تفككت المصانع وسُرقت المصارف وهُرّبت رؤوس الأموال إلى الخارج. لم يبقَ من الاقتصاد السوري المشرف على شفا الانهيار سوى خدمات عامة ورواتب لموظفين تدفعها الحكومة السورية بمعية قروض إيران ودعم روسيا، وبقية انتاج زراعي يؤمن دخلاً محدوداً لمزارعين أغلبهم في شمال سوريا وجنوبها وفتات منثور من المساعدات. بعد تشوّه مؤسسات الدولة، بدأت تنمو شبكات تجارية ومالية جديدة ونشاطات اقتصادية غير مشروعة شكّلت بذلك اقتصاداً سورياً جديداً.
يُسمّى هذا الاقتصاد عادة بالاقتصاد غير الرسمي أو الخفي لأنه خارج عن أي قوانين وتشريعات، وعن أية رقابة ومحاسبة ويتهرب من الاستحقاقات المترتّبة عليه تجاه الدولة. في أيام السلم، تسعى الحكومات إلى تنظيمه وإدماجه في الاقتصاد الرسمي. أما في أيام الحرب، فتمارسه مختلف أطراف النزاع وبمعزل عن مدنيين شرعوا في الموت فقراً، فيصبح اسمه اقتصاد الجريمة. هي أطراف سعت بكامل حيلتها لاستغلال بقية موارد اقتصادية وطوّعتها لمصلحتها وأنتجت بواسطتها ثروات جمّة، هذا إذا ما تجاهلنا رواتب محاربين (الراتب قرابة 500$ شهرياً) تضخّها أيدٍ خليجية خفية في مناطق المعارضة وتساهم في إذكاء نار الصراع.
قبل بداية الأزمة، كان الاقتصاد الخفي يشكّل حوالي 45% من حجم الاقتصاد السوري. وبات اليوم يشكل أكثر من 60% بحسب تصريح معاون وزير الاقتصاد السوري لجريدة "الوطن". تتعدد أشكال اقتصاد العنف هذا بين النهب والاتجار بالسلاح والبشر والتهريب وتخريب الآثار واستغلال المساعدات الإنسانية. من أوجه الاقتصاد الخفي أيضاً نشاطات اقتصادية كانت موجود قبل الأزمة السورية وراحت تنمو وتتكاثر تدريجياً وتحلّ محلّ مؤسسات الدولة. من روّادها تجار يستغلّون نقص المواد الغذائية مثلاً لبيعها بأسعار مرتفعة. ومنهم أيضا عاطلون عن العمل بحثوا عن بدائل للعيش عبر قيادة التاكسي أو ممارسة الأعمال الحرّة أو فرش البسطات.
يرى عضو جمعية الاقتصاديين الكُرد- سوريا جوان حمو، أن الاقتصاد الخفي هو إحدى المشكلات الكبيرة التي تنعكس سلباً على الاقتصاد السوري حيث يلد تشوهات اقتصادية كبيرة في أرقام معادلة الناتج القومي من ناحية، ومن ناحية أخرى يؤدي إلى استنزاف الموارد المالية لدى المواطن. في رأيه ينقسم اللاعبون الأساسيون في اقتصاد الظل