شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
القضاء السوري ما بعد إسقاط الأسد... ما الذي

القضاء السوري ما بعد إسقاط الأسد... ما الذي "يعيق" استعادته استقلاليته؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الاثنين 3 مارس 202504:50 م

لطالما كان القضاء السوري مرآةً تعكس واقع السلطة في البلاد، فقد شكّل لعقود طويلة أداةً بيد النظام، تخضع لتوجّهاته السياسية وتتأثّر بتدخّلاته المباشرة. قبل إسقاط نظام بشار الأسد، كانت المحاكم تعمل ضمن إطار يحدّده الحزب الحاكم، حيث ظلّ القضاء مسيّساً إلى حد كبير، ويفتقر إلى الاستقلالية الحقيقية. وعقب انهيار هذا النظام، وجد القضاء نفسه أمام مرحلة مفصليّة، يتأرجح فيها بين محاولات الاستمرار وفق الآليات القديمة، ومساعي إعادة تشكيله بما يتناسب مع واقع سياسي جديد لم تتضح ملامحه بشكلٍ كاملٍ بعد.

وبينما يحاول القضاء السوري استعادة دوره، وسط تحدّيات سياسية وإدارية وقانونية معقّدة، تتباين آراء القضاة والمحامين وحتّى المواطنين، حول واقع هذا القطاع الحيوي، ومستقبله. فهناك من يرى في التغييرات الجارية، خطوةً نحو استقلالية القضاء، بينما يحذّر آخرون من أنّ القضاء لا يزال مكبّلاً بقيود السلطة التنفيذية، وإن اختلفت كليّاً هذه السلطة عن سابقتها، عادّين أنّ الإصلاحات الحالية قد تكون شكليّةً.

في هذا التقرير، نستعرض واقع المحاكم السورية بين الأمس واليوم، ونناقش آراء المعنيين حول مستقبل "العدالة" في البلاد.

فساد ما قبل إسقاط النظام وما بعده

لفهم واقع القضاء والمحاكم في سوريا قبل إسقاط بشار الأسد، يشرح المحامي مصطفى كليب من دمشق، لرصيف22، تفاصيل دقيقةً عمّا كان يجري داخل أروقة المحاكم، قائلاً إنّ المؤسسة القضائية في سوريا كانت غارقةً في الفساد إلى حدٍّ كبير، إلى درجة أنّ العمل بنزاهة أو من دون رشاوى كان أمراً نادراً، وربما مستحيلاً. يقول المحامي السوري، إنّ الذي كان يرفض الرضوخ لهذه الممارسات، كان يُنظر إليه من قِبَل بعض الموكّلين على أنه "محامٍ لا يعرف كيف يعمل"، في إشارة إلى أنّ النجاح في المحاكم كان مرهوناً بأساليب أخرى غير الكفاءة القانونية.

الفساد والرشوة والتدخلات السياسية والبيروقراطية وقلة الكفاءات كانت جميعها من مشكلات النظام القضائي في سوريا الأسد، كيف أصبح واقع هذا القطاع الحيوي الآن؟ وما هو المأمول له مستقبلاً؟

لكن المشكلة لم تكن مقتصرةً على الرشوة فحسب، إذ يشير كليب، إلى أنّ بعض القضاة، وإن لم يكونوا فاسدين بشكل مباشر، كانوا يتعاملون مع القضايا بـ"مزاجية بحتة". فمجرد عدم إعجاب القاضي بمحامٍ معيّن، قد يكون كفيلاً بتأخير القضية و/ أو منع صاحبها من الوصول إلى حقّه لوقت طويل.

وبرغم هذا الواقع، إلا أنّ "كليب"، لا يُنكر وجود قضاة نزيهين يتمتّعون بالكفاءة والاستقامة، وهم "ليسوا قلّة".

القضاء الجزائي… "المفتاح" لمن يدفع أكثر

لكن الفساد كان أشدّ وضوحاً في القضاء الجزائي المختص بالجرائم، مثل المخالفات والجنح والجنايات. كان النفوذ المالي والعلاقات يلعبان الدور الحاسم، إلى درجة أنّ مصطلح "المفتاح" كان شائعاً داخل المحاكم، حيث يُعرّف بعض الأشخاص بأنهم "مفتاح القاضي فلان"، أي أنهم قادرون على التأثير في قراراته لقاء المال أو الخدمات، بحسب كليب.

نتيجةً لذلك، تحوّلت المحاكم في معظمها إلى ما يشبه "الدكاكين"، تُباع فيها حقوق الناس وتُشترى، وأصبح العدل متاحاً لمن يستطيع دفع الثمن، بينما كان المواطن العادي يجد نفسه عاجزاً أمام هذه المنظومة، وفق المحامي السوري.

البيروقراطية أيضاً

ومن ناحية آليات التقاضي، لم يكن الفساد المشكلة الوحيدة، إذ كانت البيروقراطية تسم عمل المحاكم كما في العديد من الدوائر الرسمية الأخرى في سوريا الأسد، ما جعل الإجراءات القانونية تستغرق وقتاً أطول مما يجب. ومع ذلك، يشير كليب، إلى أنّ هناك نوعاً من التنظيم في العمل، ولو شكلياً، حيث كانت المحاكم تسير وفق أنظمة محدّدة، خاصةً في القضايا التي كانت تستند إلى مضبوطات المخابرات والأفرع الأمنية، مثل فرع الخطيب. يقول كليب، إنّ القضاة كانوا يتعاملون مع الاتهامات الأمنية في هذه التقارير وكأنها "حقيقة مطلقة"، دون الأخذ بعين الاعتبار إمكانية انتزاع الاعترافات تحت التعذيب، وهو أمر كان شائعاً في تلك الفترة، ما أدّى إلى ظلم الكثيرين دون أن يكون هناك سبيل إلى الطعن في هذه الأدلّة.

"إذاعات البحث" والاعترافات القسرية

من بين المشكلات البارزة الأخرى التي كانت تُمارَس في القطاع القضائي، يشير كليب، إلى قضية "إذاعات البحث"، وهو إجراء كانت الأفرع الأمنية، خاصةً أفرع المخدّرات، تستخدمه لخلق دائرة لا تنتهي من الاعترافات القسرية.

ويشرح أنّ كل مُحتجز في أفرع مكافحة المخدرات، على سبيل المثال، كان يُجبَر على الاعتراف على خمسة أشخاص آخرين بتهمة التعاطي أو الاتّجار، بغض النظر عما إذا كان يعرفهم أو لا. وتحت وطأة التعذيب، كان البعض يذكر أسماءً عشوائيةً، ليجد هؤلاء الأشخاص أنفسهم بدورهم معتقلين، ومجبرين على الاعتراف على آخرين، وهكذا تستمر السلسلة.

وبرغم وجود تعميم صادر عن وزير الداخلية في النظام السابق يقضي بضرورة التحقق من صحة هذه الاعترافات قبل إصدار مذكرات البحث، إلا أنّ هذا التعميم لم يُطبّق على أرض الواقع.

إلى ذلك، لم يكن الفساد حكراً على القضاء الجزائي، فقد امتدّ أيضاً إلى القضاء المدني وحتّى المحاكم الشرعية. يشير كليب، إلى أنّ الفساد في هذه المحاكم كان أقلّ وضوحاً، لكنه كان موجوداً. ويدلّل على ذلك بعزل قضاة شرعيين مؤخراً، بسبب حالات فساد ومخالفات جسيمة.

الضغوط السياسية على القضاء

التدخّلات السياسية والضغوط التي تُمارس على بعض القضاة كانت عاملاً مؤثّراً بقوّة أيضاً. يوضّح كليب، أنّ هذه الضغوط كانت تأتي أحياناً من وزير العدل نفسه، أو حتّى من جهات أمنية مختلفة.

القضاء في سوريا يمرّ بحالة خطيرة من التعطيل، نتيجة الخلل الذي أصاب أجهزة الدولة والأوضاع المعيشية المتردّية للمواطنين.

وفي كثير من الأحيان، لم تكن قرارات نقل القضاة تتم بناءً على ضرورات العمل، بل كانت تُستخدم كوسيلة لمعاقبة القضاة الذين لم يلتزموا بتوجيهات معيّنة أو رفضوا تنفيذ أوامر غير قانونية. هذه التنقلات المتكررة أثّرت سلباً على استقرار المحاكم، وجعلت من عملية التقاضي عمليةً غير مستقرّة ومليئة بالمفاجآت، وفق كليب.

