منذ أسبوع لم تذهب الصيادة مادلين كلاب البحر للصيد في غزة، ليس خوفاً، إنما لأن ما يخرجه الصيد في هذه الأوقات غير مجد، ولا يسدّ حاجتها وحاجة أسرتها التي تعيلها من خلال امتهانها الصيد منذ صغرها.
ولكن مادلين لا تستطيع أن تبتعد عن البحر الذي ألفته منذ كانت في السادسة من العمر، حين بدأ والدها الصيّاد يصطحبها معه، حتى أصبح يعتمد عليها في إعالة الأسرة بعد مرضه. فهي تُسَيّر برفقة شقيقها، كايد، قارب سياحي صغيراً لنقل العائلات أو الطلاب خلال رحلاتهم، وذلك في أوقات شحّ السمك.مقالات أخرى:
مخيم الشاطئ في غزة: "علبة سردين" يعشقها أهلها
التلوث البحري يضرب سواحل جدة، ويهدد ثروته السمكية
تقول مادلين ذات البشرة السمراء، والتي تضع على رأسها طاقية بيضاء، تتقي بها أشعة الشمس: "أعمل هنا يوميًا من الساعة 7 صباحاً إلى الـ7 مساءً في نقل الناس عبر البحر". مادلين، 21 عامًا، هي الصيادة الوحيدة في قطاع غزة، ولا تختلف معاناتها عن معاناة الصيادين الآخرين، فهي تنزل إلى البحر بقاربها "الحسكة" الصغير، وتصطاد في ساعات الفجر برغم أخطار البحر ومطاردة الزوارق الإسرائيلية للصيادين.
يعرض الصياد أبو محمد وزملاؤه مجموعة أسماك، هي عبارة عن 10 بوكسة (صندوق بلاستيكي). تحتوي البوكسة على 5 كيلوغرامات من السمك. بصعوبة يفتح أبو محمد عينيه ليحدثنا، فهو للتو خرج من البحر بعد رحلة صيد استمرت 24 ساعة، يقول: "أنتظر الدلاّل"، وهو الشخص الذي يضع أسعار السمك، بما يشبه افتتاحاً للبورصة. نادى أبو محمد زميله طالباً منه أن "يضع ثلجاً على الأسماك حتى لا تفسدها أشعة الشمس، ريثما يأتي الدلاًل ويقيّم أسعارها"، ليتسنى له بيعها.
"السمك شحيح، كما رأيت"، يقول زميله الصياد مجدي الهسي، ويضيف: "بعد يوم قضيناه في البحر، لم نتمكن من إخراج سوى هذه الكمية من الأسماك، فغير مسموح لنا الصيد إلا على مسافة خمسة أميال"، ثم ينتفض "يقول الإسرائيليون في الإعلام إن البحر مفتوح لنا 6 أميال، هذا غير صحيح. عندما نصل إلى 5 أميال يطاردوننا". ويشير أبو محمد إلى أنه و4 من أصدقائه، في أحسن الأحوال لو باعوا كل كمية السمك، لن يحصلوا إلا على القليل من المال وربما لن يعودوا إلى أسرهم بمصروف يومهم.
يعتاش نحو 3700 صياد من مهنة الصيد في غزة. علماً أن عدد العاملين في المهن المرتبطة بالصيد كصناعة القوارب وصيانتها، وتجهيز الشباك، وصناعة الثلج لحفظ الأسماك، وتنظيف الأسماك وبيعها، يبلغ عددهم نحو 2000، ويعيل هؤلاء نحو 40.000 نسمة من السكان الفلسطينيين في قطاع غزة، بحسب تقرير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، وعضو نقابة الصيادين مفلح أبو رياله. يؤكد أبو رياله أن "وضع الصيادين بائس، والعراقيل الإسرائيلية تزيد من معاناتهم، وتحاربهم في مصدر رزقهم، كما أن مساحة الصيد التي تفرضها إسرائيل غير كافية للحصول على أسماك وافرة. ويقول: "نحاول كنقابة أن نساعدهم في بعض التنسيق مع المؤسسات الداعمة لتعويض خسارتهم أو تدمير واحتجاز قواربهم".
ويشير إلى أن "البوارج الإسرائيلية قتلت نحو 10 صيادين خلال الأعوام الأخيرة، ودمرت عدداً كبيراً من قواربهم، واعتقلت عدداً منهم، فإسرائيل تحارب غزة اقتصادياً وتريد أن تحرم هؤلاء الصيادين من العمل، وتشل حركتهم، وتصادر مصدر رزقهم".
ومعلوم أن مهنة صيد الأسماك قديمة في قطاع غزة، وقد شهدت عصراً ذهبياً في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، إذ كانت مساحة الصيد تصل إلى 180 كم من شاطئ بحر غزة إلى بحيرة البردويل جنوباً بالقرب من مدينة العريش، وأحياناً كان الصيادون يصلون إلى منطقة بورسعيد المصرية، وقد وصلت كمية السمك المصطاد في تلك الفترة إلى 60 طناً يومياً.
انخفاض الإنتاج
تشير البيانات إلى انخفاض كمية الإنتاج السمكي خلال السنوات الخمس الأخيرة، بسبب استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على الصيادين، بحسب إحصاءات الإدارة العامة للثروة السمكية في وزارة الزراعة. فكمية إنتاج السمك وصلت إلى أعلى معدل لها عام 2008 (3100 طن سنوياً)، في حين سجّلت أدنى معدل عام 2011، إذ وصل إلى 500 طن بحسب تقرير "الاعتداءات على الصيادين في قطاع غزة"، الصادر عن المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان.
وهو ما أكده المهندس جهاد صلاح من الإدارة العامة للثروة السمكية، في وزارة الزراعة، بقوله إن "كمية إنتاج السمك تتوقف على مساحة الصيد المتاحة"، مشيراً إلى أن "مساحة الصيد كانت 20 ميلاً من مطلع التسعينيات إلى أواخر عام 2000، ثم تناقصت حتى 10 إلى 12 ميلاً بحرياً، وفي عام 2006 وصلت إلى 3 أميال، واستمرت سنوات الحصار، حتى تم رفعها بعد العدوان الأخير بحسب اتفاق القاهرة إلى 6 أميال".
ويلفت صلاح إلى أنه "وفق النظم المعمول فيها، كل فرد في المجتمع يتطلب استهلاك من 10-11 كيلوغراماً من الأسماك سنوياً، لذلك يحتاج السوق المحلي في غزة إلى ما بين 15-17 ألف طن من السمك، ويشمل ذلك الأسماك المجمدة التي يتم استيرادها". ويضيف: "هذا الرقم مستحيل أن يتوفر في غزة، فما يجري اصطياده في أفضل الأحوال هو 3100 طن، و300 طن سنوياً من الاستزراع السمكي، بالإضافة إلى استيراد نحو 3700 طن من إسرائيل والدول الأوروبية من الأسماك المجمدة، وهي في أحسن أحوالها لن تصل إلى 7000 طن سنوياً، وقد تقل بحسب حالة البحر والعراقيل الإسرائيلية وإغلاق المعابر".
أما عن تصدير السمك إلى الخارج، فيرى صلاح أن "السمك لا يكفي لسد حاجة السوق المحلي في قطاع غزة، إلا أنه يُصَدّر إلى الضفة الغربية وإسرائيل بكميات محدودة جداً تصل إلى نحو نصف طن أسبوعياً، من الأنواع ذات السعر المرتفع ومحدودة الاستهلاك محلياً مثل: سمك الجمبري، واللوكس، وسكمبلا".
وعن مساهمة الثروة السمكية في الاقتصاد المحلي الفلسطيني، يقول صلاح إن "نسبة المساهمة محدودة جداً؛ بسبب صغر حجم قطاع الصيد والمساحة القليلة للصيد، تصل من 2.5 إلى 3%، وقد تزيد وفقاً لزيادة مساحة الصيد المسموح بها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...