شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
بين الطائفية والمحبّة… شهادة رعب وامتنان من الساحل السوري 

بين الطائفية والمحبّة… شهادة رعب وامتنان من الساحل السوري 

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الجمعة 21 مارس 202510:56 ص

يقال إنّ "المصائب تكشف معدن البشر". آمنت شخصياً بصحة المقولة، بعد الأحداث الدامية التي حدثت في الساحل السوري. انقسم الشارع قسمين بين مهلل ومستهجن، ومدين ومبرر، وشامت ومكلوم، وإنساني وطائفي، وبين من أراد وقف المجازر والاقتصاص من القاتلين، ومن كان همّه فقط تبرئة الأمن العام من القتل دون تحميله مسؤولية عدم القدرة على حماية المدنيين العُزّل.

الدعتور تشعل شرارة الأحداث

يوم الثلاثاء الرابع من آذار/ مارس الجاري، استيقظت صباحاً وتفقدت أغراضي وجمعت مستلزماتي في حقيبة السفر، وسافرت من قريتي في ريف طرطوس إلى السكن الجامعي في اللاذقية، حيث كان عليّ أن أقضي نحو خمسة أيام لأقدّم امتحانَين وأعود. اخترت البقاء في السكن توفيراً للجهد ولأجور النقل الباهظة. وصلت إلى السكن الجامعي عند الساعة التاسعة، وبدأت بمراجعة الامتحان الذي كان مقرراً عند الساعة الواحدة ظهراً. عند الـ12 وربع، اتصل بي صديقي ليقول لي: "الامتحان تأجّل بسبب الأحداث في الدعتور". لاقى القرار استياء الطلاب، لكننا سلّمنا أمرنا، وقلنا المهم السلامة، ولم نكن نعرف أنها البداية.

بدأت تتصاعد الأحداث في الدعتور، وتتعدد الروايات وتتضارب. وبدأ أقاربي ومعارفي يتصلون بي لأخبرهم عن الأحداث في هناك، فأقول لهم: "والله ما بعرف متلي متلكم عم إسمع من الفيسبوك". لم أقف عند أحداث الدعتور، بل ظننت أنها عابرة فقد اعتدنا وبكل أسف على "الحالات الفردية" بين الحين والآخر.

مرّ يوم الأربعاء بسلام، لتبدأ الأنباء صباح يوم الخميس، بالوصول إلينا عن وجود إشكالية في ريف جبلة. أيضاً لم نلقِ بالاً للأمر، وأكملت دراستي وذهبت إلى سريري لآخذ قيلولة الظهر. بعد ساعة من النوم، استيقظت وزميلي على صوت طيّارة تتجه نحو جبلة مع أصوات القصف، وبدأ حينها مسلسل الرعب.

تصفحت وسائل التواصل الاجتماعي لأفهم ما يجري. أغلب الأخبار تقول إنّ "فلول النظام السابق" اعتدت على حاجز للأمن العام، وبدأت بعدها حملة موسعة من قبل "الأمن العام" للردّ على الهجوم، لتشتعل حينها الحرب وسط تقدّم ملحوظ "للفلول"، ما دعا القيادة في سوريا إلى الاستعانة بالفصائل المتشددة التي مارست عنوةً أقذر أنواع الإبادة والتطهير بحق المدنيين العُزّل العلويين في مختلف مدن طرطوس واللاذقية. عشنا أيام الخميس والجمعة والسبت في السكن الجامعي، رعباً لا يوصف بسبب أصوات الاشتباكات التي لم تهدأ وأخبار التطهير العرقي.

"الكهرباء لم تأتِ منذ ثلاثة أيام، فاضطررنا إلى الطبخ وتسخين المياه على الحطب، وهو ما أصبح ظاهرةً منتشرةً بعد أن كان ممنوعاً. أما طابور المياه، فحدّث ولا حرج؛ لا يوجد سوى مكان واحد فيه صنبور ينزّ بحبل رفيع، ماءً"

لا كهرباء ولا ماء ولا خبز

أصبحت مشاهد المجازر يوميةً. لكن بالإضافة إلى هذه المشاهد المؤسفة التي كنا نتابعها، أصبح هناك واقع معيشي صعب في السكن الجامعي؛ انقطعت الكهرباء عن السكن بالكامل، وتبع ذلك انقطاع الماء، بالإضافة إلى توقف أغلب الأفران عن العمل، ما خلق أزمة خبز خانقةً، وأصبح واقع السكن مختلفاً تماماً عن ذي قبل.

كنا نركض في السكن الجامعي وراء أي خبر، وبحثاً عن مكان لشحن الهواتف أو لتعبئة المياه أو لتوزيع الخبز، بعد أن كان هذا كله متوافراً.

يشيع خبر مفاده أنّ سيارة الخبز وصلت إلى السكن، فنرى جحافل الطلاب تتجه نحو المكان لنجد طابوراً طويلاً. المحظوظ منا أحياناً يرجع برغيفين، أما الباقي فيرجعون بخفيّ حُنين. الكهرباء لم تأتِ منذ ثلاثة أيام، فاضطررنا إلى الطبخ وتسخين المياه على الحطب، وهو ما أصبح ظاهرةً منتشرةً بعد أن كان ممنوعاً. أما طابور المياه، فحدّث ولا حرج؛ لا يوجد سوى مكان واحد فيه صنبور ينزّ بحبل رفيع، ماءً.

أصبح التعب النفسي يفوق التعب الجسدي، فالطلاب قلقون على أهاليهم. في الأيام الأولى، كنا نسمع صوت القصف الرصاص ونقرأ ما يحدث على فيسبوك، تماماً مثل غيرنا. كان الخوف علينا نحن الطلاب في السكن الجامعي، لكن ما إن تصاعدت الأحداث في ريف طرطوس، انعكست الآية وأصبحنا نحن من نخاف على أهالينا ونودّ لو بإمكاننا أن نأتي بهم إلى السكن الجامعي.

"كلنا كنّا رهائن بيد الأسد، ومن جميع الطوائف، ومن يرفع صوته يُخفَ. فحين تقول: "وينكم لما كان الأسد يضرب براميل"، تبدو كأنّك تقول: "الغايب يرفع إيدو"."

الطائفية مقابل المحبّة

أتصفح فيسبوك، وأرى المجازر التي تحصل من دون رقيب أو حسيب، بحجة الفلول والفصائل المنفلتة. يصيبني القرف من كل من يشمت بما يحصل أو يبرره. يقول أحدهم: "وين كنتم لما كان ينزت علينا براميل"، أو "ليش ما كنتم تدينوا جرائم الأسد لما أباد السنّة". وكأنّ هؤلاء كانوا في عالم آخر. وكأنّ رفاهية الإدانة كانت متوافرةً لدينا ولديهم، أو كأنّهم هم الذين ملأوا الدنيا بالإدانات حين كانوا يعيشون في مناطق سيطرة نظام الأسد. كلنا كنّا رهائن بيد الأسد، ومن جميع الطوائف، ومن يرفع صوته يُخفَ. فحين تقول: "وينكم لما كان الأسد يضرب براميل"، تبدو كأنّك تقول: "الغايب يرفع إيدو".

المؤسف أنّ هناك أناساً أكلنا وشربنا معهم طوال الفترة الماضية، كأخوة آمنين مأمّنين على بعضنا البعض، لكن فجأةً تتفاجأ بكمية الطائفية عند بعضهم. يضع صديق لي حالةً على فيسبوك، يقول فيها: "طالما لم تحترموا أكثريتنا لن نحترم أقلّيتكم". أما الآخر، فيكتب: "كنتم أقليات وأصبحتم نوادر". وكأنّ اعتراض هؤلاء على بشار الأسد، كان بدافع أن يحلّوا محله، فقط ليمارسوا الوحشية نفسها.

ما إن تصاعدت الأحداث في ريف طرطوس، انعكست الآية وأصبحنا نحن من نخاف على أهالينا ونودّ لو بإمكاننا أن نأتي بهم إلى السكن الجامعي.

تفاجأت بكمية الطائفية، لكن تفاجأت أكثر بكمية المحبة من أصدقائي من الطوائف الأخرى. يتصل بي عشرات الأصدقاء يومياً، ممن تربطني بهم علاقة قوية أو عادية، ليطمئنوا عليّ. يتواصل معي صديقي محمد -شقيقه شهيد قُتل تحت التعذيب في معتقلات الأسدـ من مدينة زاكية التي تعرضت لأقسى أنواع الوحشية من نظام الأسد، ويقول لي: "شو ما احتجت قلي، واذا حسّيتوا ما في أمان بيتي بالشام مفتوح إلكم". صديقي محمد، تعرّض لشتى أنواع القهر أيام الأسد، لكن الإنسانية والمحبة متأصلتان فيه، ولم تجعلاه يتمنى أن يحصل لغيره ما حصل معه. محمد مثال عن الثائر المنتصر الذي انتصر على كل محاولات نظام الأسد لتشويه إنسانية السوريين. محمد مثال، وغيره كثر ممن تعاطفوا معي ومع جميع أهالي الساحل. هؤلاء هم من يعرفون أنّ الإنسانية لا تتجزأ، وأن لا وطن ولا ثورة بلا إنسانية.

الشيء الجميل الآخر بين هذه المصائب كلها، حالة التعاضد والتعاون التي شهدتها في السكن الجامعي في اللاذقية. الطلاب من مختلف الأطياف والمحافظات يواسون بعضهم، ويقدّم كل منهم المعونة والمساعدة برغم الشحّ في كل شيء، ولو كان ذلك باقتسام رغيف الخبز الوحيد بينهم، ناهيك عن الكثير من المبادرات مثل توزيع خبز وسلل غذائية مجاناً من قبل فرق تطوعية. أعتقد أنّ حالة السكن الجامعي هذه تمثّل سوريا التي نريدها، سوريا اليد الواحدة، سوريا الضمير الحي.

"تفاجأت بكمية الطائفية، لكن تفاجأت أكثر بكمية المحبة من أصدقائي من الطوائف الأخرى. يتصل بي عشرات الأصدقاء يومياً، ممن تربطني بهم علاقة قوية أو عادية، ليطمئنوا عليّ"

عدت إلى منزلي مع باصات أمّنها مشكوراً المجلس الشيعي الاسماعيلي، مجاناً وللجميع. عدت باستنتاج تةصلت إليه من خلال متابعتي للأحداث في سوريا على مدى 14 عاماً وحتى اليوم: ليس كل معارض لنظام الأسد ثورياً، وليس كل داعم للسلطة الحالية ثورياً، هناك أمر يجب إيضاحه: السوريون ليسوا معارضةً وموالاةً أبداً. السوريون قسمان، قسم إنساني وقسم طائفي، القسم الطائفي يضمّ من كان يكره الأسد فقط لأنه علويّ، ومن كان يحبّ الأسد أيضاً فقط لأنه علويّ، ومن يحبّ الشرع فقط لأنه سنّي، ومن يكره الشرع أيضاً فقط لأنه سنّي. أما القسم الإنساني، فمكوّن ممن كان ضد الأسد لأنه مجرم، ومن كان مع الأسد مخدوعاً به أو على سبيل أنه "أحسن السيئين"، ومن هو مع الشرع لأنّه "محرر سوريا" وسوف يقودها إلى برّ الأمان، ومن هو ضد الشرع باعتباره متطرفاً ذا خلفية جهادية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image