لا أظن أن لدى صناع مسلسل "معاوية" وعياً، أو فضل معرفة، بنساء قاتلن بالسيف وبالكلمة، في صفوف الإمام عليّ. كان معاوية بن أبي سفيان طرفاً في تلك التراجيديا. ولا أنتظر شيئاً ذا قيمة من صناع هذا المسلسل، وخصوصا الكاتب المستجد على الدراما التاريخية وعلى كتابة المسلسلات عموماً. ربما يكون الأنسب ألا نأخذ بجدية أي شيء لا يصمد للتقييم التاريخي أو الفني. هناك من يمتهن عملاً ما بعد الظهر، لزوم أكل العيش أو التسلية في أوقات الفراغ. والبعض قد يتذكر، بعد سن الستين، أن "البرستيج" ينقصه اكتساب لقب روائي أو سيناريست.
في المسلسلات التاريخية تحديداً تنكشف عورة المصريين. غياب المقارنة قد يمرّر البضاعة الزائفة، من المرور لا المرارة. في شهر رمضان، عام 2005، عرض مسلسلان عنوان كليهما "الظاهر بيبرس"، أحدهما سوري ثري، بالعربية الفصحى، للمخرج محمد عزيزية والمؤلف غسان زكريا. الثاني فقير، للمخرج إبراهيم الشوادي والمؤلف طه شلبي. هذا الآخر الفقير، كان بالعامية المصرية السوقية، حتى إن بيبرس، المولود في قيرغيزستان، بلد لا يتكلم العربية، يخاطب صاحبه الصبي، بأمثلة شعبية: "يا محمود، صدق المثل اللي قال: ابن الوزّ عوام". كبر محمود وحمل اسم قطز، ويخاطبه عبد الرحمن أبو زهرة باستخفاف: "يا سي قطز!". عند ذكر اسم بيبرس تستدعي الذاكرة المسلسل السوري وحده.
في 11 كانون الثاني/يناير 2022 كتبتُ، في موقع رصيف22، مقالاً عنوانه "حاتم علي مؤرخ التراجيديا"، عن جانب من حصاد مخرج كبير أفتقدُ حضوره وخياراته الإبداعية، كلما راجعت طرفاً من سيرة الأندلس وغيرها. وتظل "التغريبة الفلسطينية" و"الزير سالم" و"عمر" وثلاثية الأندلس" ("صقر قريش"، "ربيع قرطبة"، "ملوك الطوائف") علامات تُحرج صناع المسلسلات التاريخية، وتُدينهم أيضاً. كان حاتم علي محظوظاً بمبدعين كبار أمثال وليد سيف وممدوح عدوان. تراث حاتم علي الدرامي ذو طابع إنساني، أتمنى ترجمته إلى لغات أخرى وعرضه في المنصات. هذه الأعمال، في الكسل البحثي، يهملها الدرس النقدي والأكاديمي.
نساء حول الإمام
كل امرأة انحازت إلى الإمام عليّ ظلت وفية له، لا تسيء إليه بكلمة بعد موته، حتى في حضرة الملك معاوية. تناثرت القصص في كتب التاريخ، وفي كتاب "العقد الفريد" أفرد ابن عبد ربه الأندلسي فصلاً للوافدات على معاوية؛ منهن الزرقاء بنت عدي الهمدانية التي لم تعد، بعد استقرار الملك، مصدر خطر على معاوية. لكنه سأل رفاقه المشورةَ في أمرها، فأشار البعض بقتلها. استنكر أن يقتل امرأة ظفر بها، وأرسل إلى عامله بالكوفة أن يوفدها إليه. سألها معاوية: ألستِ الراكبة الجملَ الأحمر الواقفة بين الصفين في يوم كذا وكذا تحضّين على القتال؟ قالت: بلى. قال معاوية: فما حملك على ذلك؟ قالت: مات الرأس، وبقي الذنَب، ولن يعود ما ذهب. قال: أتحفظين كلامك يوم صفين؟ قالت: لا. قال معاوية: لكني والله أحفظه. أعاده عليها، وقال: والله إن وفاءَكم لعليّ بعد موته أعجب من محبتكم له في حياته، وقد جئنا بك وجشمناك السفرَ البعيد. اذكري حاجتك. فقالت الزرقاء: هيهات! إني لا أسأل رجلاً عتب عليّ شيئاً أبداً.
كل امرأة انحازت إلى الإمام عليّ ظلت وفية له، لا تسيء إليه بكلمة بعد موته، حتى في حضرة الملك معاوية. تناثرت القصص في كتب التاريخ، وفي كتاب "العقد الفريد" أفرد ابن عبد ربه الأندلسي فصلاً للوافدات على معاوية. منهن الزرقاء بنت عدي الهمدانية
كما كانت عكرشة بنت الأطرش بن رواحة تتقدم الرجالَ في صفين. ثم دخلت على معاوية تتوكأ على عكاز. سلمت عليه بالخلافة. فقال: الآن يا عكرشة صرت عندك أمير المؤمنين؟! ألست المتقلدة حمائلَ السيف بصفين، وأنت واقفة بين الصفين تقولين: أيها الناس! عليكم أنفسكم، لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم... إن معاوية دلف إليكم بعجم العرب غلف القلوب، لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة، دعاهم بالدنيا فأجابوه، واستدعاهم إلى الباطل فلبوه، فالله الله عباد الله في دين الله! وإياكم والتواكل... هذه بدر الصغرى والعقبة الأخرى، يا معشر المهاجرين والأنصار! امضوا على بصيرتكم، واصبروا على عزيمتكم... كدتِ لتقتلين أهل الشام لولا قدر الله، وكان أمر الله قدراً مقدوراً. فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكم". وإن اللبيب إذا كره أمراً لا يحب إعادته.
هناك من قاتلن بالسيف والشِّعر. في صفين كانت سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية تحثّ أخاها على قتال معاوية:
شمّر كفعل أبيك يا ابن عمارة/يوم الطّعانِ وملتقى الأقرانِ
وانصرْ عليّاً والحسين ورهطه/واقصد لهندٍ وابنها بِهَوانِ
إن الإمام أخو النبي محمد/علَمُ الهدى ومنارة الإيمانِ
فقُدِ الجيوش وسِرْ أمام لوائه/قدماً بأبيضَ صارمٍ وسنانِ
ذكّرها معاوية بهذه الأبيات لائماً، فقالت: "مات الرأس وبتر الذنَب". واشتكت عامله بُسر بن أبي أرطأة الذي "قدم بلادي، وقتل رجالي، وأخذ مالي، ولولا الطاعة لكان فينا عزٌّ ومنعة، فإما عزلته فشكرناك، وإلا لا ما عرفناك". قال معاوية: "إياي تهددين بقومك!". فأنشدت:
صلّى الإله على روحٍ تضمّنه/قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحقّ لا يبغي به بدلا/فصار بالحقّ والإيمانِ مقرونا
سألها: من هذا؟ قالت: عليّ بن أبي طالب رحمه الله تعالى، وما أرى عليك منه أثراً. والله لقد جئته في رجل كان قد ولاه صدقاتنا فجار علينا، فصادفته قائماً يصلي، فلما رآني انفتل من صلاته، ثم أقبل علي برحمة ورفقٍ ورأفةٍ وتعطف، وقال: ألك حاجة؟ قلت: نعم، فأخبرته الخبر، فبكى، ثم قال: اللهم أنت الشاهد عليّ وعليهم، وأني لم آمرهم بظلمِ خلقِك، ولا بتركِ حقّك.
لا أنتظر انتباه صناع مسلسل "معاوية" إلى دراما المجاهدات مع الإمام علي. في الأعمال الإبداعية الحقيقية يُحاسب صناعها على ما قدموا، وليس على ما تركوا أو أغفلوا. المبدعون وحدهم يحاسبون على الإبداع الجدير بالنقد، أما غيرهم فالصمت عنهم عقوبة
من الوافدات أيضاً بكارة الهلالية. دخلت على معاوية وهو في المدينة، وعنده عمرو بن العاص ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص. حين عرفها عمرو قال: هي والله القائلة يا أمير المؤمنين:
يا زيد دونك فاستشر من دارنا/سيفاً حساماً في الترابِ دفينا
قد كنتُ أذخره ليومِ كريهةٍ/ فاليوم أبرزه الزمان مصونا
انتهى عمرو بن العاص، فأتبع مروان بن الحكم: وهي والله القائلة يا أمير المؤمنين:
أترى ابن هندٍ للخلافة مالكا/هيهات ذاك -وإن أراد- بعيدُ
منّتْـك نفسك في الخلاء ضلالةً/ أغراك عمرو للشقا وسعيد
فانطلق سعيد بن العاص، وكانت تسخر منه ومن قومه. فقال: وهي القائلة يا أمير المؤمنين:
قد كنت أطمع أن أموت ولا أرى/فوق المنابرِ من أمية خاطبا
فالله أخَّر مدّتي فتطاولت/حتى رأيت من الزمان عجائبا
في كل يوم للزمان خطيبهم/بين الجموع لآل أحمد عائبا
سكتوا. فقالت بكارة: يا معاوية، نبحتني كلابك بعد أن عشي بصرِي وقصرت محجتي. أنا والله القائلة ما قالوا، وما خفي عليك مني أكثر. فضحك وقال: ليس يمنعنا ذلك من برّك، اذكري حاجتك. قالت: الآن فلا. وخرجت غاضبة.
ندماء الملك شحذوا الذاكرة، لإثارة غضب معاوية على المرأة. وسوف تكتمل الدراما بانقطاع نسل معاوية، ويؤول الحكم إلى العجوز مروان بن الحكم، وبعده إلى ابنه عبد الملك، التقيّ الملقب بحمامة المسجد، قبل أن ينقلب إلى سفاح. في كتاب "الأخبار الطوال" يسجل أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري رفض عمرو بن سعيد بن العاص مبايعةَ عبد الملك؛ فاتفقا على اقتسام "المُلك"، وأن تكون الخلافة لعمرو بعد عبد الملك. وثّقا الاتفاق مكتوباً، وأشهدا عليه أشراف أهل الشام. ثم غدر عبد الملك بعمرو "فأُخِذ، فأُضجِع، وذُبِح ذبحاً، ولُفّ في بساط. وأحس أصحاب عمرو بذلك، وهم بالباب، فتنادوا، فأخذ عبد الملك خمسمائة صرّة، قد هُيّـئتْ، وجُعل في كل صرّة ألفا درهم، فأمر بها، فأُصعِدت إلى أعلى القصر، فأُلقيت إلى أصحاب عمرو بن سعيد مع رأس عمرو، فترك أصحابه الرأس مُلقى، وأخذوا المال، وتفرقوا. فلما أصبح عبد الملك أخذ من أصحاب عمرو ومواليه خمسين رجلاً، فضرب أعناقهم، وهرب الباقون، فلحقوا بعبد الله بن الزبير".
قلت في البداية إنني لا أنتظر انتباه صناع مسلسل "معاوية" إلى دراما المجاهدات مع الإمام علي. في الأعمال الإبداعية الحقيقية يُحاسب صناعها على ما قدموا، وليس على ما تركوا أو أغفلوا. المبدعون وحدهم يحاسبون على الإبداع الجدير بالنقد، أما غيرهم فالصمت عنهم عقوبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جعفر أحمد الكردي -
منذ 12 ساعةجهلك سافر يا هذا ، لو سألت أباك الذي تدعي أنه من أهل الدين والتدين لقال لك بأن شيخك المزعوم كان...
مستخدم مجهول -
منذ 14 ساعةعلى رغم الحزن الي كلنا عمنعيشوا و الي انت كتبت عنه هون بس كثير حلو الي حكيته و اي نحن السوريين...
Souma AZZAM -
منذ 3 أيامالدروز ليسوا نموذجًا واحدًا في الاعتقاد والسلوك. اما في مستوى العقيدة، فهم لا يؤمنون بالسحر، وإن...
محمد دراجي -
منذ 5 أيامأخي الفاضل قبل نشر مقالة عليك بالتحقق خاصة في علم الأنساب والعروش والقبائل فتسمية بني هجرس ولدت...
م.هيثم عادل رشدي -
منذ أسبوعمقال رائع وضع النقاط على الحروف فالحقيقة أن النزاعات جعلت أبناء شعوبنا متشردين ولاجئين ومهاجرين...
Sohila Amr -
منذ أسبوعتعود من جديد شعلة ثورة في نفوس، وكأنها لعنة كلما كذبنا وقلنا انها صدفة او خدعة اصبنا بها ولكن لقد...