا عن أهلها ضربا من ضروب الخيال في تلك القرية النائية. إذ لم يسبق لأي فتاة أن أتمت الدراسة أو تجرأت على مغادرة محيط القرية. تقول إنها طرحت الفكرة على أسرتها. لم يكن لرأي أمها أي وزن يذكر، فيما وافق أبوها ودعمها كثيرا. لكن جدها التقليدي كان يحمل صورة نمطية عن المدارس. الشيخ الذي كانت كلمته دائما هي العليا في البيت، تصدى للفكرة وعارضها معارضة شديدة.
تذكر المرأة جيدا المفاوضات العسيرة، إذ أن الجد، في محاولة لثني والدها عن قراره، قال استخفافا بقدراتها "لم يفلح الرجال فكيف لبنت أن تنجح". ثم ذهب أبعد من ذلك قائلا "إذا أرسلتها إلى المدرسة ستعود حاملا أو بفضيحة".
ما زالت الكلمات جرحا رغم أن أكثر من 15 سنة مضت عليها اليوم. تقول وما يشبه ابتسامة انتصار ترتسم على شفتيها، إن الأب أنهى ذلك الجدال الطويل بقوله إنه المسؤول عنها وهو الوحيد الذي يتحمل دفع مصاريف دراستها، وبالتالي ليس للجد أن يتدخل في هذا الشأن. كان رهانا صعبا وعصيانا لسلطة الجد، لكنها لم تخذله.
بلغتهم وشاية بأن فتاة غريبة تتردد على البيت، وقبل أن يستطيع أخوها النطق، هوَتْ على خده كفُّ رجل السلطة، وأمام دهشة واستغراب الجميع، أخذ يصرخ: "إنها أختي، إنها أختي". مغربيات قاومن التقاليد ونجحن
حصلت رشيدة على المرتبة الأولى في المدرسة، وكان يفترض أن تستفيد من منحة دراسية تخص بها الدولة صاحب المركز الأول. لكنْ لأنّ الشائع في المنطقة أن تتوقف الفتيات عن التعليم بعد المدرسة الابتدائية، لم يطرق أحد المسؤولين بابهم ليسأل عن قرار أسرتها. وحرمت بذلك من المنحة التي صارت من نصيب صاحب المركز الثاني وكان فتى من أبناء أعيان القرية.
مع ضيق ذات اليد، وإصرار والد رشيدة على دعمها، قرّر هذا الأخير أن تلتحق بأخيها المراهق الذي يكبرها بسنتين، ويدرس بإحدى البلدات المجاورة مع أبناء القرية. رفض الأخ لكن الوالد كان صارما "إما أن تدرس معك رشيدة أو تحمل حقيبتك وترحل، ولن أصرف عليك أبدا ".
شبح العار
شاركت الفتاة أخاها وابن عمها غرفة يقتسمونها مع 5 شبان آخرين. وحتى تحظى ببعض الخصوصية عند النوم أو عند حاجتها لتغيير الملابس، بادر أخوها إلى فصل الغرفة بستار من الأكياس البلاستيكية. لكنها لم تَسْلَمْ خلال هذه الفترة من ألسنة الجيران الذين يلوكون سيرتها، فهي في نظرهم الفتاة سيئة السمعة التي تتردد على منزل يسكنه الشبان.
تقول رشيدة وهي تغالب الغضب وكأنها تعيش ذلك الموقف مجددا، إنه ذات يوم طرق أعوان السلطة باب المنزل، يتوعدون في غضب. فقد بلغتهم وشاية بأن فتاة غريبة تتردد على البيت، وقبل أن يستطيع أخوها النطق، هوَتْ على خده كفُّ رجل السلطة، وأمام دهشة واستغراب الجميع، أخذ يصرخ: "إنها أختي، إنها أختي".
بعد مسار شاق ونجاح تلو الآخر في مسارها الثانوي، انتقلت رشيدة إلى الجامعة واختارت دراسة البيولوجيا. لم تعرف في تلك السنوات اللهو أو الاستمتاع أو الحب. فشبح كلمات الجد كان يطاردها إلى أن حصلت على شهادة البكالوريوس.
بالمقابل، إن لم تجد السعدية سندا يدعمها لتتعلم في المدارس وهي طفلة فقد قررت تعلم الكتابة والقراءة وهي امرأة. بقي حلم الورقة والقلم يراود السعدية، التي حمَّسَت صديقاتها وجاراتها ليبدأن الدراسة مع انطلاق برنامج وطني "لمحو الأُمِيَّة". كن خائفات من أزواجهن، لكن السعدية شجعتهن ومن جانبها ألحّت على زوجها ليسمح لها بارتياد الدروس التي أقيمت بقاعات داخل المساجد. لم يوافق الزوج إلا بعد مشقّة كبيرة، وتدرجت المرأة في المستويات الدراسية لتحصل على المرتبة الأولى في كل مرة، حتى نالت جائزة الملك "محمد السادس للتفَوُّقُ".
حين توصلت بأول راتب في حياتها، حملته إلى جدها،. استغرب الجد، وسألها هل تستطيع المرأة فعلا الحصول على راتب وأن تكون موظفة حكومية؟. نساء مغربيات قاومن التقاليد ونجحن
خطرت للسعدية ذات يوم فكرت أن تنشئ تعاونية. فقد أرادت أن يصير لها إنتاج ودخل مادي خاص بدل المكوث في البيت والاكتفاء بأعبائه ومسؤولية الأبناء. بعد نضال على جبهة الأسرة وخارجها، تمكنت من جمع الوثائق القانونية وطورت مشروعها شيئا فشيئا مع نساء بدويات حذون حذوها. تفتخر المرأة اليوم بأنها رئيسة تعاونية توظف 30 امرأة، ومختصة في صناعة مستحضرات التجميل العضوية، يبعنها في أسواق بلدان عدة.
عن مسيرتها المهنية تقول رشيدة إنها أخذت على عاتقها تعليم الفتيات بالمنطقة ولهذا السبب بالضبط اختارت أن تصبح أستاذة في المدرسة الإعدادية الموجودة في قريتها.
أطلقت المرأة أيضا مبادرات لتعليم النساء الأميات. تتذكر أنها حين توصلت بأول راتب في حياتها، حملته إلى جدها، لتريه ثمرة كدها واجتهادها. استغرب الجد، وسألها هل تستطيع المرأة فعلا الحصول على راتب وأن تكون موظفة حكومية؟ لكنه سرعان ما اعتاد الأمر وصار يفتخر بها وبإنجازاتها أمام أصدقائه ومعارفه. تقول رشيدة إنها لا تلومه على ممانعته لتعليم البنات في طفولتها، فهو الذي يعيش في قرية نائية لم يكن يعلم بوجود كل هذه الإمكانيات والطرق التي تستطيع النساء المشي فيها لتحقيق النجاح.
طريق الألف ميل
طريق الألف ميل تبدأ بخطوة. وكل من رشيدة والسعدية نموذجان للنساء اللواتي استطعن أن يحققن ذواتهن رغم الذكورية الطاغية في القرى المغربية. لم تكتف المرأتان مثل الآلاف بالتعلم، بل حاولن تطوير أنفسهن وقدراتهن من خلال برامج تدريب دولية، مثل برنامج شاركتا فيه نظمه "منتدى الفدراليات الكندية". يهدف إلى تمكين النساء من أدوار الريادة وتعريفهن بمواضيع المساواة بين الجنسين والقيادة النسائية، وتقوية قدراتهن الشخصية.
ساعدهما البرنامج، كما تؤكدان، على صقل مهاراتهما وتطوير معارفهما حول مقاربة النوع والأدوار المنوطة بالنساء داخل المجتمع. ورافقهما خبراء البرنامج في استثمار هذه المعارف من خلال مبادرات على أرض الواقع.
استطاعت معظم النساء، والسعدية ورشيدة من بينهن، تغيير تفاعلهن وتصرفاتهن مع محيطهن وتجاه الوضعيات التمييزية التي كن يعشنها من قبل
بعدما كانتا تطلقان مبادرات بدافع التحدي فيما قبل، أصبحتا اليوم وبعد مرور ثلاث سنوات من الانخراط في البرنامج، تخوضان غمار العمل المدني انطلاقا من تفكير وتخطيط محكمين، وتستعدان للانخراط في العمل السياسي على المستوى المحلي. المرأتان لا تكتفيان بالعمل بل تنقلان تجاربهما إلى النساء البدويات، عبر دورات تدريبية يتقاسمن فيها حكايتهن ويوثقنها في فيديوهات.
يونس العلاوي المشرف على التتبع والتقييم داخل المكتب الجهوي لمنظمة "منتدى الفدراليات الكندية" بالمغرب، يوضح لرصيف22 أن توثيق قصص هؤلاء النساء هو لتمكين المستفيدات من البرنامج، الذي ينظم في المغرب وتونس والأردن من الاستفادة من تجاربهن ومن تقلد أدوار ريادية في مجتمعهن المحلي.
فبعد ثلاث سنوات من عمل هذا البرنامج استطاعت معظم النساء، والسعدية ورشيدة من بينهن، تغيير تفاعلهن وتصرفاتهن مع محيطهن وتجاه الوضعيات التمييزية التي كن يعشنها من قبل. ويبدو ذلك جليا من خلال المبادرات التي أطلقنها داخل المناطق التي يعشن فيها. مبادرات لا تنتصر على الفكر الذكوري فقط، بل تفتح الأبواب أمام بنات ونساء أخريات لفرض أنفسهن في المجتمع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...