قبل الثورة التونسية، كانت إذاعة أغنية لفرقة "البحث الموسيقي" أو "الحمائم البيض" تُعدّ خرقاً خطيراً لقرار سلطوي ضمني يقضي وجوباً بمحاصرة "الأغنية السياسية".
كانت الأصوات الفنية المعارضة، أو "البديلة" كما تسمي نفسها، محاصرةً داخل أسوار الجامعات والمقارّ النقابية، وتساهم في تشكيل وعي ديمقراطي وثوري مواجه للنظام بأجهزته الأمنية والإعلامية.
حاول النظام كثيراً القضاء على هذه الأصوات. كان يعتبرها "نشازاً". لكنها كانت تستمد إرادة البقاء من خزان الحركة الطلابية التي احتضنت هذا اللون الفني الفريد وحمته من ضربات السلطة. وفي المقابل كانت الأغنية السياسية التونسية تعبر عن الطالب التونسي وعن همومه الاجتماعية والسياسية.
كانت أغاني كـ"هيلا هيلا يا مطر" و"يا خلة وادي باي" أو "نشيد الاتحاد" بصوت فرقة أولاد المناجم تستطيع أن تحرك جماهير الطلاب وتلهب مشاعرهم المكبوتة وتحول مدارج الجامعات إلى ساحات للتظاهر والعصيان.
النشأة داخل الصراع
بدأت تتبلور أغنية ذات توجه سياسي في تونس أواخر ستينيات القرن الماضي. ففي سياق من تحوّلات سارت على إيقاع إخفاق النظام التونسي سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وهزيمة 1967، والثورة الطلابية الفرنسية، بدأت الحركات اليسارية التونسية المعارضة تستشعر أهمية العمل الثقافي والفني في نشر الوعي وتعبئة "الجماهير".
يسمي الباحث التونسي أبو ناظم المرزوقي هذه المرحلة من تاريخ الأغنية السياسية بتونس "مرحلة العفوية وعدم النضج". وروى لرصيف22 أنها بدأت بتطويع الأغاني الشعبية نحو مضامين هادفة أو التغني بمواضيع مثل الهجرة والفقر وفلسطين، كأغاني الراحلين الهادي قلة وحمادي لعجيمي ومجموعة "أصحاب الكلمة".
لكنه يعيد الانطلاقة الحقيقية للأغنية السياسية في تونس إلى أحداث "الخميس الأسود"، عندما دخلت السلطة في صراع مع المنظمة النقابية المركزية وأطلقت الرصاص الحي على عمال مضربين وقتلت منهم العشرات يوم 26 يناير 1978.
ولفت المرزوقي إلى "أن المد الذي عرفته الحركات الاجتماعية في تونس خاصة العمالية والطلابية، أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، نتيجة تزايد الفقر والفروق الاجتماعية والقمع الوحشي مع الإحساس المتزايد بالغبن والهزيمة والانكسار، حرك مشاعر النخبة المثقفة للإبداع الشعري والموسيقي، فظهرت مجموعة أصحاب الكلمة كفرقة تؤدي أغاني رمزية دون مضامين سياسية واضحة”. مضيفاً أنه بعد أحداث الخميس الأسود وتنامي المد الطلابي في الجامعة، ظهرت قصائد ثورية تتحدث عن العدالة الاجتماعية والحرية كقصائد المولدي زليلة (عم خميس) وعلي سعيدان ومختار اللغماني وبلقاسم اليعقوبي ومحمد الصغير أولاد أحمد والمهدي بن نصيب وعبد الجبار العش ومنصف المزغني وكمال الغالي وأدم فتحي.
وتابع المرزوقي أن هذه القصائد تلقفها موسيقيون هواة ومسيسون مهرة من المنتمين أساساً إلى النخبة اليسارية التي عرف أغلب نشطائها المنافي والسجون أو التهميش والتجويع، مثل مجموعة "أمازيغن" وحمادي العجيمي ومحمد بحر والهادي قلة ومجموعة "البحث الموسيقي بقابس" والزين الصافي ولزهر الضاوي ومجموعة "عشاق الأرض" ومجموعة "الحمائم البيض".
الثمانينيات... العقد الذهبي
شهد عقد الثمانينيات من القرن الماضي ذروة مجد الأغنية السياسية في تونس. تطور هذا اللون الفني شكلاً ونوعاً. وترافق ذلك مع استفحال أزمة النظام السياسي في البلاد، بعد أن بلغ الرئيس الحبيب بورقيبة درجة من العجز البدني فتحت المجال لصراعات داخل معسكر السلطة حول خلافته. في المقابل تطورت الحركات اليسارية المعارضة وقويت شوكة الحركات الطلابية وتطورت معها المجموعات الفنية التي كانت أغلب عناصرها من طلاب اليسار وعماله.
خلال هذه الحقبة، صارت الموضوعات أكثر راديكالية في مواجهة السلطة. وروى أبو ناظم المرزوقي أنه "خلال هذه المرحلة، تغنى الشباب المهاجر بأغنية "بابور زمر خش البحر" للهادي قلة، وتعرّف الطلبة على واقعهم في أغنية "خوذ البسيسة والتمر يا مضنوني" لفرقة البحث الموسيقي، وعرفوا حقيقة من يخونهم ويغدر بهم في أغنية "بشرفك قلي آه يا شعبي" عن الخميس الأسود، لكمال الغالي، وأداء البحث الموسيقي.
ورأى أن الطلاب اصطدموا في "انتفاضة الخبز"، في يناير 1984، بحقيقة أن هناك مَن يقتلهم فعلاً مع استشهاد الطالب اليساري وأحد رموز الحركة الطلابية، الفاضل ساسي، في ما يشتبه بأنه اغتيال سياسي من بوليس بورقيبة. فغنى له محمد بحر "لفاضل غنوا كل الغناء". وألهب لزهر الضاوي حماسة الطلبة قبيل انعقاد المؤتمر الثامن عشر للاتحاد العام لطلبة تونس الذي انتظرته أجيال من المؤسسين "يا شهيد... الخبزة رجعت".
[caption id="attachment_42588" align="alignnone" width="350"] الشيخ إمام مع فرقة البحث الموسيقي[/caption]الشيخ إمام معلماً
نشأت مجموعة البحث الموسيقي، أشهر الفرق الفنية السياسية في تونس، بعد أحداث 26 يناير 1978. وتحدث نبراس شمام، مؤسس ورئيس الفرقة، عن أيام النشأة والتأسيس، ذاكراً التأثير الكبير الذي أحدثه وصول أشرطة الشيخ إمام إلى تونس "واكتشافنا لهذا الشكل الفني الذي يعبّر عما كنا نعيشه في الساحات والشوارع". هكذا تبلورت فكرة تأسيس مدرسة غنائية تونسية مناضلة وكان المبادرون يمتلكون الحد الأدنى من التكوين الموسيقي.
وكان للشيخ إمام عيسى، رائد الأغنية السياسية المصرية، دور كبير في نشأة وتطور الأغنية السياسية في تونس. وقد تجلى تأثيره بوضوح في المُنجز الفني لمختلف المجموعات الموسيقية الملتزمة في البلاد. كما ربطت إمام علاقات فنية وشخصية وطيدة بنشطاء الحركة الطلابية والسياسية اليسارية في تونس منذ بداية السبعينيات حتى وفاته في تسعينيات القرن الماضي.
في هذا السياق، أشار المرزوقي إلى أن شرائط الشيخ إمام المهرّبة بعيداً عن أعين الرقابة، في سبعينيات القرن الماضي، ألهبت قطاعات واسعة من الشباب التونسي المسيس، خاصة أن أغانيه كانت تعالج قضايا الفقراء والتسلط السياسي، وهي قضايا يعيشها هؤلاء الشباب في تونس.
صوت الذين لا صوت لهم
ساهمت الأغنية السياسية التونسية في كتابة تاريخ البلاد الموازي. بعيداً عن سردية النظام، تحدثت الأغاني السياسية في تونس عن المُهمشين وعن سكان الأقاصي وعن رغيف الخبز المفقود وعن أولئك الذين ساهموا في تحرير البلاد من المستعمر ثم دخلوا غياهب النسيان. كانت صوت الذين لا صوت لهم.
فرقة "البحث الموسيقي"مدفوعةً بخلفية إيديولوجية يسارية، صبت المجموعات الموسيقية ذات التوجه السياسي جل اهتمامها على قضايا الحيف الاجتماعي والكفاح العمالي والطلابي، في مواجهة الخيارات الاقتصادية للنظام والدولة، وقتذاك. كذلك غنت وأنشدت لما تسميه قضايا الالتزام الأممي والقومي. غنت للثورة الفلسطينية ولحركات التحرر في العالم.
وأشار نبراس شمام إلى ذلك بقوله: "منذ البداية كان انتماؤنا مطلقاً إلى مدرسة الشيخ إمام، سواء من حيث المواضيع أو من حيث الألحان. اهتممنا بكل المواضيع التي تهم الإنسان في كل أبعاده، آلامه أحلامه، نضالاته، مقاومته كل أشكال الاستغلال والظلم، أحلامه. غنينا لشعبنا أولاً وغنينا لفلسطين ولكل حركات التحرر في العالم، غنينا للحب بمعانيه الراقية، للوطن، للسجين، للطالب، للعامل، للألم، وبشّرنا دائماً بغد أجمل".
