الفستان الأبيض، زرع في مخيلة العديد من النساء أسطورة الزواج، وأضحى لبعضهن بمثابة بوابة المرور بعيداً عن قيود الأسرة لهذا العالم، فلطالما كرّرت أمهاتهن على مسامعهن: "حتعملي اللي بتحبيه بعد ما تتجوزي".
الخلاص من بيئة الأسرة الخانقة، والوعود الزائفة لحياة مستقرة في "عش الزوجية" السعيد، كان دافع العديد ممن التقى بهن رصيف22، للزواج من رجال يكبروهن بأكثر من عقد.
"رغم أن معظم الفتيات في العصر الحديث بدأن يعتبرن الزواج حلماً مؤجلاً، يتم تعويضه مؤقتاً بالدراسة والعمل وما إلى ذلك، فإن الزواج المبكر، وتحديداً في سن ما بين 18 وحتى أوائل العشرين، ربما أكثر أو أقل بقليل، لا يزال شائعاً في مجتمعنا"، تقول المحللة النفسية نجلاء عمر.
توضح نجلاء: "الخروج من فترة المراهقة، والسيطرة على حلم الزواج دون تحقيقه، هو أمر لن تقوى كل فتاة على تجاوزه، وينتج عن ذلك زواج مبكر، وبما أن الزواج يعتبر خطوة جادة تحتاج للكثير من العوامل لتنفيذها، فغالباً ما يكون الطرف الآخر اقترب من الثلاثين، أو تخطى هذا العمر ببضعة سنوات، حتى يكون لديه المسؤولية والقدرة المادية لهذه الخطوة: تأسيس أسرة وإعالتها".
"اكتشفت معنى الأبوة"
بدأت ليلى (39 عاماً)، تسكن في القاهرة، تحسّ بمعنى الحب وهي في الثانية عشر من عمرها، أحبت جارها حتى الجنون. تقول إنه لديه خبرة بحكم عمره الذي يتجاوزها بعدة أعوام، فمكّنه ذلك من التلاعب بمشاعرها، وعندما تجاوزت تلك العلاقة، ووصلت إلى الثمانية عشر عاماً، دفعها اليأس والملل للقبول بـ "عريس" مناسب، لم تر حينها فارق السن عائقاً. كان يكبرها باثني عشر عاماً، تزوجته وأنجبت ثلاثة أطفال، وتخيلت السعادة معه.
بدأ فارق العمر يظهر عندما اقتربت من سن الخامسة والثلاثين، فكان زوجها يفضل المكوث في البيت أكثر، بينما هي تحب الانطلاق والخروج من المنزل، تقول: "أصبح زوجي يستنكر، فاهتماماته مختلفة كلياً، شكلاً وموضوعاً. أصبح رجلاً بيتوتياً، يرغب فقط في حياة روتينية، أبطالها العمل والطعام والنوم والجنس من آن لآخر، وكأن الحياة انتهت في الخارج".
يبحث رجال في مصر عن زوجة "زي العجينة" مطيعة، تتشكل حسب أهواءهم، لذا يفضل من يتجاوز الثلاثين الزواج بمن دون العشرين
ما اكتشفته ليلى أنها لم تكن تحب زوجها، ولكنها كانت تفتقر لمشاعر الأبوة، وتعرفت عليها معه، فوالدها كان متوفياً وهي صغيرة، ولم تره يوماً واحداً، وباتت تشعر أنها مسجونة في هذا الروتين، تقوم بواجباتها حيال أولادها وتنطلق مع أصدقائها. تقول عن نفسها: "محرومة من حقي في الحب والشعور بدفء المشاعر مع شخص يشاركني اهتماماتي وجنوني"، وهذا هو تعريف الحب الذي تغير في عقل ليلى بحكم العمر والتجربة.
ترى نجلاء أن اللوم بالأساس في الزواج المبكر مع فارق العمر، يقع على عاتق الأسرة، أهل الزوج أو الزوجة، تقول: "ربما تعترض بعض الأسر على فارق السن الذي يتخطى 12 عاماً على الأقل، ولكن في الأغلب يتم الموافقة من معظم الأهل، وذلك بحجّة أن الرجل ينضج فقط بعد سن الثلاثين، وبالتالي لن يكون هناك مجال للاستهتار أو فشل العلاقة، لأن الرجل في سن الثلاثين يعتبر مسؤولاً، بينما يفضّل الرجل فارق السن، طمعاً في الفتاة الصغيرة التي يمكن تشكيلها كما يحلو له، كما أن صغر سنها يضمن عدم وجود خبرة مع الرجال، ما سيسهل المهمة".
وتلفت نجلاء النظر إلى دور معتقدات خاطئة، ولكنها شائعة، تقول بأن الزواج للفتاة في سن مبكر يجعلها تنجب أطفالاً أصحاء، والعديد منهم أيضاً إذا كان الزوج يرغب في عائلة كبيرة.
"حياتي تشبه "أين عمري"
تشاهد أسماء (33 عاماً) من المنصورة، فيلم "أين عمري" للفنانة ماجدة وزكي رستم، كثيراً، ولا تملّ منه، فهي ترى في أحداث الفيلم تشابهاً كبيراً مع مسار حياتها.
نشأت أسماء في أسرة محافظة: كل شيء ممنوع، وكان أخوها الأكبر متولي، يتولى توصيلها إلى المدرسة أو محلات التسوق، حتى مشاهدة التلفاز وحدها أيضاً كان محظوراً.
ورفضت الأسرة استئناف دراستها في المرحلة الجامعية، بحجة وجود اختلاط بين الجنسين، حتى تقدم لخطبتها ابن عمها، الذي كان في عمر الثالثة والثلاثين وهي لم تتجاوز التاسعة عشر.
تقول أسماء لرصيف22: "وافقت على الفور بعدما قطع وعداً بأن يسمح لي بمواصلة دراستي، كان هذا حلمي الأول، بجانب رغبتي الشديدة في الخروج من دائرة تحكّم أسرتي".
بمرور الوقت تحول زوج نهى لـ"زائر غير مرغوب فيه"، وبدأت تقيم علاقة مع رجل، تصف علاقتها معه بأنها "عشق عبر الإنترنت"، يتبادلان الصور، والمكالمات الجنسية
تزوجت أسماء منه وأكملت دراستها، ولكن اكتشفت (كما هو حال زكي رستم في الفيلم) أن زوجها "مريض بالشك"، فكان يصطحبها للجامعة، ورفض حضورها أحد الامتحانات لأن ظروف عمله منعته من اصطحابها.
تضيف: "بدأت مشاكل من نوع آخر، سببها التحدث للجيران دون إذنه، أو الخروج من المنزل لشراء أغراض دونه، وكأنني خرجت من دائرة لأدخل في أخرى، ولكن هذه المرة دون الأمل الذي كنت أعيش من أجله في منزل عائلتي، بالزواج ونيل الحرية".
لم تستطع أسماء مواجهة واقعها، وحاولت الانتحار ولكنها فشلت، وثار زوجها "لكرامته بإيعاز من أهل أسماء"، إذ استنكروا بشدة رغبتها في إنهاء حياتها، حتى قرّر معاقبتها بالزواج من أخرى، هنا لم تفكر أسماء بالانتحار، ولكنها اتخذت قراراً آخر.
"قررت أن أغامر بكل ما أملك من شجاعة متبقية، وقررت الانفصال، ورفعت دعوى طلاق رغم تهديدات عائلتي بالتبرؤ مني، وبالفعل حصلت على حريتي وأنا في سن 32، وقررت أن أبدأ من جديد رغم الكثير من العوائق، جروح الماضي ومقاطعة أهلي، حتى التهديدات بحرماني من أولادي"، تنهي أسماء حديثها لرصيف22.
"زوجي زائر غير مرغوب فيه"
على عكس أسماء، لم تحب نهى، اسم مستعار (29 عاماً) تسكن في القاهرة، التعليم، ولم تتمكن من إنهاء مؤهلها المتوسط، وترى نفسها أيضاً الأقل جمالاً وسط أقاربها وأصدقائها، بينما ترى الجميع إما في حالة حب أو استعداد للزواج، ورغبت بشدة في اختبار تلك المشاعر، خاصة عندما بلغت الواحد وعشرين عاماً.
تقول نهى لرصيف22: "رغم صغر سني، وصلت 21 عاماً ولم يتقدم لخطبتي أحد أو حتى يلمّح لي أحدهم بحبه. سيطرت رغبة الزواج عليّ لدرجة مرعبة، كنت أمشي في الطرقات أنظر لكل رجل حولي. وبعد نصائح من عائلتي قررت العمل في محل ملابس، الوظيفة الوحيدة التي تناسب إمكانياتي المحدودة، فأنا لا أملك شهادة أو خبرة أو موهبة أو حتى قسطاً كافياً من الجمال".
أصبحت زوجة ثانية، وقدمت الكثير من التنازلات.
تعرفت نهى في عملها على صاحب العمل (40 عاماً)، متزوج ولديه أطفال، تقدم لها كما خططت، وأصبحت زوجة ثانية، وقدمت الكثير من التنازلات، على رأسها أنه لا يأتيها سوى يومي الخميس والجمعة من كل أسبوع.
تقول نهى: "من السبت للأربعاء أنا وحيدة تماماً، أتحدث إلى نفسي حتى بدأت أدخل عالم مواقع التواصل الاجتماعي، أصبحت مدمنة على فيسبوك، والتحدث مع الغرباء باسم مستعار، أستمتع بكلمات الرجال المعسولة لي رغم أنهم لم يروني يوماً، فأنا أضع صورة لإحدى الفنانات بجانب اسم مستعار، حتى بدأت أتقرب لشخص بعينه، متزوج، وتطورت الأمور بيننا حتى أصبحت عشيقته عبر الإنترنت، نتبادل الصور والمكالمات الجنسية".
تغيرت نظرة نهى لزوجها، اعتبرته "زائراً غير مرغوب فيه، يحصل على حقوقه الزوجية فقط"، وذلك حتى يتسنى لها العيش في منزل وحدها، وتأمل بتحويل علاقتها مع حبيبها الافتراضي إلى "علاقة حقيقية".
ترى المحللة النفسية أن وسائل التواصل الاجتماعي "ساهمت في إعادة اكتشاف الأزمات والمشكلات للمجتمع، عن طريق مشاركة الجميع في أزماتهم وأفكارهم، لذا تبدأ الكثيرات من زوجات كبار السن بالشعور بنشاطهن بعد الثلاثينيات، بينما أزواجهن تتراجع صحتهم الجسدية وميولهم الاجتماعية، ما يزيد الفجوة، حتى تصبح العلاقة كأب وابنته وليس كزوجين".
وتشدد نجلاء على ضرورة الاهتمام بالتوافق والتقارب في السن والفكر قبل بداية الزواج، وأن يستثمر الطرفان الفترة في دراسة موضوعية للعلاقة.
وتبقى العادات والتقاليد الذكورية في الغالب تحتضن تلك الممارسات المتعسّفة والمقيدة لكثير من النساء صغيرات السن، بتشجيع أو عدم اعتراض من الأهالي، الأمر الذي يستدعي ضرورة توعية النساء حول مخاطر الزواج المبكر، خاصة من رجال يكبروهن بالعمر بعقد أو أكثر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...