شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"بني عداس "كيف يعيش "غجر الجزائر" اليوم؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والفئات المهمشة

الأحد 16 يوليو 202301:19 م

"بني عداس" أو "بني هجرس" ، قوم منبوذون في الجزائر، منتشرون على هامش المجتمع في حواشي المدن الكبرى والتجمعات الزراعية والبوادي التي تقع على حافة الصحراء، على شكل جماعات منغلقة على نفسها، تتسم أحوالهم بالغموض، ويتسمون بنمط مختلف في الحياة والسلوك.

إنهم قبائل بلا مطالب توحّدهم، ولا عرقية تجمعهم، ولا أرض يدعون الانتماء إليها أو يحلمون بالعودة إليها؛ مجموعات آمنت أن كل أرض يطؤونها هي وطنهم إلى حين، وأن التسكع لعنتهم والتسول لعبتهم، فهويّتهم واحدة وهي التيه، ويحملون معها وفاء عجيباً للتمرد والحياة، بعيداً عن كل الالتزامات الاجتماعية.

روحهم التمردية هذه وعَدَم الالتزام بالمؤسسات الاجتماعية وقواعدها، بالإضافة إلى أسباب تاريخية أخرى، جعلت من المألوف أن يُعتبروا من قبل كثير من أطياف الشعب الجزائري أنهم مضرب مثل على كل ما هو شائن في السلوك، سواء في قلة الذوق أو قلة الحياء أو عدم التحضر وغيرها.

النظرة الدونية إلى بني عداسة لم تكن وليدة الفترة الاستعمارية فقط، بل لها جذور أقدم

أسباب تاريخية جعلتهم منبوذين

من أبرز الأمثال المنتشرة في القاموس الشعبي: "ترخصي يالزرقا ويركبوك بني عداس"؛ هو مثل شعبي يستخدم للتعبير عن الشجب والإدانة أو حتى الاستهزاء، ويعني أن الشيء الثمين يصبح رخيصاً ويفقد قيمته عندما يستخدمه أشخاص لا يستحقونه، ويشير المثل إلى قصة في التراث الشعبي تداولتها الألسن مرتبطة بفترة السنوات الأولى للاستعمار.

في القصة، شاهد الناس رجلاً من بني عداس معروف أنه يتعاون مع السلطات الاستعمارية، يركب فرساً أصيلة، ويرتدي ملابس تدل على الرفاهية والمكانة الاجتماعية، وللتعبير عن عدم الرضى قاموا بانتقاده، واستخدموا المثل لأول مرة.

وبغض النظر عن صحة الواقعة تاريخياً أم لا، فإن هذا المثل أصبح رمزاً شعبياً يتم تداوله اليوم على نطاق واسع، ويستخدم لوصف شيء ثمين ضاعت قيمته بسبب استخدامه من شخص يعتبرونه وضيعاً.

وعلى الرغم من أن المصادر التاريخية لم تربط مسألة تعاون الجزائريين مع الاستعمار ببني عداس وحدهم، وإنما المتعاونين أو ما يسمون بـ"الحركة والقياد" الذين كانوا متواجدين كأفراد ضمن الكثير من الأطباق التي تشكل تركيبة المجتمع الجزائري.

ويبدو جلياً أن النظرة الدونية إلى بني عداسة لم تكن وليدة الفترة الاستعمارية فقط، بل لها جذور أقدم، وقد أتى ابن خلدون في المجلد السادس من كتابه الشهير "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، على ذكر قوم اسمهم بني أداسة استوطنوا مناطق في تونس والشرق الجزائري حالياً.

وذهب المؤرخ الفرنسي مرسيه (E. Mercier) أن بني أداسة الذين ذكرهم ابن خلدون هم بنو عداس الذين عاصرهم في القرن التاسع عشر، وكان أول من أطلق عليهم وصف الغجر، يسمون إلى الوقت الحالي المواطن، وهي تعريب لكلمة "جيتان" بالفرنسية التي تعني الغجر، لأنهم كانوا أقرب في ناظريه إلى الغجر البوهيميين الذين يسيحون في أوروبا وموطنهم بوهيميا في التشيك الحالية.

