عندما وصل العميد في الجيش التونسي، فتحي بيوض، إلى مطار أتاتورك في إسطنبول، قام ثلاثة عناصر ينتمون إلى تنظيم داعش بتفجير أنفسهم، ليسقط الرجل قتيلاً.
لم يكن العميد والطبيب العسكري بيوض قادماً إلى تركيا للسياحة أو للعمل. كان ينتظر زوجته القادمة من تونس هي الأخرى. وقد مكث قبلها بأشهر في تركيا محاولاً إرجاع نجله الذي انتمى إلى داعش في سوريا، برفقة صديقته. ولكن عندما اقترب الرجل من تحقيق هدفه، خطفه الموت على أيدي رفاق نجله الذين نفذوا تفجيراً في المطار. وفي النهاية عاد الولد وتوفي أبوه.
خشية من دفع ثمن باهظ
دفع الأب غالياً ثمن عودة ابنه من داعش، ويُخشى أن تدفع تونس أثماناً باهظة بعد عودة آلاف المقاتلين من شبابها من ساحات الحرب في سوريا وليبيا والعراق، خاصة بعد تقهقر تنظيم داعش في هذه الدول.
فقد كشف تقرير للجنة الأممية لمكافحة الإرهاب التابعة للأمم المتحدة عن أن داعش، وبعد خسائره الميدانية، أصبح يُشجّع أعضاءه من الأجانب على العودة إلى بلدانهم وتنفيذ هجمات إرهابية فيها.
وأوضح نائب الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس اللجنة، جون بول لابورد، أن المقاتلين الأجانب في صفوف داعش في سوريا والعراق "يمثلون حوالي 30 ألف شخص، يحاول عددٌ كبير منهم العودة إلى دولهم الأصلية، ليس في أوروبا وحدها، ولكن أيضاً في تونس والمغرب الأقصى".
السلطات المحلية تنفي وجود أعداد كبيرة من المقاتلين التونسيين في صفوف داعش. فقد قال وزير الداخلية التونسي، هادي مجدوب، في تصريحات صحافية "إن هناك مغالطات كبيرة في الإحصائيات المتداولة حول عدد التونسيين الذين التحقوا بالجماعات المتشددة مثل داعش والقاعدة"، مشيراً إلى أن الأرقام المقدمة حول وجود حوالي 5 آلاف تونسي يقاتلون في صفوف هذه التنظيمات غير صحيح ومبالغ فيها.
غير أن الإحصاءات والتقديرات التي نشرتها مراكز الأبحاث الدولية منذ اندلاع الصراع في سوريا وليبيا، تشير إلى أن الجنسية التونسية من بين الجنسيات الأكثر حضوراً هناك، وقد قدّر "فريق خبراء الأمم المتحدة حول استخدام المرتزقة" في يوليو 2015، وجود 4000 تونسي في سوريا، وما بين 1000 و1500 في ليبيا، و200 في العراق، و60 في مالي و50 في اليمن.
خطر الجهاديين العائدين من بؤر التوتر
تواجه الأجهزة الأمنية في تونس معضلة شحّ المعلومات حول هؤلاء العائدين، ومدى خطورتهم، ما يجعل بعضهم قادراً على العودة إلى البلاد دون التفطن إليه. كما أن وجود العشرات منهم في السجون سيفتح مجدداً ملف تأثير سجناء التيارات الجهادية على سجناء الحق العام واستقطابهم. ومعلوم أن المهاجع المكتظة في السجون التونسية ساهمت في تجنيد العشرات من الجهاديين خلال السنوات الماضية.
فمغني الراب الشاب "مروان الدويري" المعروف باسم "امينو"، مثلاً، خرج من السجن الذي دخله بسبب قضايا جنائية، ليعلن مبايعة تنظيم داعش بعد ثمانية أشهر فقط في سجن المرناقية سنة 2012، قبل أن يلتحق بمدينة الرقة معقل التنظيم وعاصمته في سوريا، حيثُ قام بتغيير اسمه من "إمينو" إلى "أبو أيمن". فالشاب الذي كان يعيش حياة اللهو والمخدرات تأثر داخل السجن بالأفكار الجهادية، وخرج منه عازماً على الالتحاق بصفوف داعش.
من جهة أخرى، أكّد الصحافي والباحث عبد الستار العايدي أن الخطر الأكبر في موضوع عودة المقاتلين من بؤر التوتر هو "إمكانية تسلل هؤلاء الجهاديين إلى داخل البلاد في شكل جماعات أو أفراد، بعيداً عن أعين الأمن، وما ينتج عن ذلك من عمليات إرهابية، خاصة أن هؤلاء الإرهابيين يكونون عادة قد تلقوا تدريبات قتالية واكتسبوا مهارات عالية في صناعة القنابل والمفخخات".
وأضاف العايدي لرصيف22: "مستوى الخطر يكون أكبر بالنسبة لهؤلاء بالذات، لأن لديهم حرية التنقل والتخطيط والتنفيذ، على خلاف الموجودين في السجن أو تحت الإقامة الجبرية ممن تفطن لهم الأمن ويملك عنهم البيانات والمعلومات الكافية".
ولفت إلى أن "فرضيات تسلل مثل هؤلاء الجهاديين في ظل تضييق الخناق على التنظيم الإرهابي في ليبيا، قائمة وبقوة، إمّا خلسة عبر الحدود البرية، رغم كل جهود الرقابة الأمنية والعسكرية، وإمّا باستعمال وثائق مزورة".
