شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"خدعني الفايروس واستدرجني إلى أرضه"... زائر الكورونا الثقيل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 16 أكتوبر 202011:54 ص

أشعر أنّ جسدي فيه جسمٌ غريب، أنا لست على ما يرام، ثمّة زائر ثقيل يسرح في أحشائي، يتغلغل في عظامي. هذا ما كنت أشعر فيه طوال فترة المرض. الفايروس لا يُرى، لكنّك لو تأمّلت في داخلك وفي ما يطرأ من أعراض ستشعر(ين) بلا شكّ بوجود شيء ما يتحرّك، يسيطر على حواسّك وشعورك.

لو لم يكن هذا الفايروس مكتشَفًا لقلت فوراً إنّه "رشح" من نوع مختلف، أقوى من العادة، لكنّي كنت سأشعر بأنّ هنالك أمراً مختلفاً، ومريباً ومقلقاً دون شكّ.

كل القراءات التي قمت بها والدراسات التي امتلأت منها، والتحليلات والتسجيلات التي سمعتها حول هذا الفايروس، كلّها ستصبح من الماضي حين تكون(ين) أنت الحالة، حين يزورك هذا الكائن الغريب الجديد. الآن، أنا أمام تجربة شخصيّة مباشرة، وعليّ أن أقرأ حروف هذا الفايروس وأفكّ شيفرته بنفسي.

الأعراض بدأت كرشح عادي، سيلان وألم في الرأس، واحتقان. هي عوارض رشح موسمي، قلت في نفسي، أنا المعرّض باسستمرار لنزلات الرشح تلك. لا شيء جديداً أو مختلفاً، أراقب نفسي باستمرار، وأطمئنُها. كلّ الخبراء والأطبّاء قالوا إن هذه ليست عوارض كورونا. فلا عوارض مختلفة: سعال جاف، ألم في الصدر، ضيق تنفّس... كل هذا لم أشعر به، حتّى حرارة جسمي لم ترتفع، فاستبعدت إصابتي.

ثلاثة أيّام ثمّ اختفى أيّ أثر للعوارض. إذاً هو رشح عادي كما توقّعت. منحني الفايروس هدنة، أو قام بخدعة حربيّة معي لاستدراجي. يومان من دون عوارض. قمت باختبار النَّفَس، نزلت الدرج وصعدته أكثر من عشر مرّات، لم أشعر بتعب غير عادي، النَّفَس سليم، إذاً لا كورونا في جسمي، والآن يمكن أن أطمئن.

وكأنّ الفايروس سحبني إلى أرضه لينقضّ بضربته ويحكم قبضته عليّ. بعد يومين من دون عوارض، شعرت في اليوم الثالث بما لم أختبره طوال حياتي. لم أعد أستطيع شمّ الأشياء. ما الذي يجري معي!؟ فقدت حاسة الشم! الحاسة التي أعتزّ بها باعتبارها أقوى حواسّي. الآن لا أستطيع حتّى استنشاق رائحة العطور! صار كلّ شيء بلا رائحة. إذاً هو الفايروس ظهر أخيراً. هي الحرب إذاً.

على الشرفة، وأنا أحاول عبثاً التقاط أيّ رائحة من روائح الصباح، شعرت بأمر مريب آخر. لا أستطيع التنفّس، الهواء لا يدخل إلى رئتيّ، أشعر به ثقيلاً، كأنّ الطبيعة قرّرت أن تقنّنه خوفاً من فقدانه، لكنّها ليست سلطة جائرة فاسدة كي تفعل ذلك، هي تمنحنا عناصرها بسخاء. إذاً، فالفايروس قرّر البدء بنشر جنوده كلّها في داخلي، وعليّ الآن أن انتظر الهجوم الآخر.

"كل القراءات التي قمت بها والدراسات التي امتلأت منها، والتحليلات والتسجيلات التي سمعتها حول هذا الفايروس، كلّها ستصبح من الماضي حين تكون(ين) أنت الحالة، حين يزورك هذا الكائن الغريب الجديد"

يومٌ كامل من دون قدرة سليمة على التنفّس، مع ألم في الرأس فوق الأنف مباشرة، كأنّ هنالك مَن يمسك أنفي طوال الوقت كي لا أسرف في الهواء فأستنفده. كنت أخرج كلّ فترة إلى شرفتي المطلّة على شجرات الصنوبر. أسعفتني الشجرات قليلاً. لحسن حظّي أنا هنا، ولست في بيروت، هكذا كنت أقول لنفسي وأنا أفكّر في ما يمكن أن يقدّمه الفايروس من مفاجآت أخرى.

انقضى اليوم الأصعب مع نوبة سعال خفيف، كنت أدرك أنّ هذه ذروة المرض، لا أريد أن أشعر بالتوتر، سيعود النّفس بعد قليل، لا أعاني من مشاكل في جهازي التنفسي، الفايروس ليس قوياً عليّ... بعدها، بدأ النّفس يعود تدريجياً، الشم قرّر أن يتأخّر. قرأت عن حالات فقدت الشم لأشهر، شعرت بالرعب، كيف سأعيش من دون حاسّتي المفضّلة!؟

في اليوم التالي، كان التنفس قد عاد وبدأت آلام الجسد، آلام في الكتفين، وفي الظهر كان الألم أكثر قوّة، ألم جديد لم أختبره من قبل. كثيرة هي الأعراض الجديدة لهذا الفايروس. ليست أقصى وأشدّ ما شعرت به في حياتي، لكنّها مختلفة، أختبرها للمرّة الأولى. فألم الظهر لا يساوي شيئاً أمام آلام الديسك التي عانيت منها قبل سنوات، وألم الرأس مزحة أمام نوبات "الميغران" التي تصيبني عدّة مرّات في السنة. الألم الآن يتركّز كمَن يمسك دبّوساً وينخر بالعظم، ألم لا يتعب، لكنّه يختفي مع حبّات المسكّن، ومع رغبة دائمة في النوم، يصاحبها تعب وإرهاق كمَن قام بمجهود كبير وفرغ منه لتوّه. لا أذكر أنني قرأت عن موضوع النوم ضمن العوارض، لكنّه ليس أمراً عتيادياً، إذاً أنا الآن أكتشف عارضاً جديداً من أعراض كورونا: عارض النّوم.

