تزايدت في العقود الأخيرة أروقة الفن المعاصر في تونس لتدعم الأروقة التشكيلية القليلة التي أقامتها الدولة منذ فجر الاستقلال.
وبحسب ما ذهب إليه بعض مؤرخي الفن، فإن أول الصالونات أقيم في فترة الاستعمار الفرنسي حتى قبل إنشاء ما يعرف بـ"مدرسة تونس" سنة 1947. وكان الرسام بيار بوشارل مؤسس هذه المدرسة، قد منح منذ البداية مناخاً لحرية الإبداع من خلال مقولته الشهيرة: "كلنا أحرار لكننا متحدون بلا تفرقة بسبب معتقد أو توجه سياسي".
التعليم للجميع والعرض للعاصمة
فضلاً عن الفنانين العصاميين، كان لافتتاح أول مركز لتعليم الفنون سنة 1923 التأثير الفعال والإيجابي في تخريج أجيال متلاحقة من الرسامين والنحاتين والمدرّسين. كان هذا المركز النواة الأولى للمعهد العالي للفنون الجميلة في تونس، وقد توزعت سلسلة من معاهد تدريس الرسم والنحت والمنسوجات وفنون اللهب في سائر المدن الداخلية الكبرى، مثل سوسة وصفاقس ونابل وقفصة وغيرها.
وبرغم انتشار مدارس الفن في أنحاء جهات البلاد وأقاليمها، فإن الناظر إلى خارطة توزيع مراسم الفنانين وأروقة العرض يلاحظ أنها تكاد تتركز كلياً في العاصمة وأحوازها.
الناقد التشكيلي والأكاديمي التونسي محمد بن حمودة، الذي يقيم ويدرس الفن في مدينة صفاقس ثاني أكبر مدينة تونسية، على صعيدعدد السكان، يقول معللاً الظاهرة: "في مدينة صفاقس، قاعة واحدة للعروض التشكيلية، وأسباب ذلك عديدة، منها أولاً المركزية، لأن التصوير بدأ شأناً من شؤون الدولة وحملته دولة الاستعمار في حقيبتها. وهناك غياب شبه تام لرعاية الفن، مثل جامعي اللوحات وأصحاب الغاليرهات القادرين على تعهد المواهب، إضافة إلى ندرة النقد الذي يشرح دور الفن".
ولمجابهة هذا المأزق ارتأى المعهد العالي للفنون في صفاقس أن يكون له قاعة عرض خاصة تم افتتاحها سنة 1996، بمعرض للفنان الفرنسي جيرار موسكيني، ثم واظبت على إقامة المعارض سنوياً كان آخرها عرضاً لأعمال التشكيليين كمال الكشو وسامي بن عامر وخليل قويعة، إلى جانب أعمال لبعض الطلبة والأساتذة .
من خلال قراءة سريعة، يبدو أن المدن التونسية تشهد انحساراً شبه كلي لغاليرهات الفن، لتتكدس هذه الغاليرهات في المركز أي العاصمة، بينما بقية المدن فارغة. فعملياً تنتشر الأروقة في جسد المدينة وفق تقسيم طبقي بما أن قاعات العرض قائمة في الأحياء الراقية فحسب إلا ما ندر منها.
مقالات أخرى
إبداع المصممين العرب على الموعد في أسبوع دبي للتصميم
معرض شادي النشوقاتي: خطة فنان معاصر لغزو الأرض
أقيم أول صالون تونسي سنة 1894 في مقر جمعية الشغيلة المالطية، في محاولة جادة لجلب أكبر عدد من الرسامين والمعماريين من الجالية الأوروبية في تونس، سعياً لصياغة تخطيط مديني للعاصمة على أطراف المدينة العربية العتيقة. وانضم إلى هذه النخبة من الجالية، بعد الحرب العالمية الثانية، تشكيليون تونسيون من سنة 1947 يطلق عليهم جماعة "الرسامون العشرة"، وهم الآباء المؤسسون للفن التشكيلي، نذكر منهم عمار فرحات وجلال بن عبد الله وعبد العزيز القرجي وإدغار النقاش وعلي بلاغة. وحول هذه الأسماء المؤسسة تجمعت النواة الأولى لأهم الغاليرهات، ومثلت عناصر تحفيز للأجيال التي تلتها من التشكيليين.
في البداية نهضت الغاليرهات العمومية، التي أنشأتها الدولة بدور هام في تقديم بضع تجارب تشكيلية للجمهور، ويمكن هنا ذكر رواق الفنون بالبلفدير وقاعة الأخبار وقصر خير الدين، ورواق يحي، بالإضافة إلى الفضاءات الملحقة بمراكز التكوين، مثل مركز الخزف سيدي قاسم الجليزي، ودار الثقافة ابن خلدون، ودار الثقافة ابن رشيق، والنادي الثقافي الطاهر الحداد، ودار سيباستيان في المركز الثقافي الدولي في الحمامات.
