يحظى مغنّو الراب في تونس بشهرة كبيرة، إذ يُعدون من أبرز المساهمين والفاعلين في ثورة 14 يناير 2011، التي مثلت شرارة لموجة ثورات "الربيع العربي".
وهناك عدد كبير منهم تعرض للاعتقال والسجن، وحتى الضرب بسبب كلمات أغانيهم الجريئة. ولعل أغنية "رايس البلاد" لحمادة بن عمر الملقب بـ"الجنرال"، تلخص الكثير من شجاعة هؤلاء المغنين، الذين نشأوا على حافة المجتمع داخل الأحياء والضواحي المهمشة. عبارات "الجنرال" كانت صريحة ومباشرة، إذ وجّه صوته للرئيس السابق بن علي قائلاً "انزل إلى الشارع وشاهد بنفسك كيف أصبح الناس وحوشاً"، كناية عن مدى تفشي الفقر والجوع بين الناس.الراب مطارداً قبل الثورات وبعدها
رغم عنف هذه الاندفاعات الطوعية وغير المحسوبة، لم يتغير الكثير بعد فرار بن علي، عقب أيام على الانتفاضة التونسية، إذ أدركت شرائح واسعة من المجتمع التونسي أن الواقع المرير والشائك لا تغيره المسيرات الحاشدة ولا الأغاني الحماسية الصادقة.
في زمن حكم الترويكا عقب الانتخابات التشريعية، تعرض المغني علاء اليعقوبي الشهير باسم "ولد الكانز"، للمحاكمة وسجن عقاباً له على أغنية "البوليسية كلاب"، مشيراً بصريح العبارة إلى عنف بن علي الذي أورثه للشرطة.
من هنا أدرك مغنو الراب مثلهم مثل ناشطي المجتمع المدني أن معركة التعبير الحر لم تنته بعد، بل انطلقت مع مطلع عام 2011. وتبعاً لذلك تزايد عدد مغني الراب، مستغلين الهامش المتاح منذ اهتزّ النظام الاستبدادي.
"حشيش" وحرية
لا يعود توقيف هؤلاء المغنين إلى جسارتهم في التعبير فقط، بل كذلك إلى تمسك معظمهم بإلغاء قوانين تجريم استهلاك المخدرات. ولو تأملنا ملياً لوجدنا أن عبارة "ولد الكانز" نفسها، مشتقة من اسم أقراص مخدرة يستهلكها بعض المراهقين. ويمكن ملاحظة تكرار الإشارات إلى التحشيش والهلوسة في أغاني الراب.
ويبدو مغنو الراب في تونس أوفياء للمواضيع نفسها، ومنطلقات المؤسسين الكبار الأوائل لفن الراب المتفرع عن موسيقى الهيب هوب. وقد طعموا هذا الفن الاحتجاجي الغربي بخلاصة الراب العربي، مثلما فعل المغني الجزائري لطفي دوبل كانون.
نشر مجاني على الانترنت
يعلن مغنو الراب في نصوصهم بلا حرج روح الغليان الاجتماعي، وهشاشة وضعهم، فهم دوماً يبحثون عن شيء يخلصهم من قساوة عيشهم، لذلك يقول المغني أحمد بن أحمد الملقب بـ Klay BBJ: الحرية في بلادي "تهز للدبو"، أي مركز الحجز والبحث والاستنطاق.
أما محمد القيطوني GuiTo'N، فيرى أن لا بديل لمغني الراب، من أن يقول الحقيقة كاملة بلا لف أو دوران، فيقول:
"نحكي هكا خاطرني على الأمة غاير..
سامحوني ما نجمش نسكت على إلي صاير..
عارف كلامي يوجع.. عارف كلامي قاسي..
هذا واقعنا ماجبتش شيء من راسي..
نتحمل مسؤوليتي كيف نحكي هكا".
ولدى جل المغنين وعي تام بفنهم التعبيري وإصرار على سرد يومياتهم لجمهورهم. حتى إذا لم تبرمج حفلاتهم في المهرجانات، يسجلون كليباتهم وينشرونها على الانترنت بشكل مجاني. وقد نال المغنون شهرة واسعة مستغلين شبكات التواصل الاجتماعي، والخدمات التفاعلية الرقمية. وللمثال بلغ عدد مشاهدي أغنية "حوماني" لمحمد أمين حمزاوي وكافون 22 مليوناً في وقت وجيز بعد إطلاقها.
شرط مغني الراب أن يقوم بتأليف كلمات أغنياته ويحرص على طريقة أداء وحركات معينة، أو أن يرتجل كلماته من وحي اللحظة مستنجداً بمهاراته وحضور بديهيته. ويسمى هذا النوع "الفري ستايل" Freestyle. كما يحرص المغني على توفير التقفية أو الريتم المطلوب Multiple Syllable Rhymes بحثاً عن الانسجام بين الجمل المنطوقة.
صوت نسوي جديد
فن الراب مزعج على الدوام، ولعل أبرز دليل على ذلك الاحتجاج الذي أثاره نهاية هذه السنة، مغني الراب علي قزقز المعروف باسم G.G.A لدى أهالي معتمدية تالة، الذين اتهموه بأنه تهجم عليهم بعبارات منافية للأخلاق. وحيال ما أثارته الأغنية من نعرات مناطقية، فضل المغني مغادرة تونس إلى المغرب الأقصى، تفادياً لوقوفه أمام المحاكم بعد أن قدمت ضده شكاوى.
وقد خفتت بضعة أصوات في السنوات الأخيرة، بسبب مشاركة بعضهم في حملات انتخابية لبعض الأحزاب السياسية، أو بسبب تقربهم من رموز سياسية. مثل المغني محمد القيتوني المعروف بـGuiTo'N، الذي شارك في حفل اختتام الحملة الانتخابية لمرشح حركة نداء تونس للانتخابات الرئاسية. أما كافون فقد ظهر في صورة مع الرئيس الباجي قائد السبسي، وتعرض لموجة نقد لاذع من بعض زملائه.
ولم يسلم من لعنة الدعاية السياسية المغني الساخر بيرم الكيلاني، الذي غنى في تجمع شعبي لفائدة حمة الهمامي، بينما عبر "الجنرال" في أغنية له عن دعم الرئيس السابق المنصف المرزوقي. أما المغني محمد الجندوبي "بسيكو ام"، فقد تراجعت شعبيته بعدما أصبح مناصراً مفضوحاً لحزب حركة النهضة الإسلامي.
في ظل انتكاسة وتهاوي أصوات من فن الراب، الذي يغلب عليه العنصر الذكوري، ظهر أخيراً على شبكة الانترنت، فيديو كليب لأول فنانة راب تونسية من كلمات، ألحان وأداء بثينة ميدوزاBoutheina Medusa .
وأشادت المغنية بحرية التعبير، محذرةً من تفشي آفات الجهل والفقر والتفرقة بين فئات المجتمع التونسي. صوت نسوي لم تتضح معالمه بعد، لكنه نفس جديد قد يكون فاتحة أخرى مغايرة لمسار الراب الذكوري المتعثر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...