وقد أورد المؤرخ الذي عاش بين 1840 و 1907 في ما يصفه الناس عنهم أنهم قوم دُهاة ماكرون مخادعون، الكثير منهم غشّاشون مُهرّبون، بحيث أن أحدهم يمكنه خلق قرية خيالية، من شدة اتقانهم للكذب! وأنّهم كانوا يأتون من تونس إلى قبائل عمالة قسنطينة شرق الجزائر، ويحترفون مهنة الوشم، حسب ما ذكره في كتابه "مسألة الأهالي بالجزائر"، بداية القرن العشرين.

هكذا حول المجتمع "بني عداس" إلى شتيمة

اللافت أن أوصاف الوضاعة لا تزال تعمم على كل شخص من بني عداس في المخيال الشعبي الجزائري، حتى في عصرنا هذا، وتنهر الأم أولادها إن أتوا بسلوك شائن بالقول إنه من أفعال بني عداس، ويعير الشخص رجلاً آخر بوصفه "عدايسي"، لأنه لا يستحي. ولقد ظل وما يزال تعبير "بني عداس" محملاً إلى يومنا هذا بشتى المدلولات اللاأخلاقيّة التي تنوب مناب الشتيمة للشخص المراد إهانته؛ شتيمة عادة ما تُطلق لوصف أصحاب الأخلاق المنحطّة والفئات الرذيلة في المجتمع.

لغوياً فإن الفعل "عدس" يعني الترحال والانتقال، وهذا يشير إلى احتمال وجود علاقة قوية بين هذا المعنى واسم القوم الذي اشتهروا به. أما بنو هجرس (اسم آخر يطلق عليهم)، ففي العربية تُستخدم كلمة "هجرس" للإشارة إلى ولد الثعلب أو الثعلب بشكل عام، فهل رأى الناس تشابهاً في الأخلاق بين هؤلاء القوم وأخلاق الثعلب، فأطلقوا هذا اللقب عليهم؟

لا يمكن إيجاد إجابة قاطعة عن هذا الأمر فهم مغيبون رسمياً، ولا توجد أبحاث أكاديمية حديثة تخصهم، وحتى القيام بمسح اجتماعي حولهم اليوم يعتبر مهمة صعبة فآخر إحصاء لهم كان في الفترة الاستعمارية عام ،1939 وعددهم كان يتجاوز 40 ألفاً ذلك الوقت، في حين تقول تقديرات إن عددهم قد يتجاوز المليون اليوم، لكن من شبه المستحيلات أن نجد شخصاً يقول عن نفسه علناً أنه من بني عداس، لما أصبح عليه مدلول هذه الكلمة من شتائم وإشارات لأشخاص سيئين.

لماذا ظلت أوصاف الوضاعة  تعمم على كل شخص من بني عداس في المخيال الشعبي الجزائري، حتى يومنا هذا؟

أوضاع غجر الجزائر اليوم

تتبع أثر بني عداس ليس مستحيلاً ومعلوماً، ذلك أن الكثير منهم يعيشون في مناطق سهلية زراعية، مثل الحاسي بولاية سطيف، بينما قطبهم الديني والروحي زاوية في مدينة سعيدة تسمى سيدي خليفة، حيث تقام العودة الخاصة بهم، وفيها طقوس غرائبية مثل اللعب بالنار والأفاعي، وقراءة الجبين. في الواقع يُقال إن الكثير منهم يمارس اليوم العرافة والسحر، فهذه صفة التصقت بهم منذ القدم ما منحهم سمعة تجعل زبائنهم يبحثون عنهم، وليس العكس.

في المدن الكبرى يمكن تمييزهم بين جمهور المتسولين وبائعي المناديل في محطات الحافلات والقطارات وبين السيارات وسط الزحام، وفي الشوارع يفترشون الطرق، حيث من الشائع أن تجد حولهم أطفالاً رضّعاً وصبية، ولا يحتاج المرء إلى فراسة حتى أن يكتشف في وجوههم ملامح خاصة بهم، فقد تجد أحدهم ببشرة تميل إلى السمرة مع شعر أشقر وعيون فاتحة؛ جمال يظهر تمرد وعنفوان أصحابه، ولكن غالباً ما تحتاج إلى التمعن لتكتشفه بين ملابس رثة ووجوه متسخة.

في تسعينيات القرن الماضي حينما كانت الأوضاع الأمنية في الجزائر متردية، يتذكر شباب اليوم جيداً كيف كانت أمهاتهم تحذرهم من الاقتراب من "القزنات"، وهو اللفظ الذي يطلق على النسوة العجائز منهم، مخافة أن يختطفوهم ويستخدموا أجسادهم في طقوس الكهانة والسحر التي عرفوا بها.