لم أشعر بأنّ الألم يتمكّن منّي ويستعبدني، يمكنني أن أمارس كلّ يومياتي، لكنّ تعباً مفاجئاً قد ينتابني في أيّ لحظة.

"لا شيء ثابتاً في هذا الفايروس، لا قواعد ولا أحكام مسبقة، كلّ حالة لها أعراضها وأشكالها وسماتها، هذا أهمّ ما خبرته في أيّام زيارته لجسدي. مهما حاولت أن تقرأ(ي) عنه، ستكون تجربتك مختلفة، وهي تجربة لا أتمنّاها لأحد"

ما الذي ما زال ينتظرني؟ ما هي العوارض الأخرى؟ هل هنالك ما هو أصعب؟ قرأت أنّ عوارض التّنفس والحرارة هي الأصعب والأخطر في هذا الفايروس، إذاً أنهيت مرحلة الخطورة، لم تدم أكثر من يوم وبضع يوم، وصرت أقول في نفسي: أهذا هو الفايروس الذي ارتعدت فرائصنا وأقفلنا البلاد بسببه؟ لحسن حظّي، لم تكن حالتي حرجة أو صعبة، كحالات أخرى.

هذا الفايروس لا شكل له، لا قاعدة، لا عوارض محدّدة، كلّ حالة تختلف عن الأخرى، هذا ما أدركته أثناء تواصلي مع حالات مختلفة، كلّ شخص كانت له عوارضه، وكل حالة تركّز الألم فيها في مكان، هو يختار نقطة الضّعف فيضربها، لذالك يعاني مَن لديه مشاكل في التنفس، أو في الضغط. أنا تركّز الألم بحدّة أكبر في ظهري، حيث عانيت من الديسك لفترة ولم أشف منه تماماً إلى اليوم.

خضعت للفحص، وكانت النتيجة إيجابية، نتيجة كنت أعرفها مسبقاً. كنت أعرف وأشعر بوجود جسم غريب في داخلي، أتابع تطوّره وتحرّكه، لكن الآن أصبحت أملك ورقة رسميّة به، بتّ رسمياً من ضمن المصابين بالفايروس على عدّادده اليومي.

يخفّ الألم ولا يزول، لكني تيقّنت من أنّني تخطّيت الخطر. الآن أنا في مرحلة التراجع، في مرحلة الصمود في وجه هذا الغازي، هل يريد أن يكشف عن أسلحة أخرى!؟ لا شيء جديداً سوى التعب الشديد والإرهاق، كأنّني عائد لتوّي من ماراتون، أو وصلت قبل قليل إلى قمّة جبل، لا رغبة إلّا في النوم، وشعور يعتريني بنقص المناعة النفسيّة.

هل يضرب هذا الفايروس جهازنا العصبي!؟ هل هو الملل؟ هل هو الضيق من الحجر؟ لا أتذمّر في العادة من الحجر. إذاً ما سبب هذا الشعور بالإحباط والخوف والقلق!؟ بدأت بالتغلب على المرض! أصبحت في مرحلة العدّ العكسي؟ لماذا إذاً تدنّت مناعتي النفسيّة!؟ السبب ربّما يعود لطول فترة العوارض، والآلام، هي تستكين بالمسكّنات، لكنّها لا تزول، تعود بعد قليل، ولامتداد فترة المرض إلى حيث لا ندري!

الآلام ليس قاسية، لكنّها مزعجة، مزعج هو الشّعور باستمرار الألم وتنقّله في الجسد بلا حسيب أو رقيب. تشعر(ين) بأنّ الفايروس هو الذي ينتقل، الآن هو في ظهري، وبعد قليل في رأسي، وغداً في الحنجرة...

الشم يعود تدريجياً، إذاً لن يبقى هذا العارض طويلاً لديّ، لحسن حظّي، بدأت معالم الشفاء تظهر، والأعراض تنسحب تدريجياً، لم يتبقَّ سوى بعض الآلام، وها هي تخفّ بشكل ملحوظ، النّفس عاد إلى طبيعته بشكل ملحوظ، لا أشعر سوى ببعض التعب والإرهاق، وإحساس مزعج في الأنف والحنجرة.

أحاول ألا أزعج الفايروس، لا أستفزّه، أتجنّب التدخين تماماً، فالتدخين يحييه ويوقظه، أجلس في الشمس يوميّاً لأنال قسطاً من الفيتامين دي.

كلّ يومٍ يمرّ يتراجع الفايروس أكثر، وجسمي يجدّد نشاطه، ونّفَسي يستعيد توازنه. لم يحدث الشفاء دفعة واحدة، بل أتى على مراحل. جمع هذا الزّائر أغراضه وانسحب تدريجياً. لم يترك لي سوى بعض الآلام. بعض العوارض تستمرّ لأشهر. أتمنّى ألا يحصل معي هذا الأمر.

لا شيء ثابتاً في هذا الفايروس، لا قواعد ولا أحكام مسبقة، كلّ حالة لها أعراضها وأشكالها وسماتها، هذا أهمّ ما خبرته في أيّام زيارته لجسدي. مهما حاولت أن تقرأ(ي) عنه، ستكون تجربتك مختلفة، وهي تجربة لا أتمنّاها لأحد.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard