في الصف الثاني الإعداديّ، بدأت قصتي مع دورتي الشهريّة. كنت أشاهد فيلم ”تايتانك“ لأوّل مرة في منتصف الليل، ثم ذهبت إلى الحمام قبل النوم، لأرى بقعًا بنيّة في سروالي الداخلي. امممم. مرحبًا!
كانت والدتي تعمل بالخارج، ولمن لا يعرف مهنتها، هي ممرضة. كنت بمفردي. لم أنبّه أختي الكبرى، ولم أوقظ أبي. وضعت فوطة صحيّة، ودخلت السرير بمشاعر مختلطة بين الفرح ورهبة الموقف. أخيرًا سيكون لدي ما أشاركه في جلسات صديقاتي اللاتي سبقت دورتهن دورتي. وأخيرًا سيكون لدي ما أقوله في جلسات النسوة الكبار. في خطابي التالي لأمي، قلتُ لها حصل كذا وكذا. وكنت أعلم أن أبي يقرأ خطاباتي، فكانت طريقتي لإخباره. بعد شهر، أرسلت لي أمي خطابًا مليئًا بالنصائح. "أنتي كبرتي دلوقتي. استخدمي فوط صحيّة. غيري الفوطة كل 3 ساعات. لازم تتطهري من الدورة لما تخلص علشان تعرفي تصلي تاني. كلي كويس واشربي عصاير."
ونظرًا لأن دم الدورة يعتبرونه دماء فاسدة، فقد مُنعنا من ممارسة شعائرنا الدينيّة، منصوصًا عليه صراحة في القرآن أن الحائض لا تصوم ولا تُصلّي.
بدأ الحساب!
ارتبطت الدورة في عقولنا كفتيات ببداية الحساب لأفعالنا. فكانت بداية المسؤوليّة وبداية التعامل معنا ”كنساء“، مهما كنا صغيرات. فالفتيات يلعبن في الشارع، يرتدين القصير والمفتوح، ويتحركن بعفويّة. أما النساء فكُنّ مقيدات بأعراف مجتمعيّة وقيود دينيّة. النساء لا يلعبن في الشارع، ولا يرتدين القصير والمفتوح، ولا يتحركن بعفويّة. فكل خطوة بحساب وبقدر. عندما آتتنا الدورة، أنا وصديقاتي، بدأنا نشجع بعضنا على الصلاة والملابس المحتشمة والحركة المحسوبة في الشارع. فارتدينا الحجاب واحدة تلو الأخرى.
عندما تبدأ الدورة الشهريّة، يبدأ معها فصل مختلف من علاقتنا بأجسامنا كفتيات، ثم كنساء. كنت أرى أختي تحمل الفوطة الصحيّة في طيّات ملابسها لتعبر بها من الغرفة إلى الحمام. ففعلت مثلها دون تفكير. كنا لا نضع الفوط الصحيّة في الحمام مثل المناديل وفوط الوجه وفرش الأسنان. كان هناك شيئًا مختلفًا مع الفوط الصحيّة لأنها تتعامل مع أعضائنا الجنسيّة مباشرة. وكنا لو ذهبنا أنا وصديقاتي لشراء فوط صحية، نفحص أولًا عمّا إن كان البائع رجلًا أو امرأة. وكنا نتجنب الرجال، لأننا سنشتري شيئًا خاصًا جدًا. كانت علامات الحَرج تعلو وجوهنا رغم ذلك. وكان الباعة يلفّون علب الفوط الصحيّة في جرائد، ثم يضعونها في كيس أسود حتى لا يعرف أحدًا من المارة أن الموجود بالكيس فوط صحيّة.
حتى طريقة القول بأننا عندنا الدورة الشهريّة كانت ضمنيّة. فأحيانًا كنا نقول: ”عندنا ظروف“، بدلًا من عندنا الدورة مثلما كانت تقول أمهاتنا. وأحيانًا نقول: ”عندي البريوت“، لأننا لم نكن نعي وقتها أنها بريود وليست بريوت، فالإنجليزيّة لم تكن مُتقنة في مدارسنا الحكوميّة. أما مَن كانت لديهن خلفيات طبيّة لأن في عائلاتهن أطباء نساء وتوليد، فكان المصطلح: ”بي إم إس“، أو ”منسز“.
