"لا أزال أتذكر تلك الأمسية الباردة من نوفمبر/تشرين الثاني 2016. ترددت كثيراً قبل أن تلامس رجلي مياه البحر رفقة أصدقائي الشباب. كنت قد ودّعت شقيقتي المصابة بمرض عقلي، وابنتها الصغيرة صاحبة العشر سنوات، دون أن تشعرا أنني سأبحر نحو القارة العجوز"، تروي سليمة لرصيف22، وهي شابة في العقد الثالث من عمرها.
"أصوات بداخلي تحاول إقناعي أنه يجب الاحتكام إلى العقل في زمن الجنون الجماعي".
تقول سليمة، التي كانت تجلس على قارعة الطريق تمد يدها للناس احتياجاً، قبل أن تفكر في مغادرة الوطن الأم: "في السادسة من مساء أحد أيام نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كان يتملكني شعور طاغ بالخوف، الحزن والاشتياق لأمي التي فارقتني وأنا في الرابعة من عمري، وأصوات بداخلي تحاول إقناعي أنه يجب الاحتكام إلى العقل في زمن الجنون الجماعي".
"اقتربت من الباب الخارجي وفتحته بقوة، لألمس البرد القارس والرياح العالية التي كانت تهب من كل اتجاه، ترددت وأنا أدفع بجسمي نحو الخارج، لم يكن بحوزتي شيء سوى بعض الوثائق التي تثبت هويتي، شعرت حينها بالقشعريرة والرغبة في البكاء والصراخ".
"أسئلة عديدة، كانت تدور برأسي، أبرزها: هل ستطأ أقدامي الأرض الأوروبية؟ أقرّ أنني تشردتُ وضعتُ كثيراً قبل أن أصنع لنفسي حلماً خاصاً بي، تهت كثيراً في طريق حياتي، تعاطيت المخدرات وكانت لي علاقات جنسية غير مرضية، وغير شرعية كثيرة".
"إما فراق الأحبة أو الالتحاق بأمي"
تتابع: "أثناء توجهي إلى نقطة انطلاق الرحلة، كانت في ذاكرتي أشياء لا تهدأ وتفاصيل لا تموت، هي من دفعتني لأخوض هذه المغامرة. كان أمامي خياران أحلاهما مرّ، إما فراق الأحبة أو الالتحاق بأمي"، وتعني إما الهجرة أو الانتحار.
وتقول: "بمجرد وصولي إلى نقطة الإبحار، وجدت شباباً تتراوح أعمارهم بين 20 و40 سنة، يحضّرون في صمت لليلة الصاخبة. مرت دقائق كثيرة، واكتملت ساعتان أو أكثر، حتى التحق الأصدقاء الذين كانوا سيرافقونني في الرحلة. سكون وصمت غريب كان يخيم على المنطقة. حالة لم أشهد مثلها من قبل، لا صخب، لا ضوضاء ولا ضجيج، ما عدا صوت أمواج البحر المتلاطمة".
"تساءلت وأنا على القارب، هل ستطأ أقدامي أوروبا؟ لقد تشردتُ، وضعتُ كثيراً قبل أن أصنع لنفسي حلماً، تعاطيت المخدرات، وكانت لي علاقات جنسية غير مرضية، وغير شرعية"
وتضيف سليمة، التي كانت تظهر ندوباً من جروح ممتدة من جبينها على طول أنفها إلى أسفل وجهها: "قفزنا الواحد تلو الآخر، داخل القارب الذي كان مكتظاً بأكثر من 30 مهاجراً، فالقارب كان يحمل ضعف قدرة تحمّله وتماسكه، لأن المشرفين على العملية هدفهم الوحيد هو جني الأموال. كنا لا نستطيع التحرك ولا حتى الالتفات يميناً أو شمالاً، فالجميع كان منشغلاً بالاستماع لأغاني الهجرة، كالأغنية التي أثرت بشكل كبير على الشباب، 'سامحيني يا يما لازمني نقطاع البحور'، وأيضاً 'في بلادي ظلموني، خليني نروح في بابور اللوح، خليني نروح قلبي مجروح'".
بعد مرور ساعة على الرحيل، وبسبب تضاعف الأمواج العالية والرياح الشديدة، قرر قائد الرحلة العودة إلى نقطة الانطلاق، رغم معارضة قطاع عريض من المهاجرين لأنهم دفعوا أموالاً طائلة، وفي تلك اللحظات التي اشتدت فيها العاصفة، أصبح كل من كان في القارب يردد الصلاة والدعاء إلى أن وصلنا أرض الوطن.
"بعت مجوهراتي لأهاجر"
حالة أخرى من الحزن والإحباط تختبرها إيمان، فتاة جزائرية في عمر الزهور، كانت في علاقة مع شاب مدمن على المواد المخدرة، تورط في الكثير من المشاكل والجرائم التي قادته إلى السجن في نهاية المطاف.
تعرفت إيمان، في العقد الثاني من عمرها، على شاب لا يكبرها في السن كثيراً، أغرمت به ومارسا الجنس، في تحد للعادات والأعراف، تقول لرصيف22: "أقنعني بالهجرة السرية من الجزائر إلى إسبانيا، وصوَّر لي الحياة فوق إحدى جزرها كالعيش في نعيم الجنة".
بدأت إيمان ببيع بعض المجوهرات الثمينة التي أهدتها لها أمها ووالدها، وباتت تستولي على كل ما تجده أمامها ويمكن بيعه لتوفير المال المطلوب من أجل الهجرة، لأنها بقيت الخيار الوحيد المطروح أمامها، خاصة بعد أن فقدت عذريتها، تقول: "لكن الحلم تحول إلى كابوس، بعد أن باءت جميع محاولاتنا بالفشل".
حبست إيمان أنفاسها، ثم أردفت قائلة: "أنا اليوم أشبه دودة القز، أنسج من الخذلان قصة ألقت بي في قاع المجهول، بعد أن دخل صديقي السجن بسبب جرائم ومشاكل اقترفها، وبقيت أنا رهينة الأمراض النفسية والاضطرابات والتجارب السريرية للخروج من براثن الإدمان، والخوف من التفاصيل التي ترفض مغادرة ذاكرتي".
يتداول الشارع الجزائري قصصاً ذات طابع مأساوي حول محاولات نساء للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وأبرزها قصة زهية بوغازي (30 عاماً)، كانت تقطن في بلدة سيدي لخضر بن خلوف، إحدى الدوائر التابعة لمستغانم غرب الجزائر.
قررت بوغازي الهجرة سراً بعد أن باءت جميع محاولاتها للسفر بطرق قانونية إلى فرنسا بالفشل، حيث قوبل ملفها بالرفض سبع مرات متتالية، ولم تجد زهية طريقة لرؤية ابنها البالغ من العمر 14 عاماً، الذي تركته منذ 11 سنة، بعد أن تولى والده رعايته، سوى الإبحار سراً. ولكن شاءت الأقدار أن تعود زهية بوغازي إلى مسقط رأسها جثة هامدة، بعد تعرض القارب الذي كان يقلّها لعطب، وانقلب في عرض البحر.
بدأت إيمان ببيع بعض المجوهرات التي أهدتها لها أمها، وباتت تستولي على كل ما تجده أمامها لتوفير المال المطلوب، فالهجرة الخيار الوحيد المتاح أمامها، بعد فقدان عذريتها
لا توجد أرقام وإحصائيات رسمية عن اللواتي ركبن قوارب الموت، وقالت الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، في أحد تقاريرها الدورية، استناداً إلى أرقام حرس السواحل التابعة للقوات البحرية الجزائرية، إنه تم احباط محاولات لـ 186 امرأة، حاولن بلوغ الضفة الأخرى من المتوسط، خلال الفترة الممتدة بين كانون الثاني/يناير و31 كانون الأول/ديسمبر، من سنة 2017.
"ضحايا قصص الحب"
تعلق الناشطة النسوية الجزائرية دليلة حسين، قائلة لرصيف22: "الفتيات، ضحايا قصص الحب التي لا تنتهي بسعادة، هن من أبرز الفئات التي ترغب في الهجرة، باعتبارها الحل الأخير المطروح أمامها، خاصة إذا فقدت الفتاة عذريتها، فالمجتمع الجزائري لا يتسامح غالباً في قضايا الشرف. معظمهن يلجأن لسرقة الأشياء الثمينة في البيت وبيعها لتوفير المال".
العنصر الاقتصادي هو مسبب أساسي في الجزائر لظواهر مشابهة مرتبطة بالمرأة، فكثير من الأهالي منشغلون بوظائفهم، تاركين أبنائهم وبناتهم يتخبطون في التفكير بمستقبل غامض، ما يدفع النساء، خاصة لعدم توافر فرص عمل لائقة، وكذلك لحجم الحرية المحدود في الحركة والخروج من المنزل، إلى أساليب "غير شرعية"، في محاولة لبلوغ مستقبل أفضل.
وتحمّل الناشطةُ النسوية الأهالي مسؤولية "الانحراف الأخلاقي للأبناء"، وتقترح خلق برامج خاصة للأولياء، وحتى للمعلمين والأساتذة، لـ"تحديد أدوارهم في التربية والتعليم، وزرع القيم الدينية في عقولهم، ومساعدتهم على ترتيب أولوياتهم"، بحسب تعبيراتها.
أهمية الخلفية السياسية والاجتماعية غير العادلة في التعامل مع احتياجات وتطلعات المرأة.
ويشير نقيب الأئمة في الجزائر، جلول حجيمي، إلى أهمية الخلفية السياسية والاجتماعية غير العادلة في التعامل مع احتياجات وتطلعات المرأة، يقول لرصيف22: "العديد من الأسباب تقف وراء تفشي هذه الظاهرة، بينها تلاشي بوادر الأمل، وتردي الوضع السياسي في البلاد، إضافة إلى التأثر الكبير بأغاني الهجرة غير الشرعية".
ويشدد حجيمي على ضرورة استرجاع الثقة المفقودة اليوم، وإيجاد حلول فعلية من أجل تعزيز مكانة المرأة في المجتمع الجزائري، وفتح مشاريع هادفة وواضحة، ودراسة كل المسببات التي تدفع النساء لركوب قوارب الموت.
وينهي حجيمي حديثه قائلاً: "المرأة يجب أن تشعر أنها شريك فعلي وليس مجرد خادمة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...