أما في التسعينيات من القرن الماضي، فقد بدأ يتكثف حضور الأروقة الخاصة بالتعريف بالبحوث العصرية في ميدان الفنون البصرية وتسويقها، ومن أهمها رواق الشريف فاين آرت في سيدي بوسعيد، ورواق صديقة كسكاس في قمرت، ورواق بشيرة آرت في سبالة بن عمار، ورواق عين في صلامبو ورواق المدينة العتيقة.
غاليرهات تونس تتوسع عربياً وأوروبياً
بعد ثورة 14 يناير، تشهد العاصمة انطلاقة جديدة لصنف متطور من الغاليرهات التي لا تكتفي بتسويق الأعمال التشكيلية في تونس، فحسب بل فتحت فروعاً لها في أوروبا والمشرق العربي، ويأتي في صدارة هذه الأروقة رواق سلمى فرياني في سيدي بوسعيد المتخصص في الفن البصري المعاصر والتنصيبات والفيديو كما تقوم بإصدار كتب تحلل مشاريع الفنانين الذين أنهوا إقامتهم في الفضاء.
وقد أصدر رواق سلمى فرياني كتباً مثل "ساحل الإمارات" و"بيروت ثكلى"، حول تجربة التشكيلي التونسي زياد عنتر، وكتابي "طيران الفراشة" لنيسان القسنطيني و"الأعمال الكاملة" لآمال بنيس. كما حاولت بعض الغاليرهات تنظيم جلسات نقاش ومطارحات فكرية حول الفن المعاصر، للتقريب بين الفنانين وأصحاب الأروقة وجميع مهن التسويق والترويج.
أما رواق المرسى وبعض الأروقة الأخرى، فقد اتخذ المشرفون عليها طريقة رقمية لتسويق الأعمال الفنية عبر الانترنت، بالتوازي مع المعارض. وفي مجال الفوتوغرافيا، افتتحت في مطلع هذه السنة دار الصورة، وهي مجمع متكامل لإقامة الفنانين وتنظيم العروض والورشات وفضاء للمكتبة، وقاعة تحتضن من حين إلى آخر مزاداً علنياً لبيع اللوحات المخصصة لدعم بعض المهرجانات التشكيلية التي تشكو نقصاً في الدعم المالي.
وظهرت على الساحة الفنية حديثاً (عام 2011) "مؤسسة إبراز" التي بدت فاعلة في المشهد الفني المعاصر من خلال تنظيم معارض تشكيلية وأخرى لفن الفيديو. وقد كان لمؤسسة إبراز حضور مميز في بينالي اسطنبول ومعرض دبي وعدة تظاهرات أخرى كبرى في باريس ولندن. وساهمت "إبراز" خلال هذه السنة في إنجاح فعاليات الدورة الثالثة لتظاهرة "جو- تونس" 2015 التي تنظمها مؤسّسة كمال الأزعر. وزيادة على المعارض تشرف "إبراز" على إنجاز ندوات فكرية وتسهم في تفعيل حلقات النقد التشكيلي.
وقد انتظمت في تونس أخيراً محاولات لبعث تظاهرات دولية تشكيلية كبرى، مثل بينالي تونس للفن العربي المعاصر، والملتقى الدولي للنحت على الحجارة الرخامية، فإن بعض المراكز الثقافية الأجنبية مثل المركز الإيطالي دانتي اليجيري، والمركز الثقافي الألماني غوتة، والمركز الثقافي الإسباني سرفانتس، تتكفل كلياً بمصاريف استدعاء تجارب فنية مرموقة سجلت نجاحاً عالمياً.
بعد ثورة 2011 فُتح مجال واسع لتعدد الهياكل التي ترعى المعارض السنوية، وتحضن منتجات الفنانين وتروجها. وأضيفت إلى اتحاد الفنانين التشكيليين مؤسستان: نقابة مهن التشكيليين، ورابطة التشكيليين. باب التعدد هذا لا يحجب مشكلة تطرح خلافات لا تنتهي، تتعلق بما يسمى "لجنة الشراءات"، وهي هيكل حكومي تابع لوزارة الثقافة يضم لجنة تتابع المعارض وتقتني أعمال الفنانين وتوفر مواد المعاش والاستمرار والإنتاج. وكثيراً ما ترتفع احتجاجات لفنانين كسدت أعمالهم ولم تحصل على الدعم المالي العمومي.
الخلافات لا تقف هنا، بل تتعداها لملاحظات أخرى تشمل السؤال عن مصير مقتنيات لجنة الشراءات، إذ تخصص لها مستودعات ضخمة مغلقة لا يراها الجمهور، ولا يستمتع بها المتلقي، ولا يستفاد منها المتخصصون والنقاد التشكيليون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...