شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
خللٌ تقنيّ في زرّ تشغيل أمّي!

خللٌ تقنيّ في زرّ تشغيل أمّي!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والنساء

الجمعة 21 مارس 202512:36 م

أذكر أني سألت أحد زملائي في المدرسة الابتدائية: ماذا تعمل والدتك؟ أجابني يومها بكل استغراب: "كيف يعني شو بتشتغل أمّي؟ بتشتغل أمّي!". حيرتني وقتها هذه الإجابة. سألته عن عمل والده، فأجاب ببساطة: "بابا مهندس".

أمي كانت موظفةً، وجدّتي أيضاً، لذلك لم يكن لدي مجال للتفكير في الأمومة كمهنة بذاتها. هل ينحصر فهم الأمومة كمهنة في حالة الأمّهات ربّات البيوت فقط؟ أم حتى الأمهات العاملات تنتفي مهنهنّ أمام أمومتهنّ؟ 

زر تشغيل أمي 

كان المتطفّلون/ ات على حياتنا الشخصية، يرفقون دائماً اعتراضهم على سلوك أمّي بجملة: "لا تنسي إنّك أمّ". وكنت أتساءل عندها: ثم ماذا؟ ما علاقة كونها أمّاً بخروجها للسهر؟ بعلاقتها بأصدقائها؟ هم أنفسهم كانوا أصدقاءها قبل أن تصبح أمّاً، فما الذي تغيّر الآن؟

لطالما تخيلت أنّ للنساء زرّ تشغيل on & off، ينطفئ أتوماتيكياً حين تصبح إحداهنّ أمّاً. تتوقف حياتها السابقة بيولوجياً وإنسانياً وثقافياً واجتماعياً، لتصبح أمّاً. ولطالما اعتقدت أنّ هناك خللاً تقنياً في زرّ تشغيل أمّي، خاصةً حين أشاهد حسابات الأمّهات على فيسبوك، وقد ثبّتن صور أبنائهنّ وبناتهنّ كـ"profile picture"، يعبّرن من خلالها عن تمحور وجودهنّ نفسه حول أمومتهنّ.

منذ إنشائها حساباً على فيسبوك، تستمتع أمّي باستعراض صورها، وكأنّ العمر لا يقترب منها. لطالما اعتقدت أنّ الأمّ حين تضع صورة ابنها أو ابنتها، كصورة تعريفية لها، تتماهى ذاتها مع حالة أمومتها، فهي موجودة بهم/ نّ ولهم/ نّ، قبل وجودها بنفسها ولنفسها. في مقابل نكران الذات هذا، تصبح الأمّ كائناً طهرانياً عند أبنائها وبناتها، كلّي التضحية، وكلّي الاستحقاق، لا يخطئ، ولا يأتي بمفرده مطلقاً بل متبوعاً بأطفاله. 

طفلي صديقتي 

بعد ولادة طفلَي صديقتي، بدأ وقتنا الخاص أنا وهي، يتناقص على حساب وقتي مع طفلَيها. صرت أنسى أن أحدّثها. تناقصت جلساتنا الخاصة ثم تضاءلت كل الأحاديث التي لا تتمحور حول الطفلَين. دون وعي منّي تحولت صديقتي إلى أمّ. نسيت أنّها صديقة، وأنها امرأة، وأنها ناجحة في عملها. كل ما يهمّني الآن هو أنها أمّ لأجمل طفلَين في العالم. 

لم تتضايق منّي بشكل حقيقي، لكنها جعلتني ألاحظ تغيّر علاقتنا. حين أدركت خطئي وحظينا ببعض الوقت الخاص لنا، حدّثتني عن الأمومة كما لم أعرفها من قبل: الألم، الأرق، قلة النوم، الإرهاق، والقلق… كل ما لا تقوله الأمّهات عن الأمومة كي لا يوصمن بأنهنّ أمهات مقصرات أو غير مقدّرات لنعمة أمومتهنّ. 

بعد ولادة طفلَي صديقتي، بدأ وقتنا الخاص أنا وهي، يتناقص على حساب وقتي مع طفلَيها. صرت أنسى أن أحدّثها. تناقصت جلساتنا الخاصة ثم تضاءلت كل الأحاديث التي لا تتمحور حول الطفلَين. دون وعي منّي تحولت صديقتي إلى أمّ. نسيت أنّها صديقة، وأنها امرأة، وأنها ناجحة في عملها. كل ما يهمّني الآن هو أنها أمّ لأجمل طفلَين في العالم

الأمومة ليست حالةً طوباويةً. الأطفال متعِبون، والتربية مرهقة، والقلق والخوف الدائم عند مرضهم وإصاباتهم وخياراتنا في تربيتهم... مشاعر متخبطة بين الغضب والخوف والتعب يجب التعامل معها بوعي لأنّ التربية تتطلب صبراً خارجاً عن المألوف. باحت لي صديقتي بهذا السرّ الذي تعلمه جميع الأمهات، لكنهنّ يترددن كثيراً قبل البوح به. وفي نظر الكثيرين أصبحت أمومة صديقتي معطوبةً. 

متلازمة الأمومة والشعور بالذنب 

في كتابها "كيف تلتئم؟ عن الأمومة وأشباحها"، تقول الكاتبة إيمان مرسال: "مثالية الأمومة في المتن الثقافي العام، تسبب مزيداً من الشعور بالذنب عند هؤلاء الذين يشكّون في كنه هذه المثالية داخل خبرتهم الشخصية. إنها تقابل التعبير عن كل خبرة مختلفة بإدانة أخلاقية واجتماعية، ربما لهذا هناك ندرة في سرد خبرات الأمومة خارج المتن المتفق عليه". 

المثالية إذاً هي السمة الأولى التي تتّسم بها الأم في مجتمعاتنا، وتتمثل هذه المثالية في التضحية اللامتناهية المتوقعة منها. وحين تشعر هذه الأمّ في لحظة بأنها بشر، وأنها ذات مستقلّة، تنتابها مشاعر مختلفة عن أمومتها، كالغضب أو الرغبة في استراحة، أو الإرهاق من عملها في البيت وخارجه، أو حاجتها إلى تخصيص وقت لمهمات أو رغبات خارج نطاق الأمومة، أو الحنين إلى الاستقلالية. وحتى حين عجزها أمام مرض أولادها أو حاجاتهم، ينتابها شعور عارم بالذنب وكأنها تتجرّأ على أن تتمرد على الشخصية التي يجب أن تتلبسها. 

لطالما تخيلت أنّ للنساء زرّ تشغيل on & off، ينطفئ أتوماتيكياً حين تصبح إحداهنّ أمّاً. تتوقف حياتها السابقة بيولوجياً وإنسانياً وثقافياً واجتماعياً، لتصبح أماً.  

تقول مرسال: "لا يرتبط الشعور بالذنب بالتقصير فقط، ولا بتمزّق المرأة الحديثة بين العمل والأمومة، بل ينبثق أحياناً من نموذج مثالي للأمومة حيث لا نهاية لما يمكن أن تقدّمه الأمّ لطفلها من حب وحماية واستثمار في الوقت والتعليم... إلخ".

أمي يا ملاكي! 

مع اقتراب موسم عيد الأمّ، نتحضّر لسماع الباقة الإجبارية من أجمل أغاني هذه المناسبة: "ست الحبايب يا حبيبة"، "أمي يا ملاكي يا حبي الباقي إلى الأبد"... إلى آخره من أغاني تقديس الأمّ التي تستيقظ قبل الفجر لكي "تشقّر" على أولادها النائمين وتغطّيهم وتدعو لهم في صلاة الفجر.

لم تكن أمي تفعل ذلك، لم تستطع قوة إيقاظها من النوم، لا لتطمئن على نومي الهانئ ولا لتدعو لي أو لأحد في أثناء الصلاة. لم تنصت كثيراً إلى الأصوات التي تحيط بها بكل أنواع الملاحظات حول تربيتي وساعات نومي وملابسي وعدم تسريح شعري المجعّد كما ينبغي. ولم تفعل أيّ من أمهات أصدقائي من حولي ذلك، بل على العكس، أذكر جيداً كيف أنّ عمّي هو من كان يستيقظ ليلاً ليطمئنّ على نوم ابنه وابنته بينما تتابع زوجة عمّي نومها بكل طيب خاطر.

في إلصاقنا التضحية بأمّهاتنا، لا ننتبه إلى أننا بفعلنا ذلك فإننا، ودون أن ندري، نساهم في نفيها عن آبائنا. لماذا لم نفكر في مشاركة الأب في هذه التضحية؟ لماذا اختصرناها في الأمّ وتناسيناها لدى الأب؟ ثم ماذا عن أيتام الأمّ؟ هل فقدوا كل إحساس بالحب غير المشروط والتضحية والعطاء في حياتهم؟

تشرح عالمة التحليل النفسي وخبيرة سلوك الأطفال الفرنسية فرانسواز دولتو، ضرورة وجود الأب في العلاقات الأسرية، بأنّه أساسي لتحقيق الانفصال بين الأم والطفل، وتذكير دائم بانقطاع الحبل السرّي بينهما، كي تتمكن الأم بدورها من استيعاب هذا الانفصال ورؤيته بشكل واضح، ولكيلا يؤدّي ارتباطها بطفلها إلى تماهٍ تامّ بين ذاتيهما (الأم والطفل)، وتالياً إلى خلل في العلاقة والتربية.