عالجت الكثير من أغاني الثمانينيات مشاكل الطلبة التونسيين الاجتماعية والسياسية. في أغنية "خوذ البسيسة" (طعام مكون من دقيق القمح والزيت والسكر، يتخذه الطلبة مؤونة في المساكن الجامعية)، رسمت فرقة البحث الموسيقي فنياً صورةً ما كان يعيشه الطالب الفقير.
وفي أغنية "ذوق المنفى"، رصدت مجموعة "عيون الكلام" عمليات التجنيد الإجباري التي كان النظام يقوم بها ضد نشطاء الحركة الطلابية لإبعادهم عن الجامعات وعن النشاط السياسي داخل أسوارها. وتتحدث الأغنية الحزينة، التي كتب كلماتها الشاعر الراحل بلقاسم اليعقوبي، عن مُحتشد "رجيم معتوق" العسكري، الكائن وسط الصحراء، والذي أُبعد إليه أبرز رموز الحركة الطلابية في الثمانينات ومنهم الزعيم اليساري الراحل شكري بلعيد.
مرحلة الأغنية السياسية في الثمانينيات هي "مرحلة النضج والوعي والابداع"، بحسب وصف المرزوقي الذي أشار إلى أنه في فترة الثمانينات "صارت المضامين أكثر وضوحاً متجاوزةً للبعد الاحتجاجي السطحي، لتكشف عن بدائل سياسية واجتماعية أكثر وضوحاً".
الخروج إلى العلن
بعد الثورة، تحررت الأغنية السياسية في تونس ونزعت عنها قيودها. خرجت من أسوار الجامعات ومن الحفلات النقابية الضيقة إلى المسارح العامة والمهرجانات الصيفية. غير أن هذا التحرر قد نزع عن هذه الأغنية شيئاً من قدسيتها، فلم تعد ذلك "الممنوع المرغوب" الذي يُستمع إليه خلسةً، وأصبحت في متناول الجميع.
لكن المرزوقي يُعيد الفتور الذي شهدته الأغنية الملتزمة إلى عقد التسعينيات ويقول إنه "بعد انعقاد مؤتمر الطلبة أواخر الثمانينيات، حدث تراخٍ وجزر في الحركة الطلابية مع خروج جيل المؤسسين من الجامعة وتزايد قمع السلطة الصاعدة للحركة الطلابية".
وأضاف أن تمدد التيار الإسلامي الصاعد الذي انخرط في الموجة الثورية بمجموعات فنية مثل "مجموعة عشاق الوطن"، ساهم في انعطاف مسيرة الأغنية السياسية نحو التسيس الحزبي فأصبحت سجينة شعارات حزبية ضيقة، وصار لكل حركة سياسية فرقة غنائية.
هكذا، ظهرت الجسر أو عشاق الأرض ثم الشراع. وانقسمت فرقة البحث الموسيقي بدورها إلى مجموعتين، عيون الكلام والبحث الموسيقي، والتزمت الأولى النخبوية والرمزية والثانية خطها الشعبي الجماهيري التقليدي. وظهرت فرق أولاد المناجم والكرامة وأجراس وبرز جمال قلة ورضا الشمك.
واعتبر المرزوقي أن "الأغنية الملتزمة انتهت بعد الثورة إلى الشعبوية واللهاث وراء الظهور أو الربح دون تقديم إضافة جديدة أو حتى مراجعة للتجربة وتقييمها وتعديل مسارها، وهذا ما يفسر ربما عزوف الناس عن سماعها خاصة جيل الشباب المتعطش إلى الحرية، وليرتمي في أحضان لون جديد للأغنية المتمردة هو الراب".
في المقابل، يرى نبراس شمام، قائد فرقة البحث الموسيقي، عكس ذلك. يقول إنه بعد الثورة "ازداد وهج وبريق أغانينا، لأننا كنا ممنوعين ومحاصرين طوال عقود، وكان الناس يخافون حضور عروضنا القليلة. أما الآن فإن الطلب على هذه الأغنية تضاعف. يكفي أننا قدمنا أكثر من 500 عرض في 2011 و2012 في مختلف المناطق، وكان الحضور بالآلاف، والجميع يردد أغانينا معنا، كباراً وصغاراً".
وأكّد أن الأغنية السياسية "ليست مرتبطة بفترة معينة أو بمكان معين. هي تعبّر عن آلام الناس وأحلامهم. هي صوت المهمشين والمضطهدين. لذا يبقى هذا الصوت دائماً مطلوباً على مر الأزمان حتى تتحقق العدالة الاجتماعية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون