شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"لجأت لاستعمال ملابس أبي"... الفوط الصحية للدورة الشهرية في قرى تونسية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 4 فبراير 202104:57 م

من غرفتها بأحد المستشفيات الحكومية في محافظة مدنين التونسية، توصي الخالة خضراء (75 عاماً)، حفيداتها بالحذر الشديد أثناء الدورة الشهرية، عائدة بذاكرتها المنهكة إلى شبابها، عندما كانت تجهل التعامل مع تلك الفترة الحساسة.

تقول قريبتها مريم لرصيف22: "الخالة خضراء خضعت لعملية استئصال الرحم قبل أشهر، بسبب المرض الخبيث، لكنها توصينا في كل مرة نزورها بضرورة التعامل بطريقة صحية مع دماء الدورة الشهرية، وبأن نحافظ على نظافتنا الشخصية، وشراء الفوط الصحية في تلك الفترة".

تضيف مريم (28 عاماً): "تقول الخالة إنها ظلت لسنوات طويلة تستعمل قطع قماش غير نظيفة، وأنها تستعمل أحياناً ملابس والدها المتسخة، دون أن تفكر في عاقبة هذا الاستهتار، لأنها عاشت في منطقة ريفية نائية تنتشر فيها الأمية والفقر".

"لجأت لاستعمال ملابس أبي"... الفوط الصحية للدورة الشهرية في قرى تونسية

عانت الخالة خضراء (بحسب رواية مريم) لسنوات طويلة من الروائح، والالتهابات، وهي تؤكد باستمرار أن سبب ذلك استعمالها لأقمشة وملابس غير نظيفة لإخفاء دماء الدورة الشهرية.

ورغم أن الخالة خضراء، ولدت في ثلاثينيات القرن الماضي، فإن أزمة غياب الفوط الصحية لا تزال تلقي بظلالها في تونس، حيث تعاني النساء من عدم قدرتهن على شراء الفوط خلال دورتهن الشهرية.

"أكره الدورة الشهرية"

"أكره فترة الدورة الشهرية كرهاً شديداً، ليس لما تخلّفه من آلام، بل لعجزي عن شراء الفوط الصحية"، تقول آمال (19عاماً) من محافظة سليانة.

تحولت الأيام التي تحيض فيها آمال إلى كابوس، تقول لرصيف22: "لا أتذكر يوماً أنني تحدثت مع والدتي عن موعد دورتي الشهرية أو حتى طلبت منها أن تشتري لي الفوط الصحية، لذلك أشعر بالخوف كلما اقترب موعدها".

"تقول الخالة إنها ظلت لسنوات طويلة تستعمل قطع قماش غير نظيفة، وأنها تستعمل أحياناً ملابس والدها المتسخة، دون أن تفكر، لأنها عاشت في منطقة ريفية نائية تنتشر فيها الأمية والفقر"

وتضيف: "انقطعت عن الدراسة قبل ثلاث سنوات، وبقيت حبيسة المنزل، أساعد عائلتي في الأعمال الفلاحية، ولا أملك دخلاً شهرياً مستقراً، لذلك لا أشتري مستلزمات البنات، ولا أشتري الفوط الصحية، فأنا أضطر كل شهر لاستعمال بعض الملابس القديمة، والبالية لمواجهة دماء الدورة الشهرية، وأحياناً لا أقدر حتى على توفير قطعة قماش".

تواصل الشابة التونسية، التي اختارت الحديث باسم مستعار: "لا تشعر بالراحة عند استعمال قميص قديم أو قطعة قماش بالية ومهترئة"، مشيرة إلى أنها "دائماً تشعر بالخوف، والاشمئزاز لأنها تضطر أحياناً للبقاء بقطعة القماش لساعات طويلة للتوفير".

تشعر آمال بالحيرة، فهي لم تعد ترغب في استعمال قطع القماش والملابس القديمة، لأنها أصبحت تعاني بعد كل انقضاء للحيض من الالتهابات، الروائح الكريهة، وإفرازات مهبلية تسبب لها الألم، والشعور بالخوف، لكنها في نفس الوقت لا تنتظر أن توفر لها الدولة فوطاً صحية مجانية "لأنهم يعتبرون أنها أشياء ثانوية، وليست ضرورية"، حسب قولها.

"لجأت لاستعمال ملابس أبي"... الفوط الصحية للدورة الشهرية في قرى تونسية

"أخاف من الزواج"

لا تختلف قصة سماح عن قصة آمال كثيراً، فهي امرأة ولدت، وعاشت ربيع عمرها في منطقة ريفية، نائية، تتبع محافظة جندوبة، عانت وأخواتها من عدم امتلاكهن الأموال لشراء الفوط الصحية.

تتحدث سماح (30 عاماً) لرصيف22، عن تجربتها، قائلة: "انقطعت عن الدراسة في وقت مبكر جداً إذ لم أتجاوز المرحلة الابتدائية، رغم أنني كنت متفوقة، الظروف الصعبة لعائلتي أجبرتني على مغادرة مقاعد الدراسة، ومساعدة أمي في البيت".

وتضيف: "كان حلمي مواصلة تعليمي، والعمل، وإعالة أسرتي، لكن الأقدار شاءت ألا يتحقق كل ذلك، وكلما كبرت أحسست بضرورة العمل، فأنا لا أملك مليماً واحداً كي أشتري أشياء خاصة بالبنات".

وتتابع: "أخجل جداً من طلب ثمن فوط صحية من عائلتي، لذلك أضطر كل شهر لاستعمال قطع قماش من ملابسنا القديمة، والتي لا أجدها دوماً هي الأخرى، فنحن فقراء وليس لدينا ما يزيد على حاجتنا".

وتكمل: "فعلاً إنها معاناة تتكرر معي كل شهر، حتى أنني أبدأ في التفكير في الموضوع منذ منتصف الشهر، وأحاول أن أجد حلولاً، تخيلي أني مزقت قميصي الذي ما زال صالحاً ذات مرة، ووبختني أمي جداً، ولم أتجرأ أن أقول لها عن سبب ما فعلته، فهي امرأة، ومن المفترض أن تتفهمني".

باتت سماح تخشى الزواج لأنها تعاني من الالتهابات، والروائح الكريهة، لكنها تأمل أن تتخلص من هذه الوضعية في القريب العاجل.

"لجأت لاستعمال ملابس أبي"... الفوط الصحية للدورة الشهرية في قرى تونسية

الفوط الصحية مواد أساسية

تشعر الناشطة في المجتمع المدني ورئيس جمعية مرضى السرطان، روضة زروق، بالدهشة من تعامل الحكومات المتعاقبة على تونس مع الفوط الصحية باعتبارها ليست موادَّ أساسية، وضرورية في حياة المرأة. تقول: "لا تملك أغلبية النساء في الأرياف البعيدة الأموال لشراء الفوط الصحية، لذا يلجأن إلى الأقمشة والملابس القديمة التي قد تكون أحياناً غير نظيفة أو صحية، وهو ما يسبّب لهن عدة أمراض، منها سرطان الرحم، والالتهابات المهبلية".

"إلى جانب انعدام الفوط، معاناة المرأة في الأرياف متزايدة من نقص المياه، ولا تدرك معنى الثقافة الصحية، لذلك فإن العديد من النساء يعانين شهرياً من غياب الفوط الصحية، ونقص المياه، ولا يمكنهن الحديث عن هذه المعاناة لأن الدورة الشهرية من المواضيع المحرجة في مجتمعاتنا العربية"، توضح زروق.

حزن وسخرية

تعود فاطمة (اسم مستعار) بذاكرتها إلى عام 2004، عندما كانت تدرس في أحد المعاهد الثانوية، وفاجأتها دماء العادة الشهرية. تقول: "كان أسوأ يوم في حياتي، رفضت بعده الذهاب إلى المعهد من شدّة خجلي، وبقيت حبيسة غرفتي الصغيرة أسبوعاً كاملاً".

تواصل فاطمة (30 عاماً)، من محافظة الكاف، سرد قصتها: "يومها فاجأتني الدورة الشهرية صباحاً، فقمت باستعمال جزء من قميص قديم لمواجهة الدماء القوية، وأخذت معي الجزء الثاني لاستعماله في الساعات الأخيرة من النهار، لأنني أقضي كامل اليوم في المعهد".

 لم تعد ترغب في استعمال قطع القماش والملابس القديمة، لأنها أصبحت تعاني بعد كل انقضاء للحيض من الالتهابات، والروائح الكريهة، وإفرازات مهبلية، وألم، وخوف من الزواج

وتضيف: "بعد منتصف النهار، قمت باستخدام حمام المعهد، واستبدلت قطعة القماش بأخرى نظيفة، وعندما قمت برميها تفطنت لي إحدى زميلاتي، وقامت بالسخرية مني أمام الجميع، شعرت حينها بحزن شديد، وحبست نفسي في غرفتي لأيام طويلة".

معاناة فاطمة لم تنته مع الفوط الصحية، فقد ظلت تعاني طوال فترة مراهقتها كثيراً للحصول عليها، خصوصاً أنها لا تُباع في دكاكين القرى والأرياف، تقول: "هذه المعضلة تقلصت تدريجياً، بعد أن بدأت الدراسة الجامعية في العاصمة".

ودائماً تفكر فاطمة في وضع النساء والفتيات الريفيات، وطالبات المعاهد الداخلية، لأنهن يعانين الفقر، ولا يتمتعن بثقافة صحية جيدة، وهو ما جعلهنّ عرضة للأمراض والالتهابات، والتعامل بطريقة خاطئة مع دورتهن الشهرية.

فوط متعددة الاستخدام

في 2015، أطلقت جمعية "جيل الحرية" بالشراكة مع جمعية "wallah we can" مبادرة لتصنيع وإنتاج فوط صحية متعددة الاستخدام، أي إنتاج وتصنيع فوط قابلة للغسل، وإعادة الاستعمال، ويتم توزيعها على طالبات المدارس الداخلية، ونساء الريف.

يقول لطفي حمادي، مؤسس جمعية "wallah we can"، لرصيف22 إنه قرر في البداية، تصنيع فوط ذات الاستعمال المتعدد، وقابلة للغسل، ثم تم تطوير المبادرة لتصنيع سراويل داخلية، تمنع تسرب دماء الدورة الشهرية، مؤكداً أنه سيتم بيع هذا المنتوج في الخارج، وتخصص عائداته المالية لشراء فوط صحية، وتوزيعها على الطالبات الفقيرات، ونساء الأرياف.

ويتابع: "الهدف من إنتاج فوط صحية قابلة للغسل وإعادة الاستعمال، هو مساعدة الفتيات والنسوة على التوفير، وأيضاً للحفاظ على البيئة، ولتوفير مواطن شغل في المحافظات المهمشة".

"طالبات انقطعن عن الدراسة بسبب عدم قدرتهن على التعامل مع فترة الدورة الشهرية".

ولاحظ حمادي خلال زيارته المتكررة للمعاهد، والمناطق الريفية النائية، غياب الثقافة الصحية لدى النساء والفتيات، مؤكداً أن "طالبات انقطعن عن الدراسة بسبب عدم قدرتهن على التعامل مع فترة الدورة الشهرية، وأخريات أصبن بعدة أمراض والتهابات، وثمة فتيات فقدن حياتهن جراء جهلن هذا الأمر".

ويلقي باللوم على الأمهات، اللاتي يرفضن إلى اليوم الحديث مع بناتهن حول موضوع الدورة الشهرية، إذ "يتعامل الفتيات مع دماء الدورة الشهرية بطريقة خاطئة، من خلال اللجوء لاستعمال أقمشة وملابس قديمة مستعملة، وأحياناً تكون غير نظيفة، إلى جانب غسل الرحم بالمياه الساخنة في فترة الدورة، وهو ما يتسبب لهن في عدة أمراض والتهابات وروائح كريهة".

وتنصح الدكتورة إنصاف الدعاسي، أخصائية أمراض النساء، أنه في حال اضطرت المرأة لاستعمال قطع قماش قديمة يجب أن تحرص على غسلها جيداً وتطهيرها، لكنها تستبعد في المقابل أن تتبع النساء في الأرياف هذا التقليد، لأن أغلبهن لا يتمتعن بالثقافة الصحية، إضافة إلى نقص مواد التنظيف والمياه.

وتضيف: "استعمال قماش غير نظيف لمواجهة دماء الدورة الشهرية يمكن أن يتسبب في التهابات، تنجم عنها حكة في الجلد، وإفرازات، وروائح كريهة".

وتختم: "أمهاتنا وجداتنا كن يعتمدن على قطع القماش وبقايا الملابس القديمة لمواجهة دماء الدورة الشهرية، وهي ليست عادة جديدة، وما زالت إلى اليوم في الأرياف، وفي بعض المدن".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image