بدأنا نطور علاقة بين الدورة الشهريّة وبين تغيرات جسمنا. فالنتوءات الصغيرة التي وجدت طريقًا فوق أقفاصنا الصدريّة، كانت سببًا للخجل، نتحاشى ظهوره قدر المستطاع. وكانت المُشعرات منّا أكثر خجلًا لأنه غير مسموح لهن بإزالة الشعر بعد. سبحان الله! رغم أنه تم اقناعهن بتغطية شعرهن لنفس السبب. أصبحت كل خطوة محسوبة. ودعنا عالم الطفولة، ودخلنا عالم النساء.
كان الباعة يلفّون علب الفوط الصحيّة في جرائد، ثم يضعونها في كيس أسود حتى لا يعرف أحدًا من المارة أن الموجود بالكيس فوط صحيّة
مازالت تساؤلت هل دم الحيض يُفسد الصيام والتناول، حاضرة في الجدليات الكنسية في مصر
أثرت هذه النظرة الدونية للدورة الشهرية وأجسام النساء على صحتهن الجنسيّة والإنجابيّة. فمثلًا، شابات كثيرات لم يُسمح لهن بزيارة أطباء نساء وتوليد لفحص سبب تأخر الدورة الشهريّة
استخدم تطبيق لمتابعة دورتي الشهرية بدلًا من التدوين اليدوي والمُشفّر في كراساتي الدراسيّة. أصبحنا أكثر وعيًا بأجسامنا، وأكثر جسارة في الدفاع عنها ضد الوصم
لا صيام ولا صلاة، ولا حتى اجتماعيّات
ونظرًا لأن دم الدورة يعتبرونه دماء فاسدة، فقد مُنعنا من ممارسة شعائرنا الدينيّة، منصوصًا عليه صراحة في القرآن أن الحائض لا تصوم ولا تُصلّي. ورغم أنها رخصة للإفطار في رمضان مثلًا، إلا أننا كبرنا ونحن نُخبئ إفطارنا حتى بين أفراد أسرتنا منعًا للحرج. اتجه البعض متطرفًا في التسعينات لتحريم مَسّ المرأة الحائض للمصحف، حتى أثناء التنظيف. وأيضًا تحريم التواجد في المسجد أثناء الدورة الشهريّة. كأنه تلميحًا أننا ممنوعات من علاقتنا مع الله، لأننا فاسدات بدم الحيض. تقول ”كارولين كارمي“، وهي ناقدة سينمائيّة، أن طائفتها الإنجيليّة لا تُحرم أي من الشعائر الدينيّة على الحائض. أما مصممة الأزياء، ”بسنت ماكسيموس“، فتقول أن طائفتها الأرثوذكسيّة تُحرّم التناول على النساء أثناء دورتهن الشهريّة، وتقول أنه مازال السؤال هل دم الحيض يُفسد الصيام والتناول، حاضر في الجدليّات الكنسية في مصر.
أما الاجتماعيات فقد حُرمت منها الحائضات. فمثلًا، يُقال أن المرأة الحائض لا تدخل على امرأة نَفِسة، وهي المرأة التي ولدت مؤخرًا، حتى لا تتسبب في ”كبسها“. والكبس هنا، معناه أن الأخيرة لن تحمل مرة أخرى. وكذلك، كان يُقال أن الحائض لا تدخل على غُسل ميّت، لأنها نَجِسة بدماء الحيض. حوالي أسبوع من شهر أغلب النساء، يقيضنه منبوذات ومختبئات، حتى يتطهرن. والطهارة تكون بالاغتسال، وهي طريقة المسلمين في التطهر من الحيض وممارسة الجنس، ولها طقوسها كأن تصل المياه لمنابت الشعر وتحت الأظافر، وهو مختلف عن الاستحمام العادي بغرض النظافة الشخصيّة. فالاغتسال غرضه الأول التطهر من ”النجاسة“، وبعضها هو السوائل الناتجة عن ممارسة جنسيّة، أو الحيض.
الدورة الشهريّة وغشاء البكارة
أثرت هذه النظرة الدونيّة للدورة الشهريّة وأجسام النساء على صحتهن الجنسيّة والإنجابيّة. فمثلًا، شابات كثيرات لم يُسمح لهن بزيارة أطباء نساء وتوليد لفحص سبب تأخر الدورة الشهريّة، أو أسباب اضطرابها. لأنه في اعتقاد بعض الأهالي، الكشف يتم بالسونار، وهو ما يعني تهديد فض غشاء البكارة أثناء الفحص الطبي. أما الشابات اللاتي لم تنزل دورتهن الشهريّة لأن غشاء بكارتهن مسدود ويحتاج إلى ثقبه بعملية جراحيّة للسماح بدم الحيض بالخروج، فقد طلبت أسرهن من الأطباء شهادة طبيّة تُفيد بأن ثقب غشاء البكارة كان ضرورة صحيّة بعد وجود مضاعفات طبية منها تجمع الدم في الرحم والناتج عن انهيار بطانته كل شهر.
لم أسمع عن ”التامبون“ شخصيًا إلا في عام 2016. وأعتقد أن أمي لم تكن لتوافق على استخدامي له أيضًا للحفاظ على بكارتي. لم استخدمه ولا مرة حتى الآن، لأنني تعودت على خروج الدم في فوطة صحيّة.
كانت بعض شركات الدعايّة تنشر إشاعات عن شركات أخرى من المُنتجين للفوط الصحيّة، منها أن استخدام فوطة صحيّة ماركة كذا، يُسبب العقم. وفي أوائل الألفية أثناء الانتفاضة الفلسطينيّة، أشاع البعض أن شركة كذا تستخدم مواد تسبب عقم للمسلمات، وتفُض أغشية بكاراتهن، أو تُثيرهن جنسيًا، لأنها شركة إسرائيليّة.
الدورة الشهريّة وموجات الاحتجاجات العربيّة
في عام 2011 بدأنا نستخدم الإنترنت لفتح نقاشات حول النساء. وكان منها النقاش حول وصمة الدورة الشهريّة. حاولنا أن نقول بأنها طبيعة جسديّة، وأنها لا تستوجب الشعور بالخزي الذي تربينا عليه. فكتبنا، وكعادة أي موضوع عن الصحة الجنسيّة والإنجابيّة للنساء، تمت مهاجمتنا واتهامنا بالتفاهة. لكن مع الوقت، بدأت التجمعات النسائيّة المغلقة بالأخص على فيسبوك تدعم الكلام بأريحيّة عن الدورة الشهريّة. بدأ عهد آخر من السخريّة والتهكم على الدورة الشهريّة، بالحديث عن التغير الهرموني، والتقلب المزاجي الذي يصحبها، حتى في ”الكوميكس“. فأثناء نقاشاتنا النسويّة، استخدم المتنمرين كلمة: "انتي شكلك عندك الدورة“، كنوع من أنواع الوصم، بالأخص عندما نتحدث بغضب عن قضية ما.
مازال أملنا في محو تلك الوصمة هو الحراك النسوي القاعدي الذي نشأ بعد 2011. فالنساء أصبحن أكثر جرأة في الحديث عن أجسامهن وعن صحتهن الجنسيّة. وسهّلت التكنولوجيا علينا متابعة وفحص أجسامنا. فالآن استخدم تطبيق لمتابعة دورتي الشهريّة بدلًا من التدوين اليدوي والمُشفّر في كراساتي الدراسيّة. أصبحنا أكثر وعيًا بأجسامنا، وأكثر جسارة في الدفاع عنها ضد الوصم، مهما كان مُتجذرًا في الوعي الجمعي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين