يعود عبد العزيز النصّ، أحد أشهر النشّالين في تاريخ القاهرة، إلى الحياة مجدداً بعد نحو قرن من الزمن، لكن هذه المرة عبر الشاشة الصغيرة. مسلسل "النُص"، الذي يُعرَض في رمضان 2025، ليس مجرد دراما تاريخية أو كوميديا تقليدية، بل محاولة جريئة لإعادة قراءة التاريخ الاجتماعي والسياسي لمصر من خلال شخصية غامضة ومثيرة للجدل.
المسلسل المأخوذ عن كتاب "مذكرات نشّال"، أعاد إحياء فترة الثلاثينيات في مصر، ليقدّم صورةً مختلفةً عن المجتمع في ظلّ الاحتلال البريطاني. لم يكن عبد العزيز النص، مجرد لصّ عابر، بل كان شخصيةً تمثّل التعقيدات الاجتماعية والسياسية لتلك الفترة، وهو ما جعل العمل يتجاوز كونه قصةً عن مجرم تائب، ليصبح مرآةً تعكس صراعات أكبر حول السلطة والهوية والمقاومة.
بين السرد الكلاسيكي وإعادة إنتاج التاريخ
المسلسل يضع المشاهد أمام تساؤلات مهمة حول كيفية سرد التاريخ: هل يمكن لشخص مثل النُص، كان جزءاً من عالم الجريمة، أن يتحول إلى بطل شعبي؟ العمل لا يحاول تقديم إجابة مباشرة، بل يترك المشاهد يتأمل في التناقضات الكامنة في شخصيته. فهو ليس مجرد نشّال، بل زعيم عصابة صغيرة يقود عمليات جريئةً ضد الاحتلال وأعوانه، في سردية تجمع بين الواقعية والفانتازيا التاريخية.
إحدى نقاط القوة في المسلسل، كانت معالجته لثيمة البطل الشعبي غير التقليدي. النُص ليس الرجل المثالي، بل هو شخصية مليئة بالتناقضات؛ الذكاء والخداع، والنضال من أجل قضية شخصية أو وطنية… إلخ. هذه الجدلية انعكست على مستوى الكتابة، حيث جاء الحوار سلساً، بعيداً عن التكلّف، مع قدرة لافتة على المزج بين الكوميديا والدراما دون افتعال.
لعبت الكتابة دوراً حاسماً في نجاح المسلسل، حيث جاء السيناريو متماسكاً ومبنياً على أسس درامية قوية، توازن بين السرد التاريخي والخيال الدرامي. لم يكن العمل مجرد محاولة لتوثيق حياة عبد العزيز النُص، بل إعادة بناء سردية تاريخية من منظور جديد، تمزج بين الأحداث الواقعية والخطوط الدرامية التي تضفي على القصة بعداً إنسانياً وشخصياً.
المسلسل يضع المشاهد أمام تساؤلات مهمة حول كيفية سرد التاريخ: هل يمكن لشخص مثل النُص، كان جزءاً من عالم الجريمة، أن يتحول إلى بطل شعبي؟
ما يميّز التأليف هنا هي القدرة على تقديم شخصيات متكاملة الأبعاد، بحيث لا تبدو مسطحةً أو ذات طابع نمطي. فالشخصيات الرئيسية، مثل النص ودرويش ورسمية، لم تكن مجرد أدوات لتحريك الحبكة، بل كيانات درامية قائمة بذاتها، لكل منها دوافعها وصراعاتها الداخلية. اعتمد الكُتّاب على الحوار كأداة رئيسية لإبراز التناقضات النفسية لكل شخصية، فجاءت الجمل مكثفةً، ومعبّرةً، وتحمل بين طياتها إشارات ذكيةً إلى واقع الثلاثينيات اجتماعياً وسياسياً.
كما تجنّب السيناريو الوقوع في فخ الرومانسية الزائفة أو المبالغات الدرامية، التي قد تفقد القصة مصداقيتها. وبدلاً من ذلك، حافظ على نبرة متوازنة تجمع بين الجدّية والفكاهة، وهو ما ظهر في التفاعل بين الشخصيات، خاصةً بين النُص ودرويش، حيث جاءت الحوارات طبيعيةً تحمل طابع الارتجال المدروس، ما جعلها أكثر قرباً إلى الجمهور.
ومن الجوانب اللافتة في التأليف أيضاً توظيف التفاصيل الصغيرة لإثراء التجربة البصرية والدرامية، مثل استخدام المصطلحات العامية الدقيقة التي كانت سائدةً في تلك الفترة، أو إدخال إشارات إلى قوانين وأحداث تاريخية واقعية، مثل قانون الآثار أو دخول السيارات إلى مصر. هذه اللمحات الصغيرة منحت القصة عمقاً إضافياً، دون أن يشعر المشاهد بأنّه يتلقّى درساً تاريخياً مباشراً.
نجح التأليف في تقديم عمل متكامل يُعيد التفكير في دور الشخصيات الهامشية في التاريخ، ويطرح تساؤلات مفتوحةً حول البطولة، والخيانة، والعدالة في مجتمع يرزح تحت الاستعمار، ما جعل المسلسل أكثر من مجرد دراما تاريخية، بل تجربة فكرية واجتماعية ممتعة ومؤثرة.
أداء أحمد أمين... بين الخفّة والعمق
لعبُ أحمد أمين، دور عبد العزيز النص، خطوة جريئة أخرى تؤكد ابتعاده عن القوالب النمطية التي التصقت به في بداياته الكوميدية. فقد استطاع، من خلال أداء متقن ومتعدد الطبقات، أن يقدّم شخصيةً مركبةً تحمل في داخلها تناقضات إنسانيةً عميقةً، فهو يتنقل بين الفكاهة والجدّية بسلاسة تُحسب له، مستفيداً من لغة جسده ونبرة صوته لإبراز التحولات النفسية التي يمرّ بها النُص. في هذا الدور، لم يكن الأداء مجرد استعراض لقدرة تمثيلية، بل كان عملية غوص في أعماق الشخصية، ما جعل النص يبدو أكثر قرباً إلى المشاهد، وكأنه شخصية حقيقية من لحم ودم، وليس مجرد بطل في مسلسل تاريخي.
على الرغم من نجاحه سابقاً في أعمال مثل "ما وراء الطبيعة" و"جزيرة غمام"، إلا أنّ دوره في "النُص"، يمثل نقطة تحول حقيقيةً، إذ لم يكتفِ بمجرد تقديم أداء درامي متقن، بل خلق شخصيةً تعيش عند الخطّ الفاصل بين الماضي والمستقبل، بين اللص الماهر والإنسان الباحث عن هوية جديدة. اعتمد أمين، على التفاصيل الدقيقة في أدائه ليمنح النص أبعاداً إنسانيةً غير تقليدية. نظراته الحادّة، التي تنمّ عن ذكاء فطري وقدرة على قراءة من حوله، وطريقته في المشي التي تعكس تحولات مزاجيةً بين الترقّب والجرأة، ولحظات الصمت الطويلة التي بدت وكأنها صراع داخلي بين الرجل الذي كانه والرجل الذي يريد أن يكونه، كلها عناصر ساهمت في رسم صورة رجل يحاول إعادة اكتشاف نفسه وسط عالم فوضوي.
ما يجعل أداء أحمد أمين، مميزاً في هذا الدور، هو نجاحه في تحقيق توازن دقيق بين كاريزما الشخصية وخفاياها النفسية. لم يكن النص، مجرد لصّ تائب أو زعيم عصابة يحمل أبعاداً وطنيةً، بل كان إنساناً يحمل في داخله مزيجاً من الذكاء، الخداع، الطموح، والخوف من المصير المجهول. هذه التركيبة جعلت الشخصية أكثر تعقيداً، ومنحت أمين فرصةً لاستعراض قدراته كممثل قادر على التحول بين مشاهد تمتلئ بخفّة الظلّ وأخرى تحمل ثقلاً درامياً كبيراً.
كذلك تميّز أداء أمين، بالقدرة على استخدام صوته كأداة تعبيرية أساسية، فتغيّر نبراته بين الحدّة والهدوء أضاف إلى الشخصية أبعاداً إضافيةً. في المشاهد التي كان فيها النُص، في موقع القوة، جاء صوته واضحاً، متحكماً، يوحي بالثقة والدهاء. أما في اللحظات التي كان يواجه فيها ماضيه أو يتصارع مع قراراته، فكانت نبراته تتغير لتعكس هشاشةً داخليةً خفيّةً. هذا الأداء الصوتي المدروس أضفى على الشخصية مصداقيةً أكبر، خاصةً في المشاهد التي احتاج فيها إلى إقناع المشاهد بحقيقة مشاعره دون الحاجة إلى حوار مباشر.
نجح التأليف في تقديم عمل متكامل يُعيد التفكير في دور الشخصيات الهامشية في التاريخ، ويطرح تساؤلات مفتوحةً حول البطولة، والخيانة، والعدالة في مجتمع يرزح تحت الاستعمار، ما جعل المسلسل أكثر من مجرد دراما تاريخية، بل تجربة فكرية واجتماعية ممتعة ومؤثرة
يمكن القول إنّ أحمد أمين، نجح في جعل النُص، لا مجرد بطل تقليدي، بل شخصية مليئة بالتناقضات التي تجعلها أكثر واقعيةً وأقرب إلى الجمهور. فبدلاً من تقديم صورة نمطية عن اللص التائب أو المناضل الشعبي، جاء أداؤه ليعكس إنساناً يبحث عن معنى لحياته في عالم لم يمنحه الكثير من الفرص. وهذه القدرة على تقديم شخصية معقدة بهذا الشكل، دون الوقوع في المبالغة أو الاستسهال، تثبت أنّ "أمين"، أصبح ممثلاً قادراً على حمل أدوار درامية ثقيلة، متجاوزاً الصورة النمطية التي ربما ارتبطت به في بداياته.
إحدى نقاط القوة الأساسية في المسلسل، هي العلاقة بين النُص ودرويش؛ علاقة صداقة حقيقية مليئة بالمواقف الإنسانية والكوميدية التي تجعل الجمهور يتعلق بالشخصيتين معاً.
حمزة العيلي، في دور "درويش"، كان بمثابة القلب النابض لمسلسل "النص". بشخصيته العفوية وطبيعته الكوميدية، استطاع أن يقدّم أداءً متوازناً بين الفكاهة والإنسانية. "درويش" ليس مجرد صديق مقرّب إلى النُص، بل هو شريكه في كل خطوة؛ رجل بسيط يحمل طموحات كبيرةً، لكنه دائماً ما يجد نفسه عالقاً بين الولاء لصديقه والخوف من العواقب. تمكّن العيلي، من إضفاء روح خاصة على الشخصية، حيث جعلها تبدو مألوفةً وقريبةً من المشاهدين دون أن تفقد خصوصيتها. اعتمد في أدائه على تعبيرات وجهه ولغة جسده التي تنقل مشاعر متناقضةً بمهارة، ما جعل الشخصية أكثر عمقاً وإقناعاً، وهو إلى ذلك الخائن، القاسم المشترك بين كل قصص الأبطال الشعبيين.
عبد الرحمن محمد، أضاف لمسةً مميزةً إلى العمل من خلال شخصية "زقزوق"، أحد أعضاء عصابة النص. بأسلوبه المرح وتلقائيته، نجح في أن يكون مصدراً للطاقة الإيجابية داخل الأحداث. وبرغم أنّ دوره لم يحمل الثقل الدرامي نفسه لبعض الشخصيات الأخرى، إلا أنّ عبد الرحمن، استطاع أن يبرز بفضل حضوره القويّ وأدائه الطبيعي الذي جعل الشخصية تبدو حقيقيةً وغير مفتعلة. زقزوق كان يمثّل الجانب الحيوي والطفولي للعصابة.
ميشيل ميلاد، قدّم أداءً لافتاً في دور "إسماعيل"، الشاب العبقري الذي يمثّل العقل المدبّر للعصابة بأفكاره المبتكرة واختراعاته الغريبة. أظهر ميشيل، موهبةً حقيقيةً في تقديم شخصية تجمع بين الذكاء والغرابة بطريقة محبّبة إلى المشاهدين. استطاع أن يجعل من إسماعيل شخصيةً لا تُنسى، حيث أضاف إلى العمل بعداً جديداً من خلال مشاهد مليئة بالإبداع والفكاهة.
في النهاية، يبقى مسلسل "النُص"، تجربةً دراميةً مميزةً استطاعت أن تجمع بين الكوميديا والتاريخ بطريقة ذكية وممتعة.
رؤية حسام علي وتألّق التفاصيل البصرية
في مسلسل "النص"، كان الإخراج بقيادة حسام علي، بمثابة حجر الأساس الذي حمل العمل على عاتقه، ليبرز كواحد من أبرز المسلسلات الرمضانية لعام 2025. وأبرز موهبته في تحويل النص المكتوب، إلى عوالم حيّة تنبض بالحياة، ونجح في تقديم معالجة بصرية مبهرة أعادت إحياء القاهرة في ثلاثينيات القرن الماضي بكل تفاصيلها الدقيقة. لم يكن الإخراج مجرد وسيلة لتسيير الأحداث، بل كان أداةً فنيةً متكاملةً تُعبّر عن روح الزمن والمكان، وتُبرز الشخصيات في سياقها الطبيعي.
أَوْلَى المخرج اهتماماً كبيراً بالديكورات التي صُممت بعناية لتجسد أجواء القاهرة القديمة؛ من الأزقة الضيّقة إلى المنازل ذات الطراز المعماري التقليدي، وحتى المقاهي الشعبية التي كانت تعجّ بالحياة. الإضاءة لعبت دوراً محورياً في خلق هذه الأجواء، فكانت كل لقطة تبدو وكأنّها لوحة فنية مدروسة، تُبرز جماليات المكان وتفاصيله دون أن تبدو مفتعلةً أو مبالغاً فيها.
ما يُميّز إخراج حسام علي، هي قدرته على خلق توازن بين العناصر الفنية المختلفة دون أن يطغى أحدها على الآخر. الديكور والإضاءة والتصوير والموسيقى كلها جاءت متناغمةً لتُشكّل وحدةً فنيةً متكاملةً تخدم القصة والشخصيات. كما أظهر براعةً في إدارة الممثلين، حيث استطاع أن يُبرز أداء كل ممثل بشكل يتناسب مع دوره ويُضيف إلى العمل عموماً.
هذا التميّز في الإخراج جعل مسلسل "النص" عملاً بصرياً متكاملاً، ولا شكّ أنّ رؤية حسام علي، الفنية، كانت العامل الأساسي الذي جعل المسلسل يبرز وسط زخم الأعمال الرمضانية لهذا العام. لقد أثبت حسام علي، أنه ليس مجرد مخرج موهوب، بل صانع عوالم درامية قادرة على جذب المشاهدين وإبقائهم داخل القصة حتى النهاية.
في النهاية، يبقى مسلسل "النُص"، تجربةً دراميةً مميزةً استطاعت أن تجمع بين الكوميديا والتاريخ بطريقة ذكية وممتعة.
في زمن تمتلئ فيه الدراما الرمضانية بالأعمال التقليدية، جاء "النُص" ليكسر القوالب الجاهزة، ويطرح رؤيةً مختلفةً عن البطولة والتاريخ. هو ليس مجرد مسلسل عن لصّ تائب، بل عن رجل يحاول إيجاد معنى جديد لحياته وسط عالم يفرض عليه تصنيفات جاهزةً.
من هنا، يبقى السؤال الذي طرحه النُص، خلال الحلقات: "أنت عارف ليه سمّوني النُص؟"، أكثر من مجرد حيلة درامية، بل نافذة لقراءة أعمق حول طبيعة الأبطال الذين يصنعهم التاريخ، وأولئك الذين يصنعون تاريخهم الخاص.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Souma AZZAM -
منذ 15 ساعةالدروز ليسوا نموذجًا واحدًا في الاعتقاد والسلوك. اما في مستوى العقيدة، فهم لا يؤمنون بالسحر، وإن...
محمد دراجي -
منذ يومينأخي الفاضل قبل نشر مقالة عليك بالتحقق خاصة في علم الأنساب والعروش والقبائل فتسمية بني هجرس ولدت...
م.هيثم عادل رشدي -
منذ 6 أياممقال رائع وضع النقاط على الحروف فالحقيقة أن النزاعات جعلت أبناء شعوبنا متشردين ولاجئين ومهاجرين...
Sohila Amr -
منذ أسبوعتعود من جديد شعلة ثورة في نفوس، وكأنها لعنة كلما كذبنا وقلنا انها صدفة او خدعة اصبنا بها ولكن لقد...
Yusuf Ali -
منذ أسبوعلن أعلق على كل كلامكِ والكثير من المغالطات التي وردت، وسأكتفي بالتعليق على خاتمتكِ فقط:
قلتِ:...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعThis media body is clearly within the circles of the Makhzen. Otherwise, it would not have been...