كل الأمور كانت على ما يرام. كانت خطوط الاتصال نشطة بينه وبين ذويه. ولكن فجأة، انقلبت الموازين. فُقد الاتصال به ولا يزال حتى اللحظة مفقوداً. وبدأت علامات استفهام كثيرة حول مصير مَن عبر النهر حياً.
كانت الآمال والأحلام في خوض رحلة اللجوء مختلفة. كانت المغامرة محمّلة بالطموحات وتلقّي العلاج والعمل والاستقرار والمستقبل الزاهر.
في الـ25 من آب/ أغسطس الماضي، استيقظ سكان قطاع غزة على خبر وفاة الشاب تامر السلطان وهو يحاول عبور دولة كرواتيا متجهاً إلى أوروبا الغربية. وقبل تجاوز هذه الصدمة، أتاهم خبر آخر: ابن القطاع، الشاب صالح حمد (22 عاماً)، فُقد أثره في نهر درينا على الحدود الصربية-البوسنية في 20 آب/ أغسطس.
لم تكن عائلة حمد المكوّنة من عشرة أشخاص على دراية بالمصير الذي ينتظرها والذي سيشتت أفرادها عندما قررت الرحيل عن القطاع المحاصر. لكن الظروف المعيشة وفقدان الأمل والمستقبل المجهول دفعتها لسلوك درب الهجرة غير الشرعية.
يقول كمال حمد، والد الشاب المفقود، لرصيف22: "أنا أب لثمانية أشخاص. أتألم عندما لا أستطيع أن أجد أي تفسير أمام أبنائي حول لماذا نحن هكذا. عرض عليّ أبنائي أن أبيع منزلنا الواقع في شمال القطاع واستخدام ثمنه ليهاجروا إلى أوروبا. عارضت الفكرة، لكن بعدما استشعرت بالخطر الذي يحوم فوق مستقبلهم وافقت وبعت البيت مقابل 23 ألف دولار".
ويتابع عرض قصة الأسرة ويقول: "ذهبَت زوجتي وأبنائي إلى تركيا وأنا فضّلت البقاء في غزة خشية فقدان راتبي الشهري"، هو المسجّل كضابط شرطة لدى السلطة الفلسطينية.
وعن ابنه صالح، يروي أنه "لم يذهب مع والدته وأشقائه إلى اليونان في بداية الأمر لأنه سئم من المحاولات المتكررة التي تم فيها القبض عليه مع مهاجرين آخرين من قبل خفر السواحل التركي. لكنه، وبعدما نجحت أمه وأشقاؤه في العبور إلى اليونان شعر بأنه بحاجة إلى الذهاب إليهم، ونجحت محاولته الأخيرة بالفعل ووصل إلى اليونان لكنه نزل في جزيرة غير تلك التي نزلت فيها أمه وأشقاؤه، لذلك لم يستطع الالتحاق بهم والانضمام إليهم".
ويضيف أن صالح اتفق مع رفاقه على الذهاب من أثينا إلى قلب أوروبا سيراً على الأقدام، و"بعد أيام من المسير وعلى حين غرة فقدانا الاتصال به".
ذهب إليها فذهبت للبحث عنه
تروي أم ضياء، والدة الشاب المفقود، معاناتها لرصيف22، وتقول: "الانتظار من أسوأ أنواع الألم". تشير إلى أنها لا تستطيع مغادرة الجزيرة اليونانية ساموس لكنها تنتظر أن تأخذ ما يسميه اللاجئون بـ"الخرطة الزرقاء" للذهاب إلى أثينا، وتضيف: "سأسلك نفس الطريق التي سلكها صالح وسأبحث عنه في الجبال والوديان والأنهار".
وتتابع: "أنا أنتظر الآن أي خبر يتعلق بفقدانه. لا أحد في الدنيا اختفى عن الأرض إلا وعُرف مصيره أكان حياً أو ميتاً. كلمة مفقود تؤلمني كثيراً".
تشير الأم إلى أن ابنها صالح لا يستطيع الرؤية في عينه اليمنى وكان يريد الذهاب إلى أوروبا للعلاج و"أنا ذهبت من أجل أبنائي. لا أريد أن أعيش بعيدة عن فلذات كبدي".
ولكن كيف فقد أثر الشاب الفلسطيني؟ تروي الأم أنه ذهب هو ورفاقه الخمسة من أثينا إلى ألبانيا ومن ثم صربيا وبعدها حاولوا اجتياز النهر لكنهم فشلوا في عبوره. وفي مساء الأربعاء، في 21 آب/ أغسطس، اتصل بنا أحد أصدقائه ليخبرنا أن أثره فُقد في النهر و"لا نعلم عنه شيئاً حتى اللحظة".
وتابعت أم ضياء: "إذا كان ميتاً فهذا قدره لكني أريد معرفة مصيره، ولو كان غريقاً ربما سيطفو على أحد الشواطئ لكن ولدي اختفى وأنتظر مع نار الحسرة والألم أي خبر عنه".
تفاصيل الاختفاء
يروي الشاب معتز مطر، أحد الشباب الذين كانوا برفقة المفقود أثناء عبور النهر وهو متواجد حالياً في صربيا، لرصيف22 تفاصيل الاختفاء. يقول إنهم كانوا ضمن مجموعة مكونة من ستة أشخاص ألقي القبض عليهم عدة مرات أثناء محاولتهم عبور الحدود الألبانية-اليونانية. "لم يكن الأمر سهلاً. قطعنا مسافات طويلة، ونجحنا بعد عدة محاولات، عبر طرق التفافية بعيداً عن أعين حرس الحدود، سيراً على الأقدام لقرابة 45 كيلومتراً، من الوصول إلى صربيا ومكثنا فيها أربعة أيام قبل محاولة التوجه إلى البوسنة".