في الرواية الدينية، تتجلّى قدسية الأمّ، في الأمّ المقدّسة مريم العذراء، أمّ المسيح التي أنجبته دون دنس. رسّخت هذه الرواية النظرة الطهرانية إلى الأمّ ككائن مترفع عن الشهوات لا تحدد كينونته سوى أمومته. 

لم تكن أمي تفعل ذلك، لم تستطع قوة إيقاظها من النوم، لا لتطمئن على نومي الهانئ ولا لتدعو لي أو لأحد في أثناء الصلاة. لم تنصت كثيراً إلى الأصوات التي تحيط بها بكل أنواع الملاحظات حول تربيتي وساعات نومي وملابسي وعدم تسريح شعري المجعّد كما ينبغي

وقد أكملت الرواية الشيعية هذه النظرة بتسمية عليّ بن أبي طالب، بـ"زوج البتول" كنايةً عن زوجته فاطمة ابنة الرسول محمد، التي وبرغم تأكدنا من أنها أمّ للحسن والحسين وزينب، إلا أنّ حتمية طهرانيتها تفترض أنها بالضرورة بتول، في إعادة للسردية المسيحية نفسها حول الأمّ المقدسة. 

أمي كسرت القاعدة 

هذه الطهرانية التي تم إسقاطها على جميع الأمهات، والتي تنتزع منهنّ بشريتهنّ بشكل فاقع، وبرغم أنّ هذا الإسقاط يبدو ساذجاً أمام الواقع، إلا أنه يدفعنا كثيراً للتفكير في رفضنا لتقبّل أنّ أمهاتنا في الحقيقة مارسن الجنس لكي نخرج نحن إلى الحياة. إذ إننا وبرغم يقيننا بأننا لم نعد في زمن المعجزات، إلا أننا نستعير السردية الشيعية في إنكار الواقع لكي نرفع الأمّهات إلى درجات الملائكة.

يساعدنا في ذلك الأدب والفن، خاصةً السينما والمسلسلات التلفزيونية التي تقدّم لنا الأمّ في دور واحد برغم اختلاف القصص، مضحيةً و"غلبانة" وطيبةً، لا تظهر شراستها إلا حين يقترب الخطر من أولادها. لا شيء يدعوها للغضب سوى أذيتهم. لا تشعر بالخيبة أو الحزن إلا في ما يخصّهم. لا وجود لها إلا في وجودهم. بينما يقابلها أولادها بالطاعة الكاملة، وكل من تسوّل له نفسه أن يخالف أمّه، أو أن يمضي في حياته في خيار لا يرضيها، يصنّف فوراً ابناً عاقّاً، مهما كان محقّاً في خياره.

وبكل أسف، تبدو الحركات النسوية حالياً قاصرةً عن التعبير عن الأمّهات، اللهم إلا في حالة الأمّ العزبة أو الأمّ المثلية. ويمكن القول إنّ هناك بعض التيارات التي تمجد اللاإنجابية إلى درجة إغفال وجود النساء الأمّهات، وقد تصل إلى التقليل من قيمة أدوارهنّ وحضورهنّ في المجال النسوي. 

الرواية الشيعية أكملت طهرانية الأم في الرواية المسيحية، بتسمية عليّ بن أبي طالب، بـ"زوج البتول" كنايةً عن فاطمة ابنة الرسول محمد، التي وبرغم تأكدنا من أنها أمّ للحسن والحسين وزينب. 

لهذا، قد تجد الأمّ نفسها وحيدةً حين تغافلها مشاعر إنسانية كالإحباط أو الغضب، وحيدةً حتى من مثيلاتها من النساء والأمهات. 

عموماً، ومع عيد الأمّ، هذه المناسبة التي أراها شديدة الجدلية، خاصةً في ظلّ عدم وجود عيد للأب في مجتمعاتنا، أنصح الجميع باستبدال هدايا عيد الأمّ من غسالات الأطباق والمكاوي والأفران السريعة، بشيء أكثر شخصيةً، برحلة لها مع أصدقائها، أو زجاجة عطر تحبّها، أو كتاب، أو هدية مرتبطة بذكرى لها في شبابها قبل أن تصبح أمّاً.

وإلى الحين الذي تصبح فيه الأمهات بشراً، وينزلن من رتبة الملائكة والقديسات، أعلن فخري بنفسي كوني أعدّ أمّي إنسانةً قبل أن تكون أمّاً، وأعلن فخري بأمّي التي لم تتعامل قط مع نفسها باعتبارها كائناً طهرانياً. والعقبى لكم/ نّ.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image