استخدمت عبارة "الحيطست" للمرّة الأولى خلال الثمانينيات في الجزائر، لتوصيف الشباب العاطلين عن العمل الذين يمضون كامل يومهم يسندون ظهورهم إلى حيطان الأحياء، ويراقبون المارّة. وصارت الكلمة مرادفًا للشباب المقيمين في الأحياء الشعبيّة على أطراف المدن، حيث ترتفع نسبة الفقر والبطالة.
تعود الكلمة إلى التداول من جديد في دراسة نشرتها مجلّة "عمران" للعلوم الاجتماعية، وهي دورية محكّمة، تصدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات". تضمّن العدد الجديد من المجلّة محورًا حول "أزمة المدينة العربيّة"، وفيه دراسة بعنوان "سوسيولوجيا المعاناة من خلال المعيش اليومي لشباب الأحياء الشعبيّة، شباب أحياء مدينة صفاقس مثالاً".
أعدّ الدراسة الباحث التونسي في علم الاجتماع فؤاد غربالي، استنادًا إلى بحث ميداني في حيّ العقاربة، أحد أحياء صفاقس، لإبراز تجربة التهميش والاقصاء الاجتماعي وكيف يطوّر الشباب المعنيّون بها، سبلًا لمقاومتها، لـ"الاستمرار بالعيش"، والدخول إلى مجتمع الاستهلاك الحضري.
ضيق وحنق
ويكتب غربالي في زاوية بعنوان "النحن والهُم: المسافة والهوية الملتبسة للمتساكنين" أنّ "شباب حيّ العقاربة يعيشون تجربتهم لا كتعارض مع العالم الخارجي، بل كمسافة إزاءه، حتى ولو كان يراودهم الشعور بأنّ مساراتهم الحياتيّة ووضعياتهم تختلف بعضها عن بعض، وأنّهم يعيشون تناقضاتهم الخاصّة، إلا أنّهم يلتقون عند المسافة إزاء الآخرين، أي "برجوازيي المدينة"، والطبقات الوسطى". وبحسب غربالي، "تعتبر هذه المسافة سواء في مستواها الرمزي أو المجالي، أول أبعاد تجربة العيش على الهامش؛ فبالنسبة اليهم، يكمن التعارض بين وضعيات عيشهم ووجودهم الاجتماعي وبين ما يفترضون أنّها معايير "العيش الحقيقي" في عالم المدينة (...) مثل الترفيه، وتحقيق الذات عبر الاستهلاك". ويقول وحيد (27 سنة، عاطل عن العمل)، أحد المشاركين في الدراسة: "هذا الحيّ جزء من المأساة التي أعيشها. لا شيء فيه يعجب، أنظر إلى التلوّث، إلى الفقر، إلى البطالة... الدولة نسيتنا، ولا أحد يتذكرنا. عندما تذهب إلى أحياء أخرى بالمدينة تشعر بالفرق. الناس هناك يعيشون حياتهم، هنا أشعر بالموت، ولا أستطيع أن أعيش حياتي مثل الذين هم في عمري". هكذا، يحلم شباب الأحياء الشعبيّة "بحياة مثل الآخرين، ولكن ليس لديهم الدعامات الماديّة والرمزيّة لتحقيق ذلك، وتغدو مشاريعهم الشخصيّة أمرًا غير يقيني، ما يثير لديهم إحساسًا كبيراً بالفجوة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، إلى جانب إحساس دائم بالضيق والحنق". يقول زهير (26 سنة)، أحد المشاركين في الدراسة: "أشعر بأنّي إنسان حقير لا قيمة لوجودي ما دمت عاطلًا عن العمل، وآخذ مصروف الجيب من أمّي التي تعمل في مجال جمع البلاستيك من الشارع".إخصاء اجتماعي
توضح الدراسة أنّ المعاناة الاجتماعيّة ترتبط بصورة متآكلة عن الذات، وتستبطن الخصاصة والهشاشة الاجتماعيّة بوصفهما قصورًا ذاتيًّا وعلامة على الفشل الاجتماعي إلى الحد الذي يشعر فيه البعض في ظلّ البطالة، بـ"الخصي الاجتماعي". ويتزايد هذا الاحساس خاصة عندما يشعر هؤلاء الشباب، بأنّهم موضع شكّ دائم عند الآخرين، خصوصًا عند البوليس. في هذا السياق، يشير فؤاد غربالي إلى إعادة تشكّل الروابط داخل الحيّ الشعبي، وفق ما يسميّه بـ"القبائل الحضريّة الجديدة"، أو "مجموعات إنتماء شعوريّة" ويندرج ضمنها "الحيطست"، أو المتجهون نحو الجماعات السلفيّة، إلى جانب المجموعات التي تعبّر عن نفسها عبر الراب والغرافيتي. ويكتب: "تمثّل المجموعات الحيطيّة ملجأً لعبض العاطين عن العمل الذين يعانون من الوحدة وتحلّل الروابط الاجتماعيّة مع الجيران والأقارب، ليكون الانتماء إلى مجموعة الرفاق نتيجة خاجات فرديّة تتعلّق بالبحث عن الانتماء ونيل الاعتراف". ويضيف: "الشارع بالنسبة لهؤلاء الشبان مكان عبور وهروب، حيث يستطيعون ممارسة نوع من السلطة على أنفسهم وعلى محيطهم".العنف المجاني
وتشير الدراسة إلى أنّ امتلاك العاطلين عن العمل للفضاء العام "يتمظهر عادةً في سلوكيّات عنفيّة وانحرافات صغيرة، غالبًا ما تتجّه ضدّ الفضاء العمومي ذاته، عبر تعمّد قلع الأشجار المغروسة على جانب الطريق، وتكسير اللوحات الاعلانيّة، والعبث بكراسي محطّات النقل العام (...). نكون بذلك أمام نوع من "العنف المجاني" (...) الذي يهدف الشباب من خلاله إلى ترك "إمضاءاتهم" على الفضاء العام، في ما يشبه الرغبة بلفت الانتباه، وتأكيد الحضور بشكل رمزي". يقول علي (18 سنة) أحد المشاركين في الدراسة: "ليس لنا إلا الشارع والاتكاء على الحيطان. نجتمع هنا في مدخل الحيّ كلّ مساء لنقتل الوقت قبل أن يقتلنا، أحيانًا يجرّنا الملل إلى فعل أشياء سيّئة كأن نكتب على الحيطان أيّ شيء وأن نكسر زجاج الحافلات وأن نستهلك الحبوب التي تباع هنا بكثرة. إنّها أشياء خاطئة، ولكن الجميع يحتقرنا، وينظر إلينا باشمئزاز كبير. لهذا يجد الكثير من أبناء الحومة (الحيّ) أنفسهم في حالة نقمة على وضعهم البائس وعلى المجتمع، وعلى الدولة". ويخلص غربالي إلى أنّ "مستقبل الديمقراطيّة في تونس يبدو شديد الارتباط بمدى إدماج الأحياء الشعبيّة في النسيج الحضري، عبر سياسة ترتكز على قيمة "العدالة الاجتماعيّة"، والتقليص من الفجوات بين الفئات الاجتماعيّة".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...