يتعجب غالبية المصريين من صعوبة اللغة القبطية حينما يستمعون لقداس أو صلوات وترانيم مسيحية، خاصة مع نقل قداس عيد الميلاد المجيد على الهواء سنوياً.
لكن ما لا يعرفونه هو أنهم يستخدمون آلاف الكلمات القبطية في حديثهم اليومي، ويظنون أنها عربية، كقولهم "شنة ورنة" و"كاني وماني". وثمة مفردات غريبة أخرى يتداولونها، كـ"جعمز" و"فنخ" و"برش".
من أين جاءت تلك الكلمات؟ وما هي جذورها؟
تناولنا في موضوع سابق نشأة اللهجات العربية المختلفة وامتزاج ثقافات الشعوب الأصلية مع الثقافة العربية الإسلامية التي انتشرت في تلك الدول. ونطرح، في هذه العجالة، العلاقة بين المصرية العامية والقبطية، وهي تطور اللغة المصرية القديمة، أي الهيروغليفية، التي سادت مصر قبل أن يفتحها عمرو ابن العاص.
ليست مجرد مفردات
"علاقة العامية والقبطية ليست مجرد مفردات"، يقول الدكتور لؤي محمود سعيد، مدير برنامج الدراسات القبطية بمكتبة الاسكندرية لرصيف22. ويضيف: "الثقافة العربية الإسلامية التي دخلت مصر مع عمرو ابن العاص امتزجت بثقافة المصريين القبطية السائدة حينذاك، وشمل هذا الامتزاج الفن والعمارة والأدب". اللهجة العامية، برأيه، أبرز مظاهر هذا المزج بين الثقافتين. فهي مخلوق جديد نتاج تزاوج لغتين، يحمل خصائص كلا الأبوين. تشكلت البنية الأساسية لهذه اللهجة في القرنين العاشر والـ11 الميلاديين، وهو ما أثبتته مخطوطات كُتب نصفها بالعربية والنصف الآخر بالقبطية، وتعود لتلك الحقبة. وتبدلت اللهجة خلال القرون الماضية نتيجة التواصل مع الثقافات والحضارات الأخرى من خلال السفر والهجرات والاحتلال، ومن ثم السوشيل ميديا والإنترنت خلال العقد الأخير.أسباب البقاء
في امتزاج القبطية بالعامية، رمزية لا يمكن إنكارها. فهي، برأي سعيد، دليل على ترابط النسيج المصري واختلاط الوافد بالموروث، والعلاقة المطردة بينهما. وهي مزية لا توجد في جميع اللهجات. لم تستسلم اللغة القبطية للعربية الوافدة، كما حصل مع اليونانية التي انقسمت إلى لغة قديمة لا يفقه المعاصرون منها شيئاً، ولغة حديثة متداولة. ولم تتبدل العربية حينما دخل إليها الاستعمار، فتتلقف مفردات أجنبية، كما حصل في الجزائر وتونس.شنة ورنة، كاني وماني، كحك، البعبع، شبشب وغيرها من الكلمات القبطية، تعيش حتى اليوم في العامية المصرية
يتعجب المصريون من صعوبة اللغة القبطية، لكن ما لا يعرفونه هو أنهم يستخدمونها في حديثهم اليوميوقد حافظ المصري على الكثير من مفردات الفراعنة التي تنتشر في منطقة الريف والصعيد، حيث التمسك بالعادات والتقاليد الموروثة، لا سيما القبطية منها. أي أن المصري أجاد فن التحنيط في مختلف المجالات. يعلل ماجد الراهب، خبير التراث المصري، استمرار اللهجة القبطية لسهولة مفرداتها. فاللغة المستخدمة انتقائية وتنتشر بحسب توافقها مع ميول المجتمع وحالته النفسية والاقتصادية. لذا نلاحظ استخدامها مع الطفل الحديث الولادة مثل "مم، أمبو، تاتا، بعبع، ننه". وكذلك مع الحيوانات مثل "شي، حا، هس، جر، زر" ومع الطير مثل "هش".
تأثير القبطية في العامية
ليس أثر القبطية في العامية في مصر مجرد تبادل مصطلحات، أو كلمات دخلت القاموس العربي كما دخلت كلمة "تلفزيون"، إنما تأثرت بها من حيث نطق الحروف وبنية الجملة وتركيبها، بحسب سعيد. ويعدد سعيد بضعة أمثلة على ذلك، لافتاً إلى أن اسم الإشارة في العربية يسبق الاسم، فيقال بالعربية: هذا الرجل في حين تُقلب الأمور في اللهجة المصرية، فيقال: الرجل دا، ودا تعني هذا، كما أن المصري لا ينطق الحروف اللسانية مثل "ذ" و"س"، بفعل تأثير اللغة القبطية. ويؤكد الراهب على ذلك، مضيفاً أن المصريين غيّروا كثيراً من قواعد العربية نتيجة تأثرهم باللسان القبطي، فهم يقولون "محصلش" أي لم يحصل، وهنا يلي النفي الفعل ولا يسبقه كعادة العرب. كما أنهم لا يستخدمون الجملة الفعلية في حديثهم إطلاقاً فيقولون أنا حروّح أي سأذهب.لا يمكن حصرها
بينما يسعى بعض المهتمين بتاريخ اللغات إلى جمع وإحصاء ما تبقى من الكلمات القبطية أو وضع قاموس لها، يرى خبير الآثار حجاجي إبراهيم أن تحقيق هذه الفكرة مستحيل، مقللاً من قيمة محاولات بعض الدارسين والباحثين التي يعتبرها غير مكتملة. يتفق معه سعيد على هذه النقطة، يقول: "لا يمكن حصر العامية، وبالتالي لا يمكن حصر تصنيفات تندرج أسفلها، كالكلمات القبطية أو الهيروغليفية أو غيرها". إلا أنه لا ينكر وجود اجتهادات عديدة في هذا الشأن، منها ما ورد في أطروحة دكتوراه أعدها القس شنودة ماهر، باللغة الإنجليزية عام 1975 في جامعة أكسفورد بإنجلترا. وهي من 8 أجزاء تناولت تأثير اللغة القبطية في العامية المصرية في مجال القواعد والمصطلحات والمفردات، لكنها لم تنشر. يوافق ماجد الراهب، الباحث في التراث المصري، على صعوبة الحصر الكامل للمفردات القبطية في اللهجة المصرية المحكية، لكنه يثني على الكثير من محاولات الإحصاء الجادة، والتي استطاعت رصد 13 ألف مفردة قبطية محكية. وهناك من وجد أكثر من ذلك.أمثلة لن يصدقها المصريون
لعل أنطون ميلاد حنا، الباحث اللغوي المصري وأحد مؤلفي كتاب "اللغة المصرية الحديثة"، من ضمن السعاة وراء الكلمات القبطية التي لم تزل على قيد الحياة. ويعكف على إعداد قاموس لهذه الكلمات بصورتها الأصلية في النطق والمعنى، ذاكراً ما لحق بها من تطور في حال حصوله. وهو لا يرى اللغة المحكية اليوم عامية بالمعنى المتداول، بل هي مزيج من العربية والقبطية. ويؤكد أن الكثير من المصريين قد يُدهشون لدى معرفة أصل العديد من تلك الكلمات لانتشارها وسهولتها.من نماذج تلك الكلمات
آبا: تعادل أبي أو بابا. وَن: أسرع، لف ودار. ورور: طازج، صغير السن، جديد. بج: طعن، شق، من الأصل المصري القديم "بجا" بمعنى فتح، نشر، بعثر. بَح: أنتهى، تم. من الأصل المصري القديم "بح" والقبطي "به" بنفس المعاني. هَلّوُس: شبكة عنكبوت. من الأصل القبطي هلوس بنفس المعنى. لهله: بمعنى إزدهر. كحك، كعك: نوع من المخبوزات، أصلها كعك. كَحكَح: شاخ في العمر. فوطه: منشفة. من الأصل القبطي فوطه بنفس المعنى. غالبية أسماء المحافظات والقرى مثل أسوان وأصلها سوان بمعنى السوق في القبطية لأنها كانت سوق ببن العرب وأفريقيا. قنا: أصلها قيني بمعنى يحتضن لأن النيل كان يحتضن التربة الزراعية عندها. سيوط: أصبحت أسيوط وتعني الزراعة. مم: بمعنى يأكل أصلها موط. امبو: بمعنى اشرب وأصلها امنموا. كخة: معناها القذارة. جعمز: اقعد. شنة ورنة: شخص ذا ثقل وصيت. تيرابيزة: منضدة. تاتا: من مصطلح تاتا خطي العتبة، بمعنى امشي وفي القبطية تعني خطوة. البعبع: اسم عفريت مصري مستخدم في تخويف الأطفال أصله في القبطية بوبو. يامطرة رخي - رخي: تعبير عن الفرح بقدوم المطر، وتعني رخ قديماً نزل. مدمس: صفة معناها الفول المستوي في الفرن بواسطة دفنه أو طمره في التراب. البيصارة: أكلة مصرية من التراث، أصل التسمية بيصورو، ومعناها الفول المطبوخ. شبشب: هو الخف وأصلها القبطي سب سويب، ومعناه مقياس القدم. الدنيا بقت صهد: تعبير عن الحر وصهد كلمة قبطية تعنى النار. واح: والتي حرفت لواحة في العربية، معناها جزيرة العرب. نونو: وهو الوليد الصغير. طنش: معناها لم يستجب. بطط: بمعنى دهس. بطح: ضرب في الرأس. خم: يخدع. حبة: القليل من الشيء. ياما: الكثير من الشيء. كركر: أصدر صوتاً من كثرة الضحك. هوسة: صوت الغناء العالي، أي دوشة. إدي: يعطي أو يمنح. همهم: تكلم بصوت خافت. فنخ: فسد. كاني وماني: لبن وعسل. مرتي: زوجت من الأصل القبطي مرت. مدشوش: صفة للفول المطحون. القلة: إناء للشرب. فشخرة: تباهي. هجاس: فشار أو كثير الكذب. محلسة: أي تودد زائد. لبشة: حزمة. مشلفطة: صفة تعني غير متناسقة. باش: ابتل.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...