بعد إسقاط النظام… اضطراب فعودة تدريجية

بعد انهيار نظام الأسد، تعطّل المرفق القضائي لفترة، وتوقّفت العديد من المديريات عن العمل، قبل أن تعود الإجراءات تدريجياً إلى صيرورتها المعتادة بمرور الوقت. يذكر كليب، أنّ إحدى أبرز المشكلات التي واجهها القضاء بعد "تحرير سوريا"، هي غياب أقسام الشرطة، التي تتضمن مسؤولياتها تنظيم المضبوطات وتبليغ المذكرات الصادرة عن المحاكم.

كما توقّفت بعض المديريات الحكومية عن العمل، مثل مديريات المالية، ومديريات النقل، ومديريات المصالح العقارية، ما أثّر على إمكانية تسجيل بعض الدعاوى التي تحتاج إلى بيانات رسمية من هذه الجهات. لكن هذه المؤسسات بدأت تستعيد نشاطها شيئاً فشيئاً، ما سمح بعودة التقاضي إلى مساره الطبيعي.

لكن استئناف القطاع القضائي مهامه، كان محفوفاً بالكثير من المخاوف، وأحياناً التساؤلات حول واقع هذا القطاع المهم ومستقبله، ولا سيّما في ظلّ المشكلات الراسخة التي ورثها من عقود حكم النظام الساقط، فضلاً عن ظهور إشكاليات جديدة عدة متّصلة بعمل القضاء، مثل استحداث مناصب جديدة كرئيس العدلية، دون أن تكون هناك رؤية واضحة حول طبيعة مهامه واختصاصاته.

بالإضافة إلى ذلك، يشير كليب، إلى مشكلة تتعلّق بالجرائم التي يرتكبها أكثر من شخص، حيث يتم القبض على أحدهم، بينما يبقى الآخرون فارّين، ولم تعد هناك آلية فعّالة لملاحقتهم أو إدراجهم على لوائح البحث الجنائي، ما زاد من صعوبة التعامل مع هذه القضايا.

كما أنّ هناك نقصاً في الخبرة لدى بعض المسؤولين الجدد، ولا سيّما في شأن إجراءات التبليغ. وكذا غياب الخبرة الفنية في التعامل مع بعض الجرائم، مثل قضايا تزوير العملات والمخدرات، حيث يتم القبض على شخص بحيازته عملات مزوّرة أو مخدرات، دون أن يكون هناك تقرير فني يحدّد طبيعة هذه المواد كأدلة إدانة.

القضاء تحت الوصاية السياسية

بدوره، يسلّط المحامي السوري رامي جلبوط، في حديثه إلى رصيف22، الضوء على شكل المنظومة القضائية اليوم في ظل التغيّرات السياسية والإدارية التي تشهدها البلاد، موضحاً أنّه بالرغم من بعض محاولات إعادة هيكلة القضاء، إلا أنّ التحدّيات القانونية والمؤسساتية لا تزال تعرقل استقلالية القضاء السوري، بما ينعكس بشكل مباشر على حياة المواطنين ومعاملاتهم اليومية.

يضيف جلبوط، أنّ القضاء في سوريا يمرّ بحالة خطيرة من التعطيل، نتيجة الخلل الذي أصاب أجهزة الدولة والأوضاع المعيشية المتردّية للمواطنين، شارحاً أنّ القضاء، الذي يُفترض أن يكون سلطةً مستقلّةً، يُدار حالياً بإشراف مباشر من وزارة العدل، وتحت وصاية كاملة من الإدارة السياسية الجديدة. ويستدرك قائلاً إنه برغم أنّ القرارات القضائية بدأت تأخذ طابعاً أكثر انتظاماً بعد فترة من التخبّط، إلا أنّ الوصاية السياسية لا تزال قائمةً، ما يجعل استقلال القضاء أمراً بعيد المنال ما لم يتم اعتماد دستور جديد أو إصدار نصوص واضحة وصريحة تضمن استقلاليته في الإعلان الدستوري المنتظر.

وعن العوامل الإضافية التي تعرقل عمل القضاء، يلفت جلبوط، إلى أنّ أبرزها توقّف معظم أعمال السجل العقاري والسجلات المشابهة، ما أدّى إلى "شلل شبه كامل" في سوق العقارات، وهو قطاع يشكّل دعامةً أساسيةً للاقتصاد السوري، على حدّ قوله. بالإضافة إلى ذلك، تعاني أجهزة الضبطية القضائية، مثل الأمن الجنائي والشرطة "الانحلال"، ما أثّر على عمليات التبليغ وتنظيم المضبوطات الخاصة بالجرائم والوقائع الحيوية.

وفي حين أنّ المحاكم السورية لا تزال تعمل وتتلقى الدعاوى من الناحية النظرية، إلا أنّ الواقع العملي يكشف عن معوقات عديدة، مثل عدم القدرة على تسجيل إشارات الدعوى أو تبليغ مذكرات الدعوة، فضلاً عن تعطيل دوائر النقل، بما يمنع المواطنين من إتمام عمليات نقل الملكية سواء للعقارات أو المركبات. كما أنّ تدخّل وزارة العدل في قرارات القضاة، حدّ من قدرتهم على الفصل في الدعاوى باستقلالية، بحسب جلبوط.

كذلك، يحذّر جلبوط، من أنّ هذا التعطيل القضائي دفع مواطنين إلى اللجوء إلى ما يصفه بـ"مغامرات قانونية خطيرة"، لحفظ حقوقهم، حيث أصبحت عمليات البيع والشراء تتم بعقود غير موثّقة، ما يتوقّع أن ترافقه زيادة في حالات التزوير والاحتيال التي تهدّد بضياع الحقوق في ظل غياب الضمانات القانونية اللازمة.

يحذّر القاضي رمضان، من "الاستعجال" في إجراء الانتخابات قبل تأمين البنية التحتية والاقتصادية والاجتماعية اللازمة، مشيراً إلى أنّ تنظيم انتخابات في ظلّ أزمات معيشية حادّة قد يؤدي إلى نتائج عكسية. ويؤكد أنّ العملية الانتقالية تتطلّب عملاً متدرجاً يضمن استقرار البلاد، ويتيح لجميع مكونات المجتمع المشاركة الفاعلة في صياغة مستقبل سوريا

نقابة المحامين بين إعادة الهيكلة والوصاية السياسية

في إطار المنظومة القضائية، يشير جلبوط، إلى أنّ نقابة المحامين، التي يوضح أنها منظمة شعبية تخصّصية وليست دائرةً حكوميةً، فرضت عليها الإدارة السياسية للبلاد، مجلساً جديداً بعد حلّ المجلس المنتخب سابقاً، والذي كان خاضعاً لهيمنة حزب البعث.

وبرغم تجاوز المحامين بعض الأخطاء التي ظهرت في عمل المجلس الجديد، تفاجأ الجميع مؤخراً بقرارات جديدة صدرت عن مجلس النقابة، تقضي بحلّ مجالس الفروع المنتخبة وتعيين مجالس جديدة، دون توضيح معايير الاختيار أو الأسس التي استند إليها هذا القرار. ويرى جلبوط، أنّ هذه الخطوة أثارت انقساماً في صفوف المحامين، بين مؤيّد لفرض الوصاية السياسية حتّى على النقابة، وبين متمسك باستقلاليتها وفقاً لنصوص القانون، بما يتيح تجاوز إرث السيطرة البعثية على العمل النقابي.

استمرار عمل المحاكم برغم التحديات

فضلاً عمّا سبق، يرى جلبوط، أنّ القضاء لا يزال يعاني من التعطيل والوصاية السياسية. لكن يختلف معه القاضي محمد طارق رمضان، وهو قاضٍ في النيابة العامة في محكمة دمشق، حيث يؤكد لرصيف22، أنّ المحاكم استعادت نشاطها بشكل كبير بعد "التحرير"، وأنّ القضاء مستمر في أداء دوره برغم التحديات.

في حديثه، يسلّط القاضي رمضان، الضوء على عودة العمل القضائي، والتدابير المتخذة لضمان سير العدالة، وكيفية التعامل مع المرحلة الانتقالية، عادّاً أنّ الفراغ التشريعي لا يعني بالضرورة حالةً من الفوضى، بل هو جزء من عملية إعادة بناء المؤسسات وفق نهج مدروس.

يتحدث رمضان، عن قضايا عدة، ويؤكد لرصيف22، أنّ المحاكم السورية لم تتوقّف عن العمل إلا لفترات قصيرة في بداية الأحداث، لكنها اليوم استعادت نحو 80% من نشاطها، مع عودة 90% من العمل القضائي إلى ما كان عليه قبل إسقاط النظام السابق. ويشدّد على أنّ القضاء مستمر برغم التحديات، حيث يحرص القضاة على حماية المحاكم من أي تخريب أو تعطيل لضمان استمرارية العدالة. كما يشير إلى أنّ المحاكم اليوم فعّالة، وتستقبل القضايا المتعلّقة بتسجيل عقود الزواج، وتثبيت الملكيات، وحلّ النزاعات، ما يضمن استمرار الحياة القانونية وفق القوانين النافذة، إلى حين تعديلها بما يتناسب مع المرحلة الجديدة.

حاجة إلى إصلاحات تشريعية ومخاوف من الفراغ الدستوري

لكن برغم هذا التقدّم، يرى رمضان، أنّ القضاء لا يزال بحاجة إلى إصلاحات تشريعية لمواكبة الواقع الجديد، خاصةً في ما يتعلق بالقوانين المالية والتشريعات الخاصة بالتعاملات الاقتصادية، التي فُرضت خلال المرحلة السابقة، وجرى تعليق بعضها مؤقتاً. ويوضح أنّ هذه الإصلاحات ضرورية لضمان مرونة القضاء واستقلاليته في ظلّ المتغيرات السياسية والاقتصادية.

أما في ما يخصّ مسألة "الفراغ الدستوري"، الذي يتخوّف منه البعض، فيرفض القاضي رمضان، الربط بينه وبين الفوضى الأمنية، مؤكداً أنّ الدولة لم تنهَر، وهناك رئيس جمهورية يعمل وحكومة كذلك الأمر، وما ينقصها فقط هو مجلس تشريعي دائم. ويضيف أنّ تشكيل مجلس تشريعي مؤقت، يمثّل خطوّةً نحو سدّ هذا النقص إلى حين وضع دستور جديد وإجراء انتخابات، ما يضمن انتقالاً سياسياً منظّماً دون خلق حالة من الفوضى.

وبشأن الانتقال السياسي، يحذّر رمضان، من "الاستعجال" في إجراء الانتخابات قبل تأمين البنية التحتية والاقتصادية والاجتماعية اللازمة، مشيراً إلى أنّ تنظيم انتخابات في ظلّ أزمات معيشية حادّة قد يؤدي إلى نتائج عكسية. ويؤكد أنّ العملية الانتقالية تتطلّب عملاً متدرجاً يضمن استقرار البلاد، ويتيح لجميع مكونات المجتمع المشاركة الفاعلة في صياغة مستقبل سوريا، ما يفسر إعلان الرئيس عن تشكيل مجلس تشريعي مؤقت كخطوة ضرورية قبل الوصول إلى دستور دائم وانتخابات مستقرّة.

وفي ظلّ الجدل الدائر حول وضع القضاء واستقلاليته، وبين تأكيد القاضي طارق رمضان على استعادة المحاكم نشاطها، وتحذير المحامي رامي جلبوط من استمرار الوصاية السياسية على المؤسسة القضائية، تبرز قضية أخرى لا تقلّ أهميةً عن أداء القضاء نفسه، وهي قرارات عزل القضاة والتغييرات التي طالت نقابة المحامين. هذه التحوّلات أثارت ردود فعل واسعةً في الأوساط القانونية، حيث ترى المحامية لمى الجمل، في تصريح لرصيف22، أنّ هذه الإجراءات، برغم أنها قد تحمل بُعداً إصلاحياً، إلا أنّها تطرح تساؤلات جدّيةً حول تأثيرها على سير العدالة واستقلال المؤسسات القضائية والمهنية.

يقف القضاء في سوريا اليوم، عند مفترق طرق، حيث تسعى الجهات المعنية إلى إعادة تنظيمه فيما يواجه تحدّيات كبيرةً. في الأثناء، يبقى السؤال الملحّ: هل تسفر هذه التطورات عن إصلاح حقيقي؟ أو يعاد تشكيل القضاء كأداة بيد السلطة الجديدة؟

وتقسّم الجمل، واقع المحاكم السورية الراهن إلى:

  • أولاً القضاء قيد التغيير، وتأثير قرارات استبعاد القضاة على سير المحاكم. وفي هذا الشأن ترى الجمل، أنّ قرارات عزل عدد من القضاة الذين كانوا مرتبطين بحزب البعث ومجلس الشعب، تشكّل سابقةً في المشهد القانوني السوري، حيث إنها المرة الأولى التي يتم فيها اتخاذ مثل هذه الإجراءات مباشرةً من وزارة العدل، دون أن يصدر لها مرسوم رئاسي كما كان الحال في السابق. وتوضح الجمل، أنّ هذه القرارات قد تكون لها تداعيات مهمة على النظام القضائي، من أبرزها: الفراغ القانوني الناتج عن استبعاد عدد كبير من القضاة دفعةً واحدةً، وتالياً نقص الكوادر المؤهَّلة، ما يتسبّب في تأخير البت بالقضايا وتراكمها، خاصةً مع غياب خطة واضحة لتعويض هذا النقص. وأيضاً التأثير على استقلالية القضاء، لأنه إذا كانت هذه القرارات نابعةً من دوافع سياسيّة أكثر من كونها إصلاحات قانونيةً، فقد تؤدّي إلى تعزيز تدخّل السلطة التنفيذية في القضاء، وهو ما يتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات.

  • ثانياً، الضغط على نقابة المحامين وما قد يسفر عنه من احتجاجات ومخاوف قانونية. وهنا تشير الجمل إلى أنّ قرار مجلس النقابة، حلّ مجالس الفروع في المحافظات، أثار اعتراضات واسعةً في الأوساط القانونية، خاصّةً أنه جاء بتكليف مباشر من الإدارة السياسيّة للمجلس المركزي، وليس وفقاً للنظام الداخلي للنقابة. وتوضح أنّ هذا القرار يطرح إشكاليات قانونيةً عدة، منها: التدخّل السياسي المباشر حيث يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها محاولة من السلطة التنفيذية للسيطرة على النقابة، وهو ما يتعارض مع مبدأ استقلالية المنظمات المهنية، والطعن في المشروعية حيث يفتقر القرار إلى أساس قانوني واضح، إذ لم يستند إلى نصوص قانون تنظيم المهنة، ما يجعله عرضةً للطعن القانوني من قبل المتضررين.

التغييرات لا تؤثّر على المحامين والقضاة فحسب، بل تمتد إلى المواطنين وثقتهم بالنظام القضائي عموماً.

واقع القضاء وثقة المواطنين

إلى ذلك، تشدّد الجمل، على أن هذه التغييرات لا تؤثّر على المحامين والقضاة فحسب، بل تمتد إلى المواطنين وثقتهم بالنظام القضائي عموماً. فمن جهة، قد يؤدّي نقص القضاة إلى تأخير القضايا وتفاوت الأحكام بسبب تعيين قضاة جدد دون خبرة كافية، ومن جهة أخرى، فإنّ التدخّلات السياسية المتزايدة قد تدفع المواطنين إلى العزوف عن اللجوء إلى القضاء، خوفاً من غياب النزاهة والعدالة في الأحكام.

وترى الجمل، أنّ هذه التحولات، وإن كان بعضها ضرورياً لضمان أن يصبح النظام القضائي مواكباً لواقع سوريا اليوم، إلا أنّها تفتقر إلى آليات واضحة تضمن عدم استخدامها لأغراض سياسية، ما قد يهدّد استقلالية القضاء والنقابات المهنية على المدى البعيد.

ختاماً، يقف القضاء في سوريا اليوم، عند مفترق طرق، حيث تسعى الجهات المعنية إلى إعادة تنظيمه فيما يواجه تحدّيات كبيرةً.

في الأثناء، يبقى السؤال الملحّ: هل تسفر هذه التطورات عن إصلاح حقيقي؟ أو يعاد تشكيل القضاء كأداة بيد السلطة الجديدة؟ هذا ما ستكشفه الفترة المقبلة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image