مع كل اعتداء إسرائيلي على الأراضي اللبنانية، ينبري الآلاف من أصحاب "الحس الفكاهي الملتزم" من جمهور حزب الله إلى ترديد نكات عن عجز الجيش اللبناني عن الدفاع عن اللبنانيين وسيادة وطنهم، وعن ضعف الدولة ومسؤوليها... ومعهم يروّج "مثقفون مشتبكون" من مسوّقي سياسات هذا الحزب لفكرة "عمالة" بعض المسؤولين، ويتردد صدى ذلك بين بعض الناس.
من مخرجات هؤلاء وأولئك يُعمل على إنتاج مزاج شعبي فاقد للثقة بالدولة، بمؤسساتها من جيش وخلافه، وبمسؤوليها من رأس هرم السلطة إلى أدناه، وهو مزاج لازم لإعادة إنتاج علاقات القوة التي كانت سائدة بين "الدولة" و"دويلة حزب الله"، قبل الحرب الأخيرة. فاستعادة الناس ثقتهم بالدولة وبمؤسساتها أو حتى تعويلهم عليها يصعّب عملية انقلاب حزب الله على التفاهمات والتعهّدات التي أنهت الحرب.
"أجل. الدولة اللبنانية ضعيفة وهشة. ولكن الدولة ليست كياناً متعالياً عن البشر الذين يشكّلون شعبها. لا يمكن أن تنشأ دولة قوية إذا كان شعبها منقسماً وتعمل تياراته على خلق مراكز قوة مستقلة لا يمكن تحقُّقها إلا على حساب إضعاف الدولة"
حسابات حزب الله
حتى اللحظة، يصعب تحديد ما إذا كان حزب الله يريد الالتزام بما وافق عليه في اتفاق وقف الأعمال العدائية الذي دخل حيّز التنفيذ فجر الـ27 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، وعلى رأسه تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701، أو يريد التملّص منه تمهيداً للانقلاب عليه.
وعلى الأرجح، لا قرار داخل حزب الله في ما خص الطريق الأنسب الذي يجب أن يسلكه في المستقبل القريب، لأن تحديد هذا الطريق يحتاج إلى وضوح في توازنات القوة في منطقة الشرق الأوسط، فيما هي الآن في حالة سيلان، فالتوازنات القديمة تضعضعت وتسير بعكس صالح "محور الممانعة"، ولكن في الوقت نفسه لم تستتب أي معادلة جديدة.
يمكن تقدير أن غالبية الأصوات داخل قيادة حزب الله الآن تنادي بالانحناء أمام العاصفة إلى حين تتاح الفرصة لإعادة بناء ذراع الحزب العسكرية. فالمجموعة الأكثر إيديولوجية فيه تربط حمل السلاح بأسباب غير دنيوية لها علاقة بما يُسمّى في أدبياتها المتأثرة بنظريات السلطة الإيرانية بـ"التمهيد" لظهور الإمام المهدي، المخلّص بحسب العقيدة الشيعية الاثني عشرية، أو "تهيئة الظروف" لقدومه في تعبير آخر مُستخدم، وفي سبيل ذلك تَعتبر أن أهمية الحفاظ على النظام في طهران تفوق أي شيء آخر في هذه "الحياة الدنيا"، أكان مصالح وطنية أو أكان غير ذلك.
"بدلاً من التندّر على ضعف الدولة، على اللبنانيين، وعلى رأسهم الشيعة، أن يشاركوا بفعالية في ورشة بناء دولة قوية قادرة على تأمين الحد الأدنى من الأمن والأمان والعيش الكريم لأبناء شعبها"
والمجموعة الأقل تشدداً والأقل إيديولوجية داخل قيادة حزب الله، إذا وُجدت، لا تستطيع خوض صراع مع زملائها المتشددين لأن أي صراع علني من هذا النوع لا يمكن إلا أن يصل إلى نتيجة في غير صالحها، لأن فكرة حمل السلاح وإعادة بناء الترسانة التي دمّرتها إسرائيل هي الأكثر جاذبية للقيادة الإيرانية الحالية، ممثلةً بالمرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي وكبار قادة الحرس الثوري الإيراني، وكذلك لجماهير حزب الله، من نواة صلبة تغلب عليها الأدلجة، ومن جماهير أوسع من الشيعة يرتبط السلاح في أذهانهم بـ"قوة الطائفة" في مواجهة الطوائف الأخرى في لبنان بشكل أساسي.
تناقضات "طبيعية"
بين هذا الفريق وذاك، تأتي مواقف قادة حزب الله مليئة بالتناقضات، وتُقسّم الأدوار بين الناطقين باسم هذا الحزب تارةً، وتارةً أخرى يأتي الناقض والمنقوض في خطاب واحد، وهو الحال في عدة خطابات ألقاها أمين عام الحزب نعيم قاسم. فالدولة مسؤولة عندما يتعلق الأمر بإعادة بناء ما تهدّم في الحرب الأخيرة ولكن في المقابل يُعاب على أي مسؤول دعوته لحصرية السلاح بيدها. والدولة متهمة بالتخلي عن سيادتها بسبب الخروقات الإسرائيلية للسيادة اللبنانية، مع أن الجميع يعلم بأن المسألة ليست مسألة قرار بيد الدولة، ولكن في المقابل لا يحق لها أن تمارس سيادتها بمنع دخول الأموال بطريقة غير شرعية إلى لبنان. والدولة مفوّضة بتفكيك بنية سلاح حزب الله العسكرية في منطقة جنوب الليطاني، بموافقة من حزب الله نفسه، وتُتهم في الوقت نفسه بأن عملها هذا سيؤدي إلى إضعاف قدرة لبنان على مواجهة الخروقات الإسرائيلية.
وهذه التناقضات أمرٌ طبيعي، فحزب الله يتبنى سردية الانتصار في الحرب الأخيرة ويعمل على التسويق لها، ولكن واقع الأمور أنه هُزم عسكرياً وتدمّر الجزء الأكبر من ترسانته الحربية. وحزب الله مضطر للقبول بعمل الحكومة اللبنانية والجيش اللبناني على تفكيك بنيته العسكرية في جنوب الليطاني لأن التفاهم الذي نص على ذلك كان طريق النجاة الوحيدة المتاحة أمامه، ولا زال، ولكنه ممتعض من ذلك في الوقت نفسه لأنه يمني نفسه بأن يعود إلى ما كان عليه قبل الحرب.
"الدولة القوية في لبنان لا يمكن أن تأتي بالانتظار ولا بالنكات السمجة، بل تولد بعمل اللبنانيين، بكل انتماءاتهم، في سبيل بنائها، وهي مهمة صعبة وطريقها وعر لكن لا بد من سلوكه"
الطريق إلى الدولة
تزيد هذه التناقضات التي صارت جزءاً من النقاش العام من تيه غالبية اللبنانيين الشيعة الحائرين بين رغبتهم بعدم تكرار الاعتداء الإسرائيلي عليهم، وشرط ذلك الالتزام بتفاصيل اتفاق وقف الأعمال العدائية الذي ينص على تفكيك بنية حزب الله العسكرية ومنعه من إعادة ترميم قدراته الحربية، وبين فكرة أن الدولة عاجزة عن ردع إسرائيل، ما يعني في ذهنهم أن سلاح حزب الله حاجة وجودية لهم في مواجهة الدولة العبرية.
وفي ظل هذه المعمعة، يغيب (وربما يُغَيّب) عن ذهن كثيرين أن حزب الله لم ينجح في ردع إسرائيل في الحرب الأخيرة، وأنه وافق على اتفاق وقف الأعمال العدائية لأنه أدرك أنه غير قادر على استكمال القتال لفترة طويلة بدون أن ينهار بشكل شامل، وأن السلطة اللبنانية الحالية ورثت وضعاً تسبب به حزب الله وتعمل وفق قدراتها المحدودة على محاولة ترميم ما خرب.
أجل. الدولة اللبنانية ضعيفة وهشة. ولكن الدولة ليست كياناً متعالياً عن البشر الذين يشكّلون شعبها. لا يمكن أن تنشأ دولة قوية إذا كان شعبها منقسماً وتعمل تياراته على خلق مراكز قوة مستقلة لا يمكن تحقُّقها إلا على حساب إضعاف الدولة.
وبدلاً من التندّر على ضعف الدولة، على اللبنانيين، وعلى رأسهم الشيعة، كونهم أكثر مَن عانوا من غياب الدولة، وبالأخص الجنوبيين منهم، وكونهم أكبر طائفة من حيث الحجم الديموغرافي، أن يشاركوا بفعالية في ورشة بناء دولة قوية قادرة على تأمين الحد الأدنى من الأمن والأمان والعيش الكريم لأبناء شعبها.
الدولة القوية في لبنان لا يمكن أن تأتي بالانتظار ولا بالنكات السمجة، بل تولد بعمل اللبنانيين، بكل انتماءاتهم، في سبيل بنائها، وهي مهمة صعبة وطريقها وعر لكن لا بد من سلوكه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 9 ساعاتلم تسميها "أعمالا عدائية" وهي كانت حربا؟
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينnews/2025/03/12/nx-s1-5323229/hpv-vaccine-cancer-rfk في هذا المقال بتاريخ لاحق يشدد الأطباء على...
جعفر أحمد الكردي -
منذ 3 أيامجهلك سافر يا هذا ، لو سألت أباك الذي تدعي أنه من أهل الدين والتدين لقال لك بأن شيخك المزعوم كان...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعلى رغم الحزن الي كلنا عمنعيشوا و الي انت كتبت عنه هون بس كثير حلو الي حكيته و اي نحن السوريين...
Souma AZZAM -
منذ 6 أيامالدروز ليسوا نموذجًا واحدًا في الاعتقاد والسلوك. اما في مستوى العقيدة، فهم لا يؤمنون بالسحر، وإن...
محمد دراجي -
منذ أسبوعأخي الفاضل قبل نشر مقالة عليك بالتحقق خاصة في علم الأنساب والعروش والقبائل فتسمية بني هجرس ولدت...