"تخرجت من الثانوية العامة من مدرسة غير مختلطة بأحد المدن الأردنية، وسافرت للدراسة خارج البلاد، كان أول يوم لي بالجامعة بمثابة الصدمة، الطلبة والطالبات هنا يصافحون بعضهم بعضاً، ويتعانقون بحرارة، فكرت لوهلة أنني في حلم وعلي الاستفاقة منه، ففي مدينتي من المستحيل أن أرى مشهداً هكذا؟ وهم يمنعوننا حتى من الدراسة مع الشبان"، هكذا وصف معاذ( 20 عاماً) طالب صيدلة من إربد الأردنية، شعوره في أول يوم له في جامعة المنستير في تونس.
لا تزال بعض المجتمعات العربية تضع حدوداً للعلاقات بين الجنسين، فلا تعترف بعض العائلات بالصداقة، ولا بالقرابة، إذا ما تعلقت الأمور بإحدى بناتهن، وآية ذلك انتشار مدارس خاصة بالذكور وأخرى بالإناث في العديد من الدول العربية.
آيات ( 26 عاماً)، عاطلة عن العمل من أحد أرياف الخليل في فلسطين، تروي لرصيف22 أن أخاها ضربها بسبب مصافحتها زميلاً لها في الجامعة عندما التقته صدفة في طريقها إلى البقالة، وتعرّضت لشتائم من والدتها، تقول عن مشاعرها، وردة فعلها: "ساءت معاملة أفراد العائلة لي، وكأنني ارتكبت جرماً لا يغتفر، لا ألوم والدتي غير المتعلمة لكني ألوم أخي المتخرج من الجامعة، ويفكر مثل مجتمع بدائي".
"فلتانة ومش مرباية "
لا يتدخل المجتمع الذكوري في حرية المرأة من ناحية الملبس والتعليم فقط، إنما سمح لنفسه بترسيخ أعراف اجتماعية تقيّد حريتها في اندماجها المنطقي داخل محيطها، للخروج من البيت ضوابط ونواميس يجب أن تتبعها، فلا تكلم فلاناً، ولا تتحدث مع علان، ولا تبتسم حتى لأقاربها الذكور، وإلا قيل عنها "فلتانة ومش مرباية" مثلما حدث مع إبراهيم (38 عاماً) من سوريا. يقول: "للأسف ما زال أفراد بعض العوائل المحافظة جداً، خاصة في الغوطة الشرقية، وحتى في بعض المدن كدمشق وحمص وحلب وحماه، لا يسمحون للبنت بالخروج وحدها، وكثير منهم لا يجلسون مع بنات عمهم ولا يعرفون وجوههن".
"الرجل حتى لو تزوج في سن الأربعين يبقى بداخله ذاك المراهق الذي لم "يستهلك" مشاعره بالكامل، فيحس بنقص ما، ويعدد علاقاته في السر كنوع من الانتقام وردة الفعل العكسية"
يحكي إبراهيم أن نساء عائلته لم يزلن محافظات على غطاء الوجه كاملاً، وارتداء القفازات، وتعتبر الأسرة من العار أن يتحدث شاب ولو هاتفياً مع إحدى بنات العائلة.
وعندما أراد إبراهيم أن ينجز استطلاع رأي في أحد الأرياف، ووجد نساء بالصدفة، سألهنّ عن موضوع ذات صلة بما يقوم به، لكن شاباً من المنطقة أتى غاضباً، ونهره، وحاول ضربه، يقول: "لولا ألطاف الله لحلت كارثة في ذلك اليوم".
"لا تكلمي الرجل التائه"
في أغلب محافظات اليمن، تفرض العادات والتقاليد سطوتها، ولا يجوز للمرأة أن تتكلم مع الرجل خارج بيتها أو خارج العمل، بحسب عثمان، الذي يعمل في المجال الإعلامي، يروي: "يقال عن تلك المرأة قليلة أدب وعاهرة وتتهم بأكثر من تهمة، هذا بالنسبة للمدن، أما في القرى فتمنع النساء حتى من العمل مع الرجال، ولا تستطيع المرأة التكلم مع الرجل حتى لو كان تائهاً،وفما بالك إذا كشفت واحدة منهن عن شعرها وعمرها فوق الثلاثة عشر عاماً فلن يرحمها أحد".
تؤثر تلك التقاليد الذكورية على نفسية الشاب والفتاة على السواء، ويحدث تشوش وغموض في إدراك ماهية الجنس الآخر لكلا الطرفين، فيعجز كل منهما على بناء علاقة سليمة عند اختيار شريك الحياة.
يقول أحمد (27 عاماً) طالب من إجنسنيا بفلسطين: "في مجتمعنا يصورون لك المرأة كالمخلوق الممنوع الاقتراب منه بأي شكل من الأشكال، فحتى المصافحة تعد عيباً، فما بالك بالعناق والقبل. هذه طبعاً من المحرمات الكبرى، حتى وإن كانت عفوية و"بريئة".
فشل في علاقاته العاطفية العديدة، ويرجع ذلك إلى "الجهل بشخصية الجنس الآخر".
تلك المحرمات غيرت مشاعر أحمد بشكل تلقائي حيال كل النساء، فراح يتعامل معهن كـ"أخواته"، وهو يعني كبح المشاعر العاطفية والجنسية، حتى بعد أن سافر، وتحرر من القيود المجتمعية، فشل في علاقاته العاطفية العديدة، ويرجع ذلك إلى "الجهل بشخصية الجنس الآخر، والاحتكاك الذي كان ممنوعاً لعشرين سنة خلت".
أما صديقه مالك (24 عاماً)، فيتحدث عن تفشي الخيانات الزوجية في المجتمعات العربية، يقول: "الرجل حتى لو تزوج في سن الأربعين يبقى بداخله ذاك المراهق الذي لم "يستهلك" مشاعره بالكامل، فيحس بنقص ما، ويعدد علاقاته في السر كنوع من الانتقام وردة الفعل العكسية. وإن لم يفكر بالخيانة فلن يعرف كيف يتعامل مع كائن مختلف عنه، عاطفياً أو جنسياً، فإما أن يندفع اندفاعاً أعمى أو يصاب بنوع من الجمود والقوقعة على النفس، وفي كلتا الحالتين يعد خاسراً، وتفشل العلاقة بطريقة ما".
"خائفة من زوجي"
ظلت مريم (30 عاماً) من محافظة أسيوط عاماً كاملاً بعد الزواج تتعامل مع جسدها باعتباره "عورة"، فلا تزال الفكرة مرسخة في لاوعيها. تقول لرصيف22: "تسبب لي ذلك في مشاكل عدة مع زوجي الذي نصحني بزيارة طبيب نفساني، فقد وصل بي الأمر للسؤال بيني وبين نفسي عندما أكون معه إنت مين؟ إنت غريب؟ أنا لا أعرفك؟ رغم أنه كان لطيفاً معي، أتساءل ماذا لو كان فظاً في سلوكه معي، فكيف ستكون مشاعري؟".
وتضيف: "لم أكن أعلم أن تلك القيود التي فرضت علينا في علاقتنا مع الجنس الآخر ستخنقني إلى هذا الحد، فعلاً لا أستطيع وصف مشاعر الخوف، والارتباك، ونقص الثقة بالنفس الذي مررت بها بعد الزواج، لكن الحمد لله بدأت أتعافى شيئاً فشيئاً، ولن أربي أبنائي على فكرة أن الجنس الآخر ممنوع".
تعتبر جومانة حمدي، طبيبة نفسية مصرية، أن الفصل بين الجنسين "عنف" ضد المرأة على الأخص، تقول لرصيف 22: "عادةً، نعتقد أن التأثير النفسي للفصل بين الجنسين يحصل على البنت كأن تحس أنها منعزلة وأنها شخص غير مرغوب فيه، لكن في الحقيقة هو عنف موجه ضدها، فهي تجد نفسها مضطرة للتعامل مع كائن لا تعرفه عندما تكبر، وعلى هذا الأساس نلاحظ أن مجتمعاتنا هي أكثر المجتمعات تباهياً بعدم وجود الاختلاط، لكنها في نفس الوقت تعتبر التحرش دائماً خطأ البنت".
ظلت مريم من محافظة أسيوط عاماً كاملاً بعد الزواج تتعامل مع جسدها في المنزل باعتباره "عورة"، تقول: "نصحني زوجي بزيارة طبيب نفساني، فقد صرت أتساءل وأنا معه إنت مين؟ إنت غريب؟"
أما عن تأثير عدم الاختلاط على الرجل، فتقول حمدي: "الرجل يجد نفسه فجأة أمام كائن ينجذب له فقط من الناحية الجسدية، ولا يعرف التعامل معه من الناحية الإنسانية، ثم إن فكرة أن أحمي بناتي من الذكور حتى وإن كانوا من العائلة هي في حد ذاتها نابعة من تفكير الرجل الذي يرى المرأة فقط لممارسة الجنس، وبالتالي يقوم بعزلها عن أي وجود ذكوري من باب حمايتها".
"ويبقى السؤال: هل الرجل خائف من البنت على نفسه أم العكس؟ لكن هو فعلياً ليس مؤهلاً أن يتعامل مع كيان آخر مختلف عنه، وبالتالي يحس أن هذه المرأة هي تهديد له، وهو غير قادر على التحكم في رغباته، فتتولد ردة الفعل بمنطق "كلما عزلناهن تضاءلت نسبتهنّ"، وهو سبب في زيادة العنف الجنسي والجسدي في المجتمع".
وتضيف أن المرأة مثل الرجل لديها صورة ذهنية مشوهة تماماً عن نفسها، فهي ترى نفسها أداة ومصدر للفتنة، كما يراها الطفل أو الرجل خطيئة، والاقتراب منها معصية.
هكذا يولّد الانفصال بين الجنسين "انفصاماً" في مشاعر كل طرف تجاه الطرف الآخر، فيحدث خلل في الشعور، وفي مدى فهم كينونة الجنس المقابل، وبالتالي يتولد نوع من الخوف حيال التعامل معه أو نوع من الصدام الناتج عن عدم التناسق بين الشخصيتين المنفصلتين، واللتين لم تلتقيا إلا لضرورة اجتماعية، مثل لقاء الزواج أو الارتباط، وهو الاختلاط الوحيد المباح في مجتمعات تسيطر عليها عادات وتقاليد قديمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...