يتألف المجتمع الجزائري من عدة مكونات إثنية، أبرزها المكوّن الأمازيغي الذي طالما ناضل من أجل الحفاظ على هويته، وثقافته، ولغته في مرحلة الاستعمار الفرنسي وما بعدها، في ظل المناخ المعرّب للدولة الجزائرية المستقلّة (الأزمة البربرية 1949، الربيع الأمازيغي 1980)، إذ لم يُعترف باللغة الأمازيغية كلغة وطنية ورسمية في الدستور الجزائري إلا سنة 2016.
هذا النضال لم يكن سياسياً فحسب، بل انعكس على النظام الاجتماعي للأمازيغ المحافظين على الأعراف والتقاليد التي تجاوزها أمازيغ آخرون أكثر انفتاحاً على المكونات الأخرى للنسيج المجتمعي الجزائري.
وقد دفعت نساء أمازيغيات، خاصة الأكبر سناً، الثمن غالياً من حياتهن وشبابهن بسبب ما يمكن أن نسميه "الهوس" بالحفاظ على الهوية الأمازيغية، إذ لم تهتم العائلة بسعادتهن، ولا طموحاتهن، وكثيراً ما فرضت عليهن زواجاً تعساً قضى على أحلامهن وأنوثتهن، وهنّ في مقتبل العمر.
"ضاعت حياتي باسم الهوية"
فاطمة (70 عاماً) مقيمة حالياً في فرنسا، لكنها تزور الجزائر من فترة لأخرى، فيتجمّع حولها الأهل والأحبة، خاصة من النساء، كي تقص عليهم حكايات عن معاناة امرأة أمازيغية ضاعت حياتها باسم الهوية والأعراف.
تسترجع فاطمة في حديث لرصيف22 شريط ذكرياتها، فتتوقف عند سن الـ 16، عندما كانت تقيم بأعالي الجزائر العاصمة (حي بوزريعة). تقول إنها كانت شابة، ذكية، ومحبة للدراسة، والحياة، إلى أن اتخذت العائلة قرار تزويجها من قريب لها، يكبرها بحوالى عشرين سنة.
لم يكن ذلك الرجل متعلّماً، ولا يملك أي ميزة سوى أنه من نفس الأصول الأمازيغية، ونفس القرية التي تنحدر منها هي وعائلتها، انتفضت فاطمة وقتها، لكن العائلة أصرّت على موقفها، فقررت فاطمة أن تشرب ماء جافيل (الكلور) كي يصغي الجميع إلى رفضها حتى لو كلّفها ذلك حياتها.
لطالما دفعت نساء أمازيغيات الثمن غالياً من حياتهن، وشبابهن بسبب ما يمكن أن نسميه "الهوس" بالحفاظ على الهوية الأمازيغية، إذ لم تهتم العائلة بسعادتهن، ولا طموحاتهن، وكثيراً ما فرضت عليهن زواجاً تعيساً قضى على أحلامهن
غير أن محاولات فاطمة المستميتة، بحسب روايتها، لم يغيّر شيئاً من مصيرها المحتوم، تقول: "تزوجته وأقمت حوالى شهرين بحي القصبة بالعاصمة، ثم أخذتني أمه إلى أعالي الجبال بمنطقة القبائل (الأمازيغية) في حين سافر هو إلى فرنسا".
وتضيف: "كان يأتي في كل عام مرّة، أحمل منه، ثم يعود من حيث أتى، إلى أن أنجبت ثلاثة أولاد وأربع بنات، ربيتهم وحدي، خاصة بعد وفاة جدتهم، في منطقة مهجورة مخيفة، وكان أبي يأتي في بعض الأحيان من العاصمة كي يتصدّق عليّ ببعض المال والأكل، ربما كان ضميره يؤنّبه عمّا فعله بي".
لم تتوقف مأساة فاطمة هنا، فقد علمت من باقي أفراد الأسرة أن زوجها كان يساكن امرأة أخرى بفرنسا، كما أنه عاد في أحد الأيام، وأخذ الأولاد ليعيشوا معه هناك، وترك لها البنات، تقول: "أتذكر ليالٍ طويلة كنت أنام فيها، والسلاح أمامي، خوفاً على بناتي ممّا قد يحدث لهن في تلك المنطقة المخيفة بأعالي الجبال".
لم تعرف هذه المرأة الأمازيغية طعم الحياة إلا بعد أن أخرجها أصغر أبنائها من ذلك الجحيم، إذ أخذها هي وأخته التوأم للعيش معه في فرنسا، بينما عرفت البنات الثلاث الأكبر سناً مصيراً يشبه مصير أمهن، تقول: "تزوجت بناتي الثلاث من رجال أمازيغ من نفس القرية، بضغط من والدهم الذي لم أملك يوماً القدرة على مواجهة جبروته، لم تكن لي أسرة تدعمني في هذه الحياة، عندما كانت أمي على فراش الموت طلبت أن أسامحها فأخبرتها أنني سامحتها، لكنني لن أنسى أبداً ما فعلته بي عائلتي باسم الأعراف والهويّة الأمازيغية".
لا تختلف مأساة فاطمة عن مأساة كهينة (68 عاماً) كثيراً، فهي الأخرى كانت جميلة، وذكية، ومن عائلة أمازيغية تقطن بالعاصمة، ولكنها كانت أكبر سناً يومذاك (30 عاماً)، وتعلّم الأطفال في المدرسة الابتدائية.
"زوجي مجاهد أرمل"
على عكس فاطمة، طارت كهينة فرحاً حين أخبروها بأن صديق أبيها أرادها لابنه المهاجر بفرنسا، تقول: "كان من نفس سني، وكنت متحمسة لزواجي منه، لكنه لم يكن ينحدر من منطقتنا، وكان ذلك مخالفاً لعرفنا".
غير أن والد كهينة حاول كسر القاعدة حبّاً واحتراماً لصديق عمره، وراح إلى القرية بمنطقة بجاية الأمازيغية ليخبر كبار العائلة، لكن عمّ كهينة هناك قضى على مشروع زواجها، تقول لرصيف22: "اعترض عمي الأكبر على تزويجي من رجل لا تعود أصوله إلى قريتنا، واتّهم أبي بأنه يضع رأس العائلة في الوحل، بكلمة واحدة منه حسم الأمر، وقرّر تزويجي حسب الأعراف".
لم تكن هذه سوى بداية المأساة في حياة كهينة، فقد اختار لها عمّها رجلاً أمازيغياً أرملاً، يكبرها عدة سنوات، ولديه أربعة أطفال، كان مجاهداً إبّان ثورة التحرير الوطنية.
"لم يخبروني أنه يعاني من مرض نفسي".
تقول كهينة: "لم يخبروني أنه يعاني من مرض نفسي بسبب ما عاناه من تعذيب في السجون الفرنسية، إذ تصيبه نوبات يصبح خلالها في منتهى العنف، لم أعش معه يوماً حلواً طوال كل هذه السنين، أذكر أنني صباح عرسي كنت أغسل حفّاظات وملابس أطفاله، حاولت أن أرمي بنفسي يوماً من شرفة البيت كي أنهي رحلة عذابي معه".
وتضيف: "أتذكر كيف كنت أحمل أكياس السّميد الثقيلة إلى بيتي في الطابق السابع فقط، كي أجهض حملي ولا أنجب منه. رغم ذلك فأنا اليوم أم لرجلين وامرأة".
لم تستطع كهينة أن تحمي نفسها من عنف زوجها، ولم تجد من يدعمها من عائلتها، لكنها قررت أن تحمي ابنتها من زواج بائس مثل زواجها: "تزوجت ابنتي من رجل عربي (جزائري غير أمازيغي) أحبّته وأحبّها، أوصيت ابنتي وبنات العائلة أن يدرسن، ويتمسكن بعملهن كي لا يحصل معهن ما حصل معي".
"العلم والاستقلالية المادية مهمان جداً للمرأة كي تتحرر من قيود العائلة والأعراف"، تقول كهينة.
ترى الباحثة في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، الدكتورة أقيس كلثومة، أنه يجب عدم التعامل مع موضوع الزواج الإثني من منطلق إطلاق الأحكام، واتخاذ موقف منحاز للمرأة ضد العائلة فحسب، بل لا بد من تحليل الظاهرة اجتماعياً وتاريخياً.
"عندما كانت أمي على فراش الموت استسمحتني، أخبرتها أنني سامحتها، لكنني لن أنسى أبداً ما فعلته بي عائلتي باسم الأعراف والهويّة الأمازيغية"
تقول لرصيف22: "كان الزواج الإثني منتشراً فيما مضى في المجتمع الجزائري لسببين رئيسيين: الأول اقتصادي، والثاني أمني، إذ كان الزواج الإثني يهدف إلى الحفاظ على أدوات الإنتاج، المتمثلة في الأرض والماشية، وكل ما يخدم اقتصاد العائلة، وكذلك حماية القبيلة من القبائل الأخرى في حالة نشوب صراعات في ما بينها، بمعنى أنه يضمن التحالفات والوحدة داخل القرية أو المنطقة الواحدة".
تحايل على الأب
ترى الدكتورة أقيس أن هذا النوع من الزواج لم يعد منتشراً بفعل عوامل كثيرة، من بينها تغيّر نمط الحياة في المجتمع الجزائري، ووضع المرأة مقارنة بما سبق، وهو ما تحكيه لنا وردة (38 عاماً)، مدرسة لغة انجليزية، عن قصة زواجها من سفيان نتيجة تواطؤ جميل بين أفراد عائلته من أجل التحايل على الوالد المتمسك بالتقاليد الأمازيغية.
تقول وردة، وهي تبتسم: "كان والد سفيان رحمه الله متمسكاً بمصاهرة الأمازيغ، فأراد لسفيان مثل أخويه زوجة أمازيغية، وهو ما جعل حماتي، وسفيان وبقية العائلة يخبرونه أننا من أمازيغ منطقة سطيف وأن والدي لا يتكلّم الأمازيغية جيّداً لأننا نعيش في العاصمة منذ سنين، ولهذا نصحوه أن يتحاشى الحديث معه بالأمازيغية كي لا يحرجه".
كانت هذه الرواية كفيلة بأن تقنع والد سفيان بأن يزوّج ابنه وردة، وأن يفتخر بها كذلك أمام بقية العائلة.
تتذكر وردة بكثير من الحنان والد زوجها، كيف أنها اكتشفت تلك القصة الطريفة بعد زواجها: "كان يكلمني أحياناً بالأمازيغية، وكنت أفهم بعض الكلمات، الحمد لله أنهم كانوا يتكلمون العربية كذلك في المنزل، توفي رحمة الله عليه، وهو يظنني أمازيغية".
ما ترويه وردة أقل مأساة مما روته نساء الجيل السابق، ربما يكون ذلك مؤشراً إلى الخروج من بوتقة الجهوية، والهوس بالعرق، وترسيخ التقاليد، وكذلك بداية تصالح الجزائريين بعضهم مع بعض، فيما يخص انصهار الثقافات من أجل نسيج وطني أكثر تماسكاً، وأقل حدة تجاه الآخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون