شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
حرب إسرائيل الديمغرافية بلا هدنة… أيّ مستقبل لسكّان غزّة؟

حرب إسرائيل الديمغرافية بلا هدنة… أيّ مستقبل لسكّان غزّة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

على أطلال ركام منزله المدمّر في مدينة خان يونس، جنوبي قطاع غزّة، يضرب خالد أبو سمرة، كفّاً بكفّ، بعدما أتت حرب الإبادة الإسرائيليّة على كلّ ما يملك، ويقول لرصيف22: "لقد نفدت قدرتي على احتمال المزيد من الهموم".

يستذكر خالد، مشروعه الذي افتتحه قبل الحرب: محل لبيع المجمّدات حوّله الاجتياح البرّيّ للمدينة إلى حطام. "إزاء هذه الحال، لا أجد بدّاً من اتخاذ قرار الخروج من غزّة، بعدما رفضته سابقاً. أفكّر في تأسيس حياتي خارج القطاع أسوةً بأخي الذي هاجر إلى أوروبا مطلع عام 2015"، يضيف خالد، الذي ينتظر أيّ خبر يلوح في الأفق عن قرب فتح معبر رفح.

لكن في مدينة رفح، لا يزال خليل قشطة، متمسكّاً بقناعاته في رفض قرار الهجرة، عادّاً إيّاه "مجرّد هروب من الواقع"، كما يقول لرصيف22. "ستبقى غزّة، مهما بلغ فيها حجم الدمار، أرحم على أبنائها من غيرها".

الميزان الديمغرافي مع إسرائيل، قبل بدء الحرب على غزّة، كان متساوياً، وبدأ يميل لصالح الفلسطينيين. وكانت ثمّة توقّعات بأن يتجاوز عدد الفلسطينيين عدد اليهود في السّنوات التي ستلي عام 2023

ويردف خليل: "لن نكرّر سيناريو النكبة. ولن تأتي وعود ترامب المسمومة بالهجرة إلّا بالتّمسك بالأرض. فتجربة التهجير قاسية وضريبة الغربة ضخمة".

وعلى الرغم من الرفض الشعبي والرسمي لدعوات التهجير، إلا أنّ واقع الحال في القطاع المحاصر بعد حرب الإبادة، قد يدفع بعض الفلسطينيين إلى الخلاص الفرديّ من آثار المقتلة، في مقابل من يصرّون على خوض معركة البقاء.

ولعلّ تهجير الفلسطينيّين عموماً، وسكّان قطاع غزّة خصوصاً، لم يكن قطّ طفرةً عابرة. إذ حاولت إسرائيل -منذ إنشائها وحتّى إعلانها قبل أيّام عن إنشاء إدارة في وزارة الأمن لتهجير الغزيّين- هندسة هذه الرؤية، عبر خلق ظروفها وتسهيلها، في حرب مستدامة تراها إسرائيل "حرباً ديمغرافيّةً" مع الفلسطينيين، الذين فزعت من حقيقة أن يكونوا الأكثريّة في "فلسطين التاريخيّة".

"ويعود تاريخ المشاريع التهجيرية للفلسطينيين من قطاع غزّة، إلى فترة ظهور المشروع الصهيوني، عبر دراسات ونقاشات في الدوائر السياسية والأكاديمية الإسرائيلية والغربية. بإمكاننا تتبّع تواصلها وامتدادها عبر الزّمن، واختلافها في الأساليب فقط"، يقول الدكتور سامي الأسطل، أستاذ التاريخ السياسي ونائب عميد كلية الآداب في جامعة الأقصى، لرصيف22.

وقد استطاعت إسرائيل في حربها الأخيرة، أن تفتح شهيّة قادتها إلى دعوات إخلاء القطاع من سكانه، وتطبيق عقيدة الإحلال، التي تقوم على تفريغ الأرض الفلسطينيّة من أُصلانها، تمهيداً لفرض السيطرة الكاملة أو الاستيطان. ثمّ وجدت هذه الدعوات خطّة ترامب، الذي عدّ غزّة مشروعاً عقاريّاً، كمحاولة لتطهيرها عرقيّاً، وإيجاد موطن بديل لسكّانها الذين "لن يعرفوا كيف يستأنفون حياتهم فوق الدّمار"، كما يقول الرئيس الأمريكيّ.

فهل تنجح إسرائيل، التي تسبّبت حربها في تقليص عدد سكّان غزّة بنسبة 6%، وحصارها، في هجرة أعداد كبيرة منهم ضمن خطّة جماعيّة، أو في ضمان هجرتهم الطوعيّة من المكان المدمّر، كي تكسب حربها "الديمغرافيّة" في المدى المنظور؟ وكيف تؤثّر هذه الحرب على مستقبل غزّة وإعمارها؟

ممَّ تخوّفت إسرائيل قبل السّابع من أكتوبر؟

يقول محمد دريدي؛ مدير الإحصاءات السكانية والاجتماعية في الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، إنّ "الميزان الديمغرافي مع إسرائيل، قبل بدء الحرب على غزّة، كان متساوياً، وبدأ يميل لصالح الفلسطينيين. وكانت ثمّة توقّعات بأن يتجاوز عدد الفلسطينيين عدد اليهود في السّنوات التي ستلي عام 2023".

ويتابع في حديثه إلى رصيف22: "لكن تركة الحرب غيّرت في المعادلة الديموغرافيّة، ليصبح هناك تقارب في نسب السكان، ولا سيّما مع فقدان 160 ألف فلسطيني بين شهيد ومفقود في قطاع غزّة".

وكان الجهاز المركزي قد بيّن أنّ عدد الفلسطينيّين في فلسطين التاريخيّة، مع نهاية عام 2023، بلغ نحو 7.3 ملايين نسمة. في حين قدّرت دائرة الإحصاء المركزيّة في إسرائيل، أنّ عدد اليهود بلغ مع نهاية العام نفسه نحو 7.2 مليون، "ما يعني أنّ الفلسطينيين يشكّلون 50.3% من السكان المقيمين في فلسطين التاريخيّة، فيما يشكّل اليهود ما نسبته 49.7% من مجموع السكان".

نقدّر أنّ 70% من الشّهداء دون سنّ الثلاثين، وذلك يتماهى مع حقيقة أنّ مجتمع غزّة هو مجتمع فتيّ. وهذا يعني أنّ الفئة العمريّة التي يُعوّل عليها أن تُنجب خلال السّنوات القادمة حتى تُحافظ على الهرم السكاني الطبيعي، قد حدثت فيها فجوة ستظهر في المستقبل المنظور

أمّا في نهاية عام 2024، فقد بلغ عدد سكان دولة فلسطين، 5.5 ملايين فلسطيني (3.4 ملايين في الضفّة الغربيّة، و2.1 مليون في غزّة)، وانخفض عدد سكّان القطاع المقدّر للعام 2024، بنحو 160 ألف فلسطيني، ليبلغ 2.1 مليون.

ما يعني أنّنا إذا أضفنا عدد الفلسطينيّين في الدّاخل، والمقدّر عددهم بنحو 2.104، بحسب تقرير دائرة الإحصاء المركزيّة في إسرائيل نهاية عام 2024، وإذا افترضنا أنّ حرب الإبادة على القطاع لم تحصل، فقد يصل تعداد الفلسطينيّين في فلسطين التّاريخيّة إلى 7.764 شخصاً.

مقابل هذا العدد الذي افترضنا أنّ الإبادة لم تحصل بحقّه، قدّرت إسرائيل في نهاية عام 2024، أيضاً، عدد اليهود (والآخرين) فيها بنحو 7.707 ملايين نسمة، ما يعني أنّ الفلسطينيّين، دون الحرب، كانوا سيشكّلون نسبةً أعلى من اليهود.

ومن اللّافت أنّ دائرة الإحصاء المركزيّة الإسرائيليّة، غيّرت من صيغة التقسيم السكّاني في تقريرها الثاني الذي نشرته نهاية عام 2024، فلم تُشِر إلى تعداد ونسبة اليهود وحدهم، كما فعلت عام 2023، بل أضافت إليهم كلمة و"آخرين" في إشارة إلى غير العرب والأجانب، ليقفز تعدادهم من 7.2 مليون نهاية عام 2023، إلى 7.707 ملايين (يهوديّ وغير يهوديّ)، نهاية عام 2024.

ومن الجدير ذكره، أنّ مجلّة "لانسيت"، أشارت إلى أنّ الصّراعات الأخيرة في العالم، تراوحت فيها أعداد الوفيّات غير المباشرة بين ثلاثة إلى خمسة عشر ضعفاً من أعداد الوفيّات المباشرة، ما يعني أنّه حين بلغ عدد الضحايا في القطاع 37,396 ضحيةً، قبل وقف إطلاق النّار بأكثر من نصف سنة، قدّرت المجلّة أنّ تكون قد وصلت حالات الوفاة إلى 186 ألفاً. وربّما ستُحدث هذه الحسابات فروقات أكبر في الميزان الديمغرافيّ بين اليهود والفلسطينيّين.

الواقع السكاني الحالي والمستقبلي في غزّة

ويلقي دريدي، الضّوء على التغيّير الذي تسبّبت فيه الإبادة على التعداد والتركيبة السّكانيّة في قطاع غزّة، فيقول: "نقدّر أنّ 70% من الشّهداء دون سنّ الثلاثين، وذلك يتماهى مع حقيقة أنّ مجتمع غزّة هو مجتمع فتيّ. وهذا يعني أنّ الفئة العمريّة التي يُعوّل عليها أن تُنجب خلال السّنوات القادمة حتى تُحافظ على الهرم السكاني الطبيعي، قد حدثت فيها فجوة ستظهر في المستقبل المنظور".

ويتوقّع الباحث في شؤون السكان، أنّ معدل الإنجاب في القطاع سينخفض، من 4% قبل الإبادة، إلى 2.5% حتّى عام 2040، موضحاً أنّ هذا التقدير يستند إلى أنّ معدّل الإنجاب ينخفض خلال الحروب بنسبة تتراوح ما بين 30 و50%.

ويتوقّع دريدي، أن ينخفض أيضاً معدّل الخصوبة بمقدار النّصف، أو بنسبة 40% في الأقلّ. "وهذا يشكّل خطورةً كبيرةً، لأنّ نسبةً كهذه ستؤثّر على السّكان في قطاع غزّة في المستقبل".

وفي حين قُدّر عدد المواليد، بحسب دريدي، لعام 2024، بـ60 ألف نسمة، إلّا أنّه تقلّص إلى 35 ألفاً فقط. "هذا يقلّل من عدد السّكان من الفئات العمريّة الصّغيرة، نتيجة العزوف عن الإنجاب أو الزّواج خلال الحرب"، يضيف.

"خلال عامين من المستقبل المنظور، من المتوقّع أن يظهر بوضوح حجم الفجوة في هذه الفئة العمريّة الممتدّة من عمر يوم وحتّى أربع سنوات، إذ من المقدّر أن تنقص بنسبة 10%. في حين ستنقص جميع الفئات العمريّة بنسبة 2.5%"، يقول دريدي. ويؤكد على ارتفاع معدل وفيات الأطفال الرُضّع ضعفين أو ثلاثة أضعاف في قطاع غزّة خلال الحرب. ففي حين كان المعدّل قبل الحرب، 13 طفلاً من بين كلّ ألف طفل، وصل خلالها إلى 50 طفلاً من بين كلّ ألف طفل، نتيجة شحّ الرعاية الطبيّة وتدهور القطاع الصحيّ.

وبحسب تقديرات الجهاز المركزيّ للإحصاء الفلسطينيّ، فإنّ العدد الكلّي للسكّان انخفض بنسبة 6%، ففي حين كان مقدّراً أن يصل تعدادهم في عام 2025، إلى 2.4 ملايين نسمة، لا يتجاوز اليوم 2 مليون و150 ألف نسمة.

التقديرات تشير إلى أنّ 110 آلاف فلسطينيّ، أي ما معدّله 5% من سكّان غزّة تقريباً، خرجوا منها قبل إغلاق معبر رفح خلال الحرب. وهذا يُضاف إلى الخسارة السّكانيّة الحاصلة بسبب الحرب

ويشير عصمت منصور، الخبير في الشأن الإسرائيلي، إلى أنّ الميزان الديموغرافي ليس لصالح الفلسطينيين مطلقاً، فأعداد الضحايا والجرحى والمفقودين خلال الحرب أثّرت في هذا الميزان، وقد تُؤثّر فيه الظروف الطاردة للحياة في القطاع، والهجرة العكسيّة التي دُفع إليها من عاد من الجنوب إلى الشّمال ولم يجد ملامح حياة.

"لا تتوقّف القضيّة عند الأرقام ومعدّلات الخصوبة. تثبيت النّاس يحتاج إلى خطط وجهود مركّزة ورؤية وطنية شاملة"، يقول منصور.

هل يفكّر أهل غزّة في الهجرة؟

"لقد أجبرت سياسة استهداف المدنيّين خلال الحرب، بعض الغزيّين على النزوح خارج القطاع. وعلى الرّغم من عدم وجود إحصائيّات رسمية بأعداد هؤلاء وتركيبتهم النوعيّة، إلا أنّ التقديرات تشير إلى أنّهم من النّخب في مجالاتهم الوظيفيّة وأصحاب رؤوس الأموال"، يقول جمال حمدان، الباحث في الشّأن الفلسطيني وقضايا الديموغرافيا، لرصيف22.

"ربّما يرجع بعضهم إلى القطاع، لكنّ نسبةً منهم بدأت بتأسيس حياة خارجه، خاصةً مع انسداد أفق الحياة في القطاع المحاصر"، يضيف.

ويوضح دريدي، أنّ التقديرات تشير إلى أنّ 110 آلاف فلسطينيّ، أي ما معدّله 5% من سكّان غزّة تقريباً، خرجوا منها قبل إغلاق معبر رفح خلال الحرب. وهذا يُضاف إلى الخسارة السّكانيّة الحاصلة بسبب الحرب.

وبالإضافة إلى تأثير النّزوح خلال فترة الحرب على نسبة السّكان، يبيّن دريدي، مخاطر النزوح المستقبليّ المتوقع والاختياريّ، الذي قد ينشأ عن المماطلة في إعادة الإعمار واستمرار المعاناة الإنسانيّة وتردّي المنظومة الصحيّة.

ويشير إلى أنّ الجهاز المركزيّ بصدد إجراء مسح شامل، أو "تعداد سكنيّ مُصغّر"، للسّكان في القطاع، بغية تقريب المشهد والصورة على التغييرات السكانية التي أحدثتها الحرب، لكن ذلك مرهون باستمرار الاستقرار وتوفّر الظروف المواتية.

الطالبة الجامعيّة آلاء حرارة، تنظر بتشاؤم إلى الواقع في غزّة. "الحرب أعدمت كلّ فرص الحياة والبقاء. مستقبل غزّة سيكون مظلماً في حال استمرّت الحياة بهذه الطريقة بعد وقف إطلاق النّار"، تقول لرصيف22، موضحةً أنّها لم تفكّر سابقاً في المغادرة، لكنّها عازمة على إيجاد أيّ فرصة للعمل في الخارج، وتنتظر قرار فتح المعبر، للخروج مع أسرتها.

ولا يُمكن تجاهل حقيقة أنّ الهجرة بدأت قبل حرب الإبادة. فسنوات الحصار الطويلة دفعت بعدد كبير من الشّبان إلى البحث عن حيوات جديدة خارج القطاع.

هاجر هشام أحمد، إلى بلجيكا قبل عامين من الحرب: "انعدام فرص الحياة في القطاع وسوء الوضع الاقتصاديّ، لا يعنيان أنّني أتخلّى عن أرضي. ما زلت أرغب في العودة إذا عادت الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الحصار"، يقول لرصيف22.

ويردف: "إن معظم الشباب الفلسطينيّ هنا في أوروبا، لم يرغب في ترك وطنه وذويه. لكنّ انعدام فرص العمل وتدنّي نسبة الأجور، دفعتنا لركوب البحر والمخاطرة بحياتنا، أملاً في العثور على فرص جديدة".

أمّا محمد سكيك، الذي يقيم في تركيا منذ 5 سنوات، فيقول إنّه تنبّأ بواقع الحال المتردّي في غزّة نتيجة استمرار الانقسام والحصار. "هذه الحال لا تمهّد لوجود مستقبل مشرق"، يؤكد في حديثه إلى رصيف22.

"التخلّص" من سكان غزّة في العقليّة الإسرائيليّة

يبيّن منصور، أنّه "لا يجب أن نغفل للحظة أنّ الجملة الأولى التي قالها نتنياهو لأهل غزّة في السّاعات الأولى للحرب، هي 'اخرجوا'، وأنّ ثمّة وثيقةً أعدّتها الاستخبارات الإسرائيليّة، اختفت حاليّاً من التداول، كانت تتحدّث عن إخلاء القطاع. هذا ما كان موجوداً في العقل الباطن والخطط الإستراتيجيّة العلنيّة؛ إخلاء غزّة وتهجير سكّانها، بعدّها حلّاً جذريّاً بالنسبة لإسرائيل. والآن جاءت خطّة ترامب لتعطي صبغةً دوليةً وأمريكيةً لهذا المخطّط".

ويتابع منصور، في حديثه إلى رصيف22: "هذه ليست المحاولة الأولى، ففي خمسينيّات القرن الماضي وسبعينياته وثمانينيّاته، جرّبت إسرائيل مخطّطات أخذت منحى عمليّاً وبحثت عن دول لاستقبال أهل غزّة وخلق ظروف حياة معدومة في مكانهم".

من جانبه، يذكر جمال حمدان، أنّ "فكرة التخلص من غزّة وسكانها كانت تراود العقليّة الإسرائيليّة، بدءاً من رئيس الوزراء الإسرائيليّ ليڤي أشكول، ووزير أمنه موشيه ديّان عام 1967، مروراً بإسحق رابين، وشارون الذي كان يحلم بأن يبتلع البحر غزّة وسكانها".

ويلفت حمدان، إلى أنّ "ما طُرح على طاولة النقاش خلال الحرب، كخطّة الجنرالات التي قدّمها غيورا آيلاند؛ القائمة على إخلاء شمال القطاع، ليس بجديد. إذ سبقه طرح قدّمه لواء احتياط في الجيش الإسرائيليّ قبل عقدين، حينما ترأس مجلس الأمن القوميّ، وعرض مشروعه المسموم: "البدائل الإقليمية لفكرة دولتين لشعبين".

عدّ بن غوريون؛ أوّل رئيس وزراء لإسرائيل، التهجير عملاً لا يُنافي الأخلاق. وكتب عام 1938: لا يمكننا ضمان مستقبل الدولة اليهوديّة دون تغيير التوازن الديموغرافيّ

ويتابع حمدان قائلاً: "تجدّد هذا المشروع عام 2007، عبر تصوّر مبنيّ على مقايضة أراضٍ في سيناء بأخرى في صحراء النّقب، من أجل إنشاء دولة فلسطينيّة. لكنّ المشروع لم يلقَ قبولاً، سواء على المستوى المحلي أو الدولي، إذ أثارت الخطّة تساؤلات حول عدالة المبادلة، ومخاطر فقدان مصر لسيادتها على أراضٍ إستراتيجية".

وإلى جانب الأهداف المُعلنة للإبادة الجماعيّة، يشدّد حمدان، على أنّ توجّهات الحرب الديموغرافيّة كانت حاضرةً في ميدان المعركة وتخطيط قادتها الإسرائيليين.

التّهجير جوهر الصهيونيّة

"لم يغرّد الرئيس الأمريكيّ خارج السّرب حين طرح خطّة تهجير سكّان القطاع بلا عودة. كما لم تبدأ خطط تهجير الفلسطينيين بالإبادة الجماعيّة والتطهير العرقيّ ولغة الموت في توجيه السّكان نحو الجنوب، ومن ثمّ إلى مصر. ولا عجب أيضاً أنّ نتنياهو، دعا إلى إنشاء دولة فلسطينيّة في السعودية"، يقول الدكتور سامي الأسطل.

ويضيف: "عام 1923، كتب زئيف جابوتينسكي؛ القياديّ في الحركة الصهيونيّة، مقالة 'الجدار الحديديّ'، التي تنادي بضرورة استخدام القوّة لفرض وجود اليهود. كما أنّ أوّل مشروع بريطانيّ ملكيّ للتهجير كان في عام 1937، وذلك ضمن خطة لجنة بيل الملكيّة لتقسيم فلسطين إلى دولتين، ونقل 200 ألف فلسطينيّ من المناطق المخصّصة لليهود".

