كيف ودّعنا زياد الرحباني ونحن نُفتّش في أرشيفنا العاطفي؟

كيف ودّعنا زياد الرحباني ونحن نُفتّش في أرشيفنا العاطفي؟

مدونة نحن والتنوّع

الاثنين 28 يوليو 20254 دقائق للقراءة

نعدّ خساراتنا في هذا البلد واحدةً تلو الأخرى، ونشهد عليها بمرارة. رحيل زياد الرحباني ليس مجرّد خسارة، بل نكبة تُضاف إلى سجل نكبات هذا البلد.

لم يكن زياد حاضراً في السنوات الأخيرة، لكنه لم يكن غائباً أيضاً. كان وجوده طمأنينةً، حلماً نتمسّك به، وتواطؤاً هادئاً على واقع نعرفه جيداً. كان الشخص الذي يمنح كثيرين إحساساً بأنّ هناك من يمكن الوثوق به، فهو لم يخذلنا حين شرح لنا واقع لبنان، حاضره ومستقبله، بلا تنظير أو تعقيد، بل بسخرية ممتنعة لا تقول كل شيء، لكنها توصل كل شيء.

نحن اليائسين في لبنان من واقع هذا البلد ومستقبله، لم نكن نحتاج إلى خسارة إضافية. خسارة زياد الرحباني، هي من الخسارات التي لا تُعوّض. وزياد لا يُعوّض…

"صار لي 20 سنة عم إمزح… بس عن جدّ!"؛ هكذا لخّص زياد فنّه وحقيقته. هكذا لخّص لنا واقعاً مريراً عاشه أهلنا ونحن معاً، ولطالما ردّدنا: "كبيرة المزحة هاي".

نحن اليائسين في لبنان من واقع هذا البلد ومستقبله، لم نكن نحتاج إلى خسارة إضافية. خسارة زياد هي من الخسارات التي لا تُعوّض. زياد لا يُعوّض.

وحكاية زياد ليست مجرد أسطورة لجيل أو جيلين، بل حالة لا تموت وإن رحل. فقد كان ولا يزال وسيبقى طريقةً لفهم لبنان كما هو.

فهناك لبنان المغلّف الذي يرويه الصحافيون والكتّاب والمؤرّخون، وهناك لبنان الرحابنة، الكذبة الحُلم، وهناك لبنان زياد، لبنان المرير الحلو. 

وقد لخّص لنا زياد ذلك بجملة جوهرية في مسرحيته "بالنسبة لبكرا شو؟": "بقولوا بكرا حلو… بس اليوم؟ اليوم شو؟". وهكذا، نحن مستمرّون على درب أهلنا في انتظار بكرا "الحلو".

هنا قوّة زياد: كلماته، تحليله، وصفه… لم يتغير طوال هذه السنوات، كأنّه وضع لنا قاموساً للعيش في لبنان وفهمه. بلا تنميق، وبلا تزييف، ودون ترقيع، وبكثير من الواقعية المؤلمة، أتى ليقول لنا: اصحوا من لبنان الرحابنة، من لبنان الحُلم. هذا هو لبنان… لبنان كما هو: بجماله وبشاعته، بضعفه وقوّته، بحقيقته العارية، وبفلسفة السهل الممتنع.

في مقابلة نادرة قال: "أنا ما عم بهزّ نسيج المجتمع… عم فرجيه على مرايته". وهذا تماماً ما فعله طوال حياته. كفاكم وهماً. هو صفع تاريخ عائلته وصفعنا معها، لكنه أراد أن ينير لنا الطريق، وهو الطريق الذي ما زلنا ننتظر أن نرى نوره في آخر النفق.

فزياد لطالما شكّل حجراً أساسياً في وعي كل شابّ وصبية ي/ تريد الانطلاق في عالم التمرّد والثورة والسياسة أو حتى مجرد العبث مع الحياة.

كان للجميع، يفهمه الجميع ولا يفهمه أحد، ولكن لا يمكن للفكرة إلا أن تصل. صنع لغةً متاحةً للجميع. قدّمها بلغة البسطاء إلى النخبة، فصنع جمهوراً شاملاً من النخبة والعامة معاً. ومثل موسيقاه التي لم يحتكرها، ولم يمنعها عن أحد، حتى حين كتب ولحّن لفيروز، بقي حاضراً مع الجميع.

أعطى زياد من فكره، من نغمته، ومن كلمته، دون تصنيفات، ولا تعالٍ. كسَر الأرستقراطية الفنية، وفجّر معنا فنّاً حقيقياً تخطّى الشكل التقليدي.

زياد الرحباني، ابن فيروز الأيقونة، ابن عاصي الرحباني، ليس أزمةً تمرّ، ولا حالة قابلة للنسيان. هو حالة استثنائية ترحل الآن.

عند سماعي خبر وفاة زياد، كان أول شعور راودني هو القلق، والخوف. كأنّ شيئاً عزيزاً يُسحب منّا. أردت أن أتمسّك بإرثه أكثر، أن أسمع موسيقاه، أن أستمع إلى أغانيه كلها،الجميلة والعادية، أن أحضر مسرحياته كلها، وأن أدعو الكثير من الأصدقاء. كأنني خفت أن يُخبّئه معه في مدفنه، ولو أنه لطالما شاركه معنا بسخاء.

أتذكّر حين أخبرتني والدتي أنها بكت بحرقة حين توفّي عبد الحليم حافظ، حتى أنها أقفلت الباب على نفسها لأيام. استغربت حينها... اليوم، فهمت شعورها. لم أعلم أنّ غياب أيقونة فنية، شخصية عامة، سيُبكيني كما يُبكي فقدان شخص عزيز

نحزن عليه جماعياً، باختلافاتنا وتناقضاتنا. زياد كان يشبهنا… ولا يشبهنا. كان قريباً… وبعيداً. نبكيه جميعنا: من غرق في فنّه، ومن لم يعرفه يوماً، من صادقه، ومن تمنّى أن يصادقه، من التقاه، ومن اكتفى بصوته وكتاباته.

وهنا، لا يمكنني إلا أن أتذكّر حين أخبرتني والدتي أنها بكت بحرقة حين توفّي عبد الحليم حافظ، حتى أنها أقفلت الباب على نفسها لأيام. استغربت حينها... اليوم، فهمت شعورها. لم أعلم أنّ غياب أيقونة فنية، شخصية عامة، سيُبكيني كما يُبكي فقدان شخص عزيز.

هذه المرّة، لحنّا له نحن هدوءه الأبدي… لا هدوءه النسبي. أدقّ وصف لهذه الخسارة، أرسله لي صديق عزيز، قائلاً: "انطوى بوفاة زياد فصل آخر من تاريخ بيروت". 

أما أنا، فأقول: هذا الفصل انكسارٌ لا نقوى عليه في زمن الخسارات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image