قبل استيقاظ سكان قطاع غزة من صدمة خبر وفاة الشاب تامر السلطان وهو يحاول عبور دولة كرواتيا متجهاً إلى أوروبا الغربية، أتاهم خبر آخر: الشاب صالح حمد فُقد أثره في نهر درينا على الحدود الصربية-البوسنية
"إذا كان ميتاً فهذا قدره لكني أريد معرفة مصيره، ولو كان غريقاً ربما سيطفو على أحد الشواطئ لكن ولدي اختفى وأنتظر مع نار الحسرة والألم أي خبر عنه"... والدة الشاب صالح حمد الذي فُقد أثره في نهر درينا بين صربيا والبوسنة تسعى للبحث عنه
يفصل بين البوسنة وصربيا نهر درينا. يقول مطر: "التقينا عند النهر بعدة أشخاص من جنسيات متعددة كانوا يحاولون اجتيازه إلى ضفة البوسنة، لكن طبيعة النهر الغزير شديدة السيولة وكنا نحتاج إلى قارب كي نجتازه. رأينا على الضفة الأخرى من النهر قارباً صغيراً. حاولنا الوصول إليه لنقل الباقين. في تلك اللحظة طلب صالح مني أن نذهب ونأتي بالقارب لمساعدة الموجودين. دخلنا النهر وكان شديد البرودة وعرضه بين 100 و150 متراً. كانت تفصلني عن صالح بضعة أمتار عندما أصابني شد عضلي في ساعدي الأيمن فتراجعت إلى الوراء. صرخ صالح أنه يغرق ولا يستطيع السباحة أكثر من ذلك رغم أنه تجاوز الحدود الصربية وفجأة عمّ الصمت المكان واختفى ولا نعلم أين هو الآن وربما جرفته المياه".
اتهام السفارة الفلسطينية بالتقاعس
يستغرب والد الشاب المفقود "تقاعس السفارة الفلسطينية في البوسنة" في البحث عن ابنه، وقال: "لليوم الـ14 عشر على اختفاء ابني لم تتواصل معنا أي مؤسسة رسمية أو غير رسمية لإطلاعنا على سير عملية البحث عن صالح"، محملاً المسؤولية عن التقصير لحالة الانقسام الفلسطيني، ومناشداً الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن يوعز إلى السفارة الفلسطينية في البوسنة للكشف عن مصير ابنه بشكل عاجل.
ولكن السفير الفلسطيني في دولة البوسنة والهرسك رزق النمورة قال إنه ومنذ اليوم الأول لإعلان العائلة فقدانها ابنها، "باشرت السفارة بإمكانياتها المحدودة في التواصل مع الجهات المعنية والمختصة للكشف عن مصيره".
وأضاف لرصيف22: "السفارة ليست لها صلاحيات في الأمور المتعلقة بأمن حدود الدولة المضيفة لها، ومع ذلك أصدرت وزارة الخارجية الفلسطينية بياناً أوضحت فيه أنها تتابع القضية مع جهات الاختصاص بتعليمات من وزير الخارجية".
وتابع أنه تواصل مع السفارة الفلسطينية في جمهورية صربيا وكشفت التحقيقات الأولية هناك أن آخر حالة سُجلت لعبور نهر درينا كانت في تموز/ يوليو الماضي، أي قبل فقدان أثر صالح حمد بأسابيع.
وأشار إلى أن السفارات لا تعلم شيئاً عن أي شخص دخل البلاد بشكل غير شرعي إلا عبر التبليغ وتمنى أن يكون صالح حمد على قيد الحياة لكنه استبعد ذلك "لأن طبيعة نهر درينا مختلفة عن معظم أنهار أوروبا فهو بارد طوال العام وتوجد فيه أسماك قاتلة، ومياهه جارفة وقوية وطوله 465 كيلومتراً ويصل عرضه في بعض الأحيان من 100 إلى 200 متر، "لكن لا نريد أن نستبق الأحداث وننتظر الجواب من الجهات الأمنية المختصة في البوسنة، والتي أرسلنا لها الملفات والكتب الرسمية المتعلقة بصورة الشاب وجواز سفره وبعض متعلقاته الشخصية للبحث عنه".
تقع المآسي ولكن ظاهرة سلوك أهل غزة دروب الهجرة غير الشرعية لا تتوقف. "لا يمكن حصر عدد الشباب الفلسطينيين المهاجرين إلى أوروبا"، يقول لرصيف22 أستاذ علم الاجتماع حسام أبو ستة، "فهذه أصبحت ظاهرة ولها تبعات والأخطر من ذلك هو التوجه الفكري لدى الشباب للهجرة من القطاع الذي يعاني من غياب أدنى متطلبات الحياة العادية".
قصة الشاب صالح حمد وغيره من الشباب تعيد إلى الأذهان قصصاً كثيرة منها قصة أولئك الذين نجوا من حرب غزة، بعد 51 يوماً، عام 2014، وركبوا الأمواج هاربين من حرارة المدافع إلى ظلمات البحر، وبينهم ساجد حماد الشاب المفقود منذ خمس سنوات ولا أحد يعلم شيئاً عنه حتى الآن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...