يوضح الأسطل، أنّ النّقاش الذي دار في آب/ أغسطس من عام 1973، خلال المؤتمر العالمي لـ"إيهود بوعالي تسيون"؛ المنبر السياسيّ الأرفع للحركة الصهيونيّة العالمية، أجمع على مسألة التهجير الجماعيّ للسكان العرب في فلسطين، مشيراً إلى أنّ القناعة لدى المؤتمرين كانت حينها جليّةًً في ضرورة تهجير الفلسطينيين حتى لو تمّ بالعنف.

لكنّ مكمن الخطورة، كما يقول الأسطل، كان بين سطور المؤرّخ الإسرائيليّ بني موريس، في كتابه "طرد الفلسطينيين وولادة مشكلة اللاجئين"، الذي أكّد فيه أنّ الحل الأكثر "منطقيّةً" أمام الحركة الصهيونيّة لمواجهة المشكلة الديموغرافيّة، يتمثل في النقل أو التهجير، أي خلق دولة يهوديّة متجانسة أو على الأقل فيها أكثرية ساحقة من اليهود، من خلال نقل أو تهجير كلّ أو معظم العرب إلى خارج حدود هذه الدولة.

ويتابع: "عدّ بن غوريون؛ أوّل رئيس وزراء لإسرائيل، التهجير عملاً لا يُنافي الأخلاق. وكتب عام 1938: لا يمكننا ضمان مستقبل الدولة اليهوديّة دون تغيير التوازن الديموغرافيّ".

وبعد الإعلان عن قيام دولة إسرائيل عام 1948، بقيت أقليّة فلسطينيّة داخل إسرائيل، تُمثّل 9% من سكّان الدولة، لكنّ نسبتهم ارتفعت اليوم، بحسب الأسطل، إلى 20%. وقد حاولت إسرائيل تهجيرهم من خلال المذابح والحكم العسكريّ، فغادر جزء قليل منهم.

يتوقّع حمدان، أن يحمل المستقبل تغييرات خطيرةً، أبرزها انخفاض عدد السّكان وحدوث تغييرات في التوزيع العمريّ، لأنّ الهجرة التوقّعة ستشمل غالباً شريحة الشّباب والكفاءات، ما سيؤدي إلى شيخوخة تدريجيّة ستظهر بوضوح في المجتمع الغزيّ

"وبعد عام 1976، تمّ دمج الفلسطينيين داخل إسرائيل في العديد من مجالات الحياة، فأصبحوا يشكلون نسبةً كبيرةً من العاملين في القطاعين الصحي والأكاديمي، ما أدّى إلى تحوّل إسرائيل، بالنسبة للبعض، إلى دولة 'ذات طابع متعدّد القوميّات'، وهو ما عدّه البعض انحرافاً عن "الحلم الصهيونيّ الأصليّ"، يؤكد الأسطل.

ويشير إلى أنّه بعد نكسة عام 1967، جرت عمليّات تهجير تحت ضغط الحكم العسكريّ، فقد قام موشيه ديان، آنذاك، بوضع سياسة تهجير تقضي بحصول كلّ مواطن من غزة يوافق على الهجرة إلى أمريكا الجنوبية، على مساعدة ماليّة قدرها 500 جنيه إسترليني، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت. وعليه، هاجر في عام 1968، وحده، 32،300 فلسطيني من سكان غزّة (أي نحو 8.5% من إجمالي سكّان القطاع)، و15،800 فلسطينيّ من الضفّة الغربية إلى الخارج.

ويختم الأسطل حديثه قائلاً: "برغم كلّ محاولات التهجير، بدءاً من خلق ظروف حياة قاسية، حتّى الإبادة الجماعيّة، إلّا أنّ المشكلة الديمغرافيّة لا تزال قائمةً بالنسبة لإسرائيل، في ظلّ تزايد عدد السّكان الفلسطينيين داخلها، وفي قطاع غزّة والضفّة".

كيف سينهض القطاع بسكّانه؟

يرى حمدان، أنّ حرمان الغزيّين من حقوقهم الإنسانية ومنع دخول المساعدات ومستلزمات الإغاثة التي تم الاتفاق عليها في اتفاق وقف إطلاق النار، مقدمة لجعل واقع غزّة أكثر سوءاً، ما يمهّد الطّريق لخطط اليمين الصهيونيّ لتهجير من تبقّى من سكان القطاع، مشيراً إلى ما تردّد عن إنشاء مكتب لتشجيع هجرة الفلسطينييّن تابع لإمرة الجيش.

من جانبه، يتّفق صلاح عبد العاطي؛ رئيس الهيئة الدوليّة لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (حشد)، مع هذه النقطة، قائلاً: "سيؤثّر استمرار إغلاق المعابر على من يرغب في العودة من سكّان القطاع. وعليه، قد نفقد جملة الكفاءات المطلوبة، خاصةً أنّ عودتهم مرهونة باستقرار الأوضاع واستدامة وقف إطلاق النار".

ويضيف في حديثه إلى رصيف22: "هناك تأثير عميق وتداعيات كارثيّة لسنوات الحصار وأشهر الحرب على الواقع الغزّيّ. فقد خسر القطاع ما يُقدّر بـ19 مليار دولار نتيجة الحصار، و80 مليار دولار نتيجة الحرب، وقد أدّت هذه الخسائر إلى هجرة النخب ورؤوس الأموال إلى الخارج".

ويرى عبد العاطي، أنّ تدمير نحو 88% من البنى التحتية والمنشآت المدنيّة في القطاع، سيترك آثاراً صعبةً ستمتد لسنوات في القطاعات الصحيّة والاقتصاديّة والتعليميّة. كما أنّ نهوض هذه القطاعات يحتاج إلى هدنة طويلة الأمد وتعزيز الاستجابة الإنسانيّة ودعم التعافي المبكر والإيواء المؤقّت للنازحين.

"لقد خسرنا الكثير من الكفاءات والنخب خلال الحرب، من مهندسين وأطبّاء وعاملين في القطاعات الاقتصاديّة الحيويّة، الأمر الذي يتطلب الإسراع في التوافق الوطني الفلسطيني وتعزيز صمود المواطنين وضمان أن يقوم المجتمع والمنظمات الدوليّة بواجباتهم لمنع حدوث التهجير المخالف لكلّ القوانين الدوليّة"، يؤكد عبد العاطي.

مخاطر فقدان الرأسمال البشريّ

يتوقّع حمدان، أن يحمل المستقبل تغييرات خطيرةً، أبرزها انخفاض عدد السّكان وحدوث تغييرات في التوزيع العمريّ، لأنّ الهجرة التوقّعة ستشمل غالباً شريحة الشّباب والكفاءات، ما سيؤدي إلى شيخوخة تدريجيّة ستظهر بوضوح في المجتمع الغزيّ. "فئة الشباب هي الأقدر على الإنجاب، وهجرتهم تعني انخفاض عدد الولادات على المدى الطويل"، يقول مؤكّداً.

أمّا عن التأثيرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة للهجرة، فيتوقّع حمدان، أنّ فقدان فئة المتعلمين والأكاديمييّن والمهنييّن والخبراء وأصحاب المهارات العالية، سيهدّد بفقدان رأس المال البشريّ الضروري لإعادة البناء مستقبلاً. كما أنّ الشركات المحليّة، بحسب حمدان، ستواجه صعوبةً في توفير موظفين مؤهلين، ما سيضعف سوق العمل وبيئة الابتكار وريادة الأعمال، ويؤدّي إلى تباطؤ التعافي الاقتصادي.

ويظلّ الشّرط الأوّل لبناء المكان وإعماره وإنمائه، هو الإنسان. ويظلّ الشّرط الأوّل لبناء الإنسان الفلسطينيّ والحفاظ عليه، هو المكان؛ أنْ يُفَكّ عنه الحصار ويتخطّى آثار الإبادة ويُعطى الفرصة ليكون مكاناً طبيعيّاً يتّسع لحيوات أبنائه الطبيعيّة.

كما يحذّر حمدان، من أنّ استمرار الحصار منذ 17 عاماً، وإحكامه بعد الحرب، سيدفعان باتجاه مزيد من معدّلات الفقر والجريمة والتفكك الأسريّ الناتج عن الضغط النفسيّ والمعيشيّ. وهذا سيجعل من هجرة الشباب والعائلات حلّاً للبقاء، وهو ما يُترجَم، إسرائيليّاً، إلى "السياسة غير المباشرة بتفريغ غزّة من سكّانها".

"ربّما نقول، في المستقبل المنظور، إنّ غزّة ستواجه نقصاً في الكفاءات الحيويّة لإعادة الإعمار. لكنّ المدى البعيد، قد يحمل إعادة تشكيل للنّسيج الاجتماعيّ والاقتصاديّ بطرائق غير متوقعة"، يؤكد حمدان.

وبرغم ذلك كله، يشير حمدان، إلى سيناريو إيجابيّ قد ينجم عن ظروف الهجرة إلى الخارج، وهو تزايد أعداد الفلسطينيّين في دول أوروبا والشتات، الذين استطاعوا خلق "لوبي" داعم للقضيّة ومُصحّح لكثير من المعتقدات عنها في الغرب، فضلاً عن جلب الدعم الاقتصادي والتحويلات المالية للأسر داخل غزّة.

إنماء غزّة… الصورة القاتمة

يحذّر حمدان، من أنّ تعطيل إسرائيل لإعادة إحياء البنى التحتيّة، كمحطّات تحلية المياه ومحطّة توليد الكهرباء الوحيدة في القطاع، ومحطّات معالجة مياه الصّرف الصحي وإنشاء الطرق، سيجعل أيّ جهود تنمويّة مرهونةً بإعادة تأهيل هذه الأساسيّات.

"أعتقد أنّ إسرائيل ستعمل جاهدةً على استمرار انهيار قطاعات الإنتاج الصناعيّ والزراعيّ والتجاريّ بغية إعدام فرص التعافي. وعليه، ستكون عمليّة الإعمار بطيئةً ومكلفةً"، يضيف مؤكّداً.

وبرغم ظهور بعض الجهود في إحياء العمليّة التعليميّة، سواء من خلال التوجّه نحو التعليم الإلكتروني أو إنشاء الخيام التعليمية، إلا أنّ المعطيات على الأرض تشير إلى تضرر 1،661 منشأةً تعليميّةً، واستشهاد نحو 800 من الكادر التعليميّ، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي. و"ذلك سيؤدي إلى غياب بيئة تعليميّة مستقرة، وتالياً إلى تراجع جودة التعليم وعدم الاهتمام بالبحث العلميّ المطلوب لإيجاد حلول للأزمات المتفاقمة في القطاع"، يقول حمدان.

إزاء هذه التحدّيات التي ستجعل مستقبل غزّة غامضاً ومحفوفاً بالمخاطر، تشير علا النبيه، من مبادرة "أنقذوا غزّة"، إلى أنّ الأولويّة لضرورة إعلان إنهاء الحرب وإدخال مستلزمات إزالة الرّكام والبدء بإعادة الإعمار، بما يشمل إعادة بناء مؤسّسات التعليم والصّحة، لاستعادة الحدّ الأدنى من مقومات الحياة الطبيعية.

"أيّ إدارة ستحكم القطاع، سيكون على عاتقها دعم المشاريع الصّغيرة ووقف نزيف العقول وهجرتها إلى الخارج"، تضيف في حديثها إلى رصيف22.

وتختم: "لا يمكن للجهود المحليّة وحدها أن تنتشل غزّة من واقعها، ولا بدّ من تضافر الجهود الدوليّة والعربيّة، والاستفادة من تجارب التعافي، كتجربة رواندا واليابان وألمانيا وغيرها".

ويظلّ الشّرط الأوّل لبناء المكان وإعماره وإنمائه، هو الإنسان. ويظلّ الشّرط الأوّل لبناء الإنسان الفلسطينيّ والحفاظ عليه، هو المكان؛ أنْ يُفَكّ عنه الحصار ويتخطّى آثار الإبادة ويُعطى الفرصة ليكون مكاناً طبيعيّاً يتّسع لحيوات أبنائه الطبيعيّة.

هذا التقرير أُنتج بدعم من منظمة Civil Rights Defenders.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image