ونوّه إلى "ضرورة رفع مستوى الاستعداد الأمني، خاصة مع الضربات التي يتلقاها تنظيم داعش في معقله في مدينة سرت الليبية، وانحساره شرق ليبيا في بنغازي ودرنة".
كيف تواجه الدولة العائدين؟
بدأت وزارة الداخلية التونسية عملياً في اعتماد إجراءات للتعامل مع العائدين من بؤر التوتر، إذ كشفت الوزارة مطلع العام الحالي عن عودة 600 شاب كانوا يقاتلون في بؤر التوتر العربية المختلفة.
فيما أكد وزير الداخلية أن وزارته "ضبطت خطة خاصة للتعاطي مع الشباب العائد، وأن هؤلاء العائدين تحت السيطرة والمراقبة الأمنية، والمتورطين منهم في القتل والإجرام، هم في السجون".
لكن السلطات لم تنشر حتى الآن ملامح هذه الخطة أو أهم بنودها، ولا يبدو أنها ستنشرها لأنها "تتصل بالأمن القومي للبلاد"، وفقاً لتصريحات الوزير. لكن ملامح هذه الخطة بدأت تتكشف من خلال مصائر بعض العائدين.
وتعتمد الأجهزة الأمنية، حالياً، طريقتان لعقاب العائدين: الأولى، تستهدف المتورطين في أعمال قتل وقتال، فيتم وضعهم في السجن وفقاً لقانون مكافحة الإرهاب، والثانية هي وضع بعض العائدين تحت الإقامة الجبرية (الحبس المنزلي) وتستهدف غير المتورطين في أعمال قتالية أو جرائم أو الذين حاولوا الالتحاق بالجماعات الجهادية وفشلوا في ذلك.
وكانت قوات الأمن قد فرضت الإقامة الجبرية على 92 من الجهاديين العائدين من سوريا والعراق وليبيا، في أعقاب الهجوم الذي استهدف حافلة للأمن الرئاسي في نوفمبر الماضي.
تبدو النتائج في الأشهر الأخيرة مرضية على مستوى مكافحة الإرهاب مقارنة بالسنوات الماضية، وهو ما يدل، وفق العايدي، على "وجود نجاح أمني في مقاومة الظاهرة، ونجاح أيضاً في احتواء خطر العائدين من ساحات الجهاد حتى الآن وهذا الأهم". ومن هنا رأى أن الابقاء على وزير الداخلية الحالي وطاقمه الأمني، هو إجراء صائب، من قبل رئيس الحكومة الجديدة يوسف الشاهد.
هل يكفي الحل الأمني لمواجهة خطر العائدين؟
باستثناء الحل الأمني، لم تُقدّم الدولة حتى الآن أيّة حلول أخرى لمجابهة مخاطر عودة آلاف المقاتلين من ساحات الحرب. فمنذ الخريف الماضي، عندما بدأ تنظيم داعش يتعرض للهزائم في سوريا والعراق ومؤخراً في ليبيا، بدأ عدد العائدين في الارتفاع. ومستقبلاً لن تكفي إجراءات السجن والإقامة الجبرية لمجابهة هذه الموجة، خاصة أن الدولة تكافح منذ أربع سنوات جماعات جهادية ناشطة داخل البلاد.
وفي السياق نفسه، أكد العايدي أنّ "الدّولة تعتمد إلى الآن على الحل الأمني وحده"، مشيراً إلى أن "التعامل الأمني مع هذا الملف ضروري، ولكنه غير كافٍ ما لم تتبعه إجراءات أخرى، كالحوارات داخل السجون، والدفع نحو المراجعات في صفوف هذه الجماعات كما حدث في العديد من الدول العربية والإسلامية الأخرى".
ولفت إلى أن الموضوع يحتاج أيضاً الى التفكير في عدّة نقاط: طاقة استيعاب السجون، قدرة الدولة على فرض الإقامة الجبرية على آلاف الأشخاص، ثمّ مشكلة التأثير الفكري والاجتماعي لهؤلاء الجهاديين على محيطهم وأقاربهم.
ومن هنا رأى أن "الحل الأمني ضروري، ولكنّه حل للمدى القريب، قد يسكّن الدّاء، لكنه لا يقضي عليه، وعلى الدولة أن تتحرك بكل أجهزتها ووزاراتها: وزارة العدل، وزارة الثقافة ووزارة الشؤون الدينية وحتى وزارة التربية، فجانب كبير من المشكلة ثقافي وديني وتربوي واجتماعي ولا بدّ من معالجة الملف بشكل شامل".
وفي المقابل، يطرح البعض في تونس خيار سحب الجنسية من هؤلاء العائدين، وهو الاقتراح الذي تم تداوله في الآونة الأخيرة خاصة بعد إقرار فرنسا لقانون "سحب الجنسية من المُدانين بالإرهاب" في فبراير 2016، ولكن هذا الاقتراح يصطدم بالدستور التونسي، الذي يمنع في الفصل 25 منه "سحب الجنسيّة من أيّ مواطن أو تغريبه أو تسليمه أو منعه من العودة إلى الوطن"، كما يصطدم بالقانون الدولي الذي يمنع سحب الجنسية من غير مزدوجي الجنسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...