كثيفة هي الموضوعات والأعمال الفنية، التي تقدمها الفنانة منيرة الصلح، في معرضها المقام في غاليري صفير زملر في بيروت، والذي تجمع فيه عدداً من المعارض والأعمال الفنية التي قدّمتها سابقاً في الولايات المتحدة، ألمانيا، قطر، ودول أخرى. وكما تتعدد موضوعات المعرض، تتعدد أيضاً الوسائط والتقنيات التي توظفها الفنانة لتحقيق أعمالها الفنية، فنرى الرسم، الإخراج، التطريز، وجمع القصص، بالإضافة إلى عرض قراءاتٍ لنصوص حكاياتٍ دمجتها الفنانة في معرضها.
يمتدّ المعرض على خمس صالات، في الصالة الأولى وعند المدخل الأساسي يطالع الزائر جدار مطلي بلون القهوة الغامقة، وقد كتب عليه بأضواء النيون الخضراء "النظافة من الإيمان"، أما على السقف فنجد ثريا مصنوعة من بلاستيك مستعمل ومن أكواب كرتونية مستعملة. في هذا العمل الموضوع في مقدمة المعرض تدمج الفنانة المواد الخام مع المواد المعاد تدويرها، وهي تقدم بذلك نموذجاً في استخدام المواد المستعملة في تحقيق الأعمال الفنية، وتربطها بمفهوم النظافة، الذي يبدو في هذا العمل نقيضاً لممارسات الإستهلاك المجانية.
ممارسات المرأة في ثقافة المنطقة
تحت عنوان "والدة دافيد وجالوت" نشاهد في الصالة الثانية ثماني لوحات زيتية بأحجام مختلفة، تقدم فيها الفنانة عدداً من الحكايات التخييلية المستمدة من الأدب، وكذلك مشاهد تشكيلية مرسومة من شهادات نساء عرفن تجارب الاعتقال والتعذيب الجسدي. ترافق اللوحات تسجيلات صوتية لنصوصٍ مكتوبةٍ ومقروءة من قبل أديبات وفنانات متعددات، هن نجوى بركات، شذى شرف الدين، لينا منذر، ولينا صالح، هذه التسجيلات تنطلق من مكبرات صوتية مخفية خلف ستائر لتكون غير مرئية لعين الزائر.
لوحتان تجسدان لحظات من المعاناة النفسية والجسدية تخضع لها النساء بقسوة، تضيف فيهما الفنانة في مراقبين، أو من هم في دور المتفرجين، كأن هناك دوماً عيناً ذكورية مراقبة، وأحياناً مشاركة وفاعلة، بل ومستمتعة، بفعل التعذيب الواقع على النساء
لدينا لوحتان تجسدان لحظات من المعاناة النفسية والجسدية تخضع لها النساء بقسوة، تضيف الفنانة في اللوحتين مراقبين، أو من هم في دور المتفرجين، على لحظات التعذيب الجسدي والنفسي للنساء، كأن هناك دوماً عيناً ذكورية مراقبة، وأحياناً مشاركة وفاعلة، بل ومستمتعة، بفعل التعذيب الواقع على النساء. هنا ليست العين المراقبة إدانةً للذكورية بقدر ما هي إدانة لدور الجلّاد أو السادية. بضربات فرشاة قوية تظهر المساحات اللونية الواسعة لتكون الحدود التشكيلية للأحجام والعناصر المرسومة من الأزرق النيلي، الأخضر وبحضور قوي للون الأصفر.
لا تقتصر اللوحات على موضوعات التعذيب، بل حاولت الرسامة تقديم ممارسات نسائية من ثقافة المنطقة. لذلك نجد لوحة ثلاثية لنساء يعزفن على الآلات الموسيقية، تُدخل دوماً الفنانة في لوحاتها عبارات مكتوبة بالعربية والإنكليزية من مثل: "وحيدة كالثلج يتركني" أو "أبكي وأرقص"، في إشارة إلى الحالة النفسية والذهنية للنساء اللواتي ترسمهن داخل لوحاتها.
كذلك لدينا لوحة عن امرأة عارية مرسومة بالألوان البنية تشرب الأركيلة، بفعل تحدٍّ واضح وإبراز السلطة والمقدرة أمام إشارات الأصابع الذكورية المستهجنة لحضور هذا المرأة السلطوي في مركز اللوحة. لوحة أيضاً نشير إليها تكتب فيها الرسامة عبارات عن العشق، وترسم فيها وجهاً ذكورياً ينفح الريح بالوجه الأنثوي، كتب أعلى اللوحة: "الحبل بلا دنس"، إنها إشارة إلى التواصل غير الجسدي، ولكنه المؤثر، والذي يتم عبر الريح، فعل النفخ يرمز للتواصل بين الذكورة والأنوثة، المرهف والعشقي والتكاثري في الآن عينه.
" كلّي إيمان في حقنا بالطيش": بورتريهات اللجوء، النزوح والهجرة
في الصالة الثالثة تقدم الفنانة الصلح عملها الفني بعنوان "كلي إيمان بحقنا في الطيش" الذي تعمل عليه منذ العام 2012، حيث تجمع تجارب وشهادات شخصية من الأزمات السياسية والاجتماعية التي تشهدها سورية والشرق الأوسط، يوضح البيان الخاص بالمعرض: "توثِّق هذه السلسلة من الرسومات تجارب وحوارات شخصية للفنانة مع أولئك الذين فَرُّوا من الحرب في سوريا ونزحوا إلى لبنان وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. تسرد البورتريهات المقدّمة في المعرض، والتي يزيد عددها عن 150، ما لاقاه أولئك خلال الرحيل والوصول لبلد النزوح والعيش في حالة من الصدمة وعدم اليقين".
لقد بدأت التجربة بدعوة منيرة الصلح اللاجئين إلى الاستوديو ليرسموا وجوههم وملامحهم، توضّح الفنانة أنها ترغب عبر هذه البورتريهات المرافقة للنصوص، أن تسرد للعالم حكايات من عوالم الهجرة والاندماج، تقول الفنانة: "بعد ست سنوات متواصلة في هذا العمل، أصبحتُ أكثر وعياً بمدى قدرة الوجوه على سرد القصص الإنسانية وأفكارها عن الحياة وتطلّعاتها".
"كلي إيمان في حقنا بالطيش" إذن هو مجموعة بورتريهات ترافق قصصاً جمعتها الفنانة من رجال ونساء وعائلات جيرانها الذين عاشوا تجربة النزوح، الهجرة، والتنقل من مكان إلى آخر، بسبب الأحداث السياسية والاجتماعية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط. إن نتيجة هذه اللقاءات التي عقدتها الفنانة مع أشخاص عايشوا تلك التجارب شكّلت ما يقارب الأرشيف التاريخي لعددٍ من الحكايات التي تشمل العديد من الثقافات والجنسيات والجماعات البشرية في المنطقة.
تحت عنوان "والدة دافيد وجالوت"، تقدم الفنانة منيرة الصلح ثماني لوحات زيتية بأحجام مختلفة، تتشابك مع عدد من الحكايات التخييلية المستمدة من الأدب، وكذلك مشاهد تشكيلية مرسومة من شهادات نساء عرفن تجارب الاعتقال والتعذيب الجسدي
تقدّم الفنانة منيرة الصلح فيلماً من 30 دقيقة بعنوان "بصحة الحلفاء"، تروي فيه، عبر مذكراتها الشخصية، تاريخ المنطقة في سيرة عائلتها اللبنانية السورية منذ الحرب العالمية الأولى، ومن بعدها الفترة الناصرية، وصولاً إلى مرحلة الخمسينيات والستينيات
تعرض هذه البورتريهات المرسومة على ورق إداري أصفر في ستاندات زجاجية طولانية، وفي إطار المعرض، قُدّم عرض بأسلوب القراءات، تمت فيه قراءة الشهادات من قبل مؤديين مسرحيين، ساري مصطفى وزياد تشاكرونسكي، وبمشاركة الفنانة الصلح أيضاً. قرأت تنويعات من الشهادات منها: عن الثقافة "ثقافة منطقة السويداء، الإسكندرون، مصر، عن علاقة المهاجر الثقافية ببعض البلدان الأوربية، عن التجربة الثقافية لطلاب يدرسون في أوربا، وعن الثقافة الكردية، وعن العلمانية والدين في المنطقة العربية"، ومنها ما يتعلق بالأحداث السياسية مثل "المشاركة في المظاهرات السورية، عن تجربة الاعتقال، عن تجربة العيش تحت القصف والحصار".
تكتب الناقدة لور غريب عن "كلي إيمان بحقنا بالطيش" ما يلي: "تخوض الفنانة مغامرة فهم الكلمات والتحولات والمفاهيم الشعبية أو الديماغوجية لدى المجموعات البشرية التي تنكفئ أحياناً تحت مسمّى النازحين واللاجئين، والذين يبحثون عن مفردات تفهمهم أصلهم وفصلهم ورموزهم وعباراتهم التي تكوّن مفاهيم يتجمعون تحت رايتها ويستميتون من أجل الدفاع عنها، يأتي معرضها في خضم الوضع الوجودي والنفساني المتعلق بالهوية في العالم العربي وبالقضية الفلسطينية وبالمأساة السورية التي تحمل مئات الألوف، بل الملايين، على مغادرة أرض الوطن. محافظتها على هذه التقاليد التي تعيدنا الى حمل بيوتنا على رؤوسنا وحطّ الرحال في الأرض الغريبة، حيث من شأن التحولات والنكبات والثورات والحروب أن تجبر الناس على الانتقال بحثاً عن أمكنة آمنة".
فيلم عن سيرة عائلة لروي تاريخ المنطقة
في الصالة الرابعة، تقدّم الفنانة فيلماً من 30 دقيقة بعنوان "بصحة الحلفاء"، تروي فيه عن تاريخ عائلتها اللبنانية السورية منذ الحرب العالمية الأولى، ومن بعدها الفترة الناصرية، وصولاً إلى مرحلة الخمسينيات والستينيات. الفيلم نوع من السرد لتاريخ المنطقة من خلال سرد تاريخ العائلة، عبر المذكرات الشخصية للمخرجة. توضح منيرة الصلح خياراتها الفنية في تحقيق الفيلم: "قصص العائلة كثيرة ومتعددة، لذلك تعمّدت أن يبدأ الفيلم بالسرد كل مرة بطريقة جديدة، فمع كل نهاية قصة يظهر على الشاشة عبارة: كان يمكن لهذا الفيلم أن يبدأ بطريقة أخرى، ليعاد روي هذه المذكرات بطريقة مختلفة"، هذا الأسلوب في السرد السينمائي يسمح للمخرجة بالتعبير عن فكرتها، بأن قصص العائلة وتاريخها دوماً هي قابلة للسرد والروي بطرق مختلفة ومتعددة.
خيوط التطريز تربط العائلات والأفراد في الشتات
في الصالة الخامسة، تقدم الفنانة عملها الفني "من الشروق إلى الغروب" وهو عبارة عن خيمتين من القماش طرّزت عليهما مفردات من اللغة العربية التي تصف الأجزاء من النهار والليل، من حركة الشمس والقمر في السماء، من الشفق إلى الغسق، من العتمة إلى الضحى، من العصر إلى الظهر إلى الأصيل، يقرأها المتلقي داخل الخيمة على شكل دائرة، ولكن جدران الخيمة مطرزة أيضاً بنوع آخر من النصوص، وهي نصوص اختارتها الفنانة باللغة الإنكليزية والعربية من شهادات، أو الحكايات التراثية والقصص.
تهدف الفنانة من تقديم عمل التجهيز هذا، إلى استلهام التاريخ النسوي في التطريز بالمنطقة العربية، وتطرز على جدرانها حكايات تتعامل مع التاريخ الجمعي المعاصر والقديم. تم إعداد هذا مع مجموعة من النساجات المختصات، تكتب عنه الفنانة: "خيوط التطريز تجسيد لما يربط بين العائلات والأصدقاء عبر المسافات الزمانية والمكانية التي أصبحت تفصل بينهم جراء النزوح والشتات".
ما يميز أعمال الفنانة منيرة الصلح هو التزامها بالموضوعات الاجتماعية مثل حقوق المرأة، والقضايا السياسية مثل تأثيرات الحرب، الهجرة والنزوح على الأفراد والجماعات، وهي تعمل لتوظيف تقنياتها الفنية والابداعية لدفع المتلقي إلى النقاش والتأمل في هذه الموضوعات، غير معتمدة فقط على البعد الجمالي أو التشكيلي، وهذا ينبع من خلال رؤيتها الذاتية للفن، حيث عبرت في أكثر من لقاء بأنها تربط الفن بالسياسة والمجتمع والتاريخ بعمق، تقول : "هناك أعمال فنية تفسّر لنا الكثير، وتمنحنا الكثير من المعلومات التي لا تكون محسوسة بأي طريقة أخرى غير الفن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...