لم يعد ظهورهم اليوم مرعباً مثلما كان، لكن سمعتهم لم تتحسن كثيراً، واختفت الكثير من المظاهر التي كانت ترتبط بهم، منها أنهم كانوا لا يعترفون بالمؤسسات المدنية، ولا يسجلون مواليدهم في البلديات، حتى شاع أنهم كانوا يتركون موتاهم من كبار السن في المساجد ليدفنها الناس، ذلك أنه يصعب استخراج رخص للدفن لعدم توفر وثائق هوية رسمية خاصة بهم، وأنهم كانوا لا يرسلون أبناءهم للمدرسة. مع ذلك يمكن ملاحظة انتشار التسرب المدرسي بين بناتهم وصبيانهم اليوم.

ابتسامة بنت "عدايسية" على الرصيف

أمام جسر ضخم يضع أعمدته على أرض كانت سابقاً أكبر حي للصفيح في الجزائر العاصمة، معروف كذلك أنه كان أكبر تجمع لبني عداس لا يزال أطفالهم يبيعون "خبز المطلوع" على الرصيف.

تقرب رصيف 22 من إحدى الفتيات هناك، وتبدو في العاشرة من السن أو أكثر بقليل، وأجابت عن الأسئلة بحذر بعد أن وعدناها بشراء "خبزة" عن كل سؤال تجيب عنه.

قالت الفتاة إنها لا تذكر حي الصفيح الذي كانت تسكنه، إذ كانت صغيرة حينما هدمته السلطات لتشييد الجسر، وتم نقل عائلتها نحو عمارات سكنية في "حي كوريفة" بالحراش شرق العاصمة، لكن والدها الذي يملك شاحنة صغيرة لجمع البلاستيك من القمامة وبيعه لمحطات الرسلكة يتركها كل يوم تقريباً رفقة أخيها الذي يكبرها بخمس سنوات تقريباً -رفض النزول من المنحدر الذي يجلس فيه حيث يحتمي تحت شجرة من أشعة الشمس- ثم يعود إليهم في المساء.

تقول الفتاة إنها لا تذهب كثيراً إلى المدرسة، وحينما سألناها عن السبب قالت إنها لا تحب الدراسة، وتفضل مساعدة أخيها الذي انقطع عن الدراسة، ويشتغل أحياناً في بيع أكياس بلاستيكية في السوق.

تضيف الفتاة أن أقرانها في المدرسة يسمونها "التونسية" -وهي تسمية التصقت بسكان حي الصفيح نفسه (التوانسة) لأن سكانه من بني عداس يُقال إنهم قدموا قديماً من تونس، ولا يملكون أوراقَ هوية، حتى إن إجراءات ترحيلهم نحو سكنات لائقة تعقدت بسبب مشكل الأوراق الثبوتية قبل أن تسوى وضعيتهم مؤخراً-.

سألنا الفتاة عن سر وشم محفور في ذراعها الأيمن، فتحرجت عن الإجابة، ثم نظرت إلى أخيها مطولاً، وعادت تجيبنا بعد أن ألححنا السؤال: "جدتي هي من أصرت على وضع ذلك الوشم. تقول إنه موجود لكي تستطيع إيجادي في حال ما ضعت".

تركنا الفتاة تعود إلى أخيها في الظل بعد أن شعرنا أننا أطلنا مكوثها تحت شمس الصيف الحارقة لتودعنا بابتسامة بريئة ترددت قليلاً قبل أن تكشف عنها.

في المحصلة من الواضح أن التحولات الاجتماعية التي شهدتها الجزائر في السنوات الأخيرة بددت كثيراً من الفوارق التي كانت تميز بني عداس عن غيرهم من أطياف الشعب الجزائري، حيث تحول اسمهم إلى صفة تدل على البذاءة أكثر من أن تدل على مجموعة عرقية بحد ذاتها، وذاب الكثير من "العدايسية" الأغنياء، ومن الطبقة الوسطى في المجتمع، في حين يكشف الفقر عن آخر من تبقى منهم في الشوارع، حيث يمارسون التسول أو النصب، أو في المجتمعات الريفية حيث تكثر ممارسات الشعوذة والكهانة تحت غطاء ديني وصوفي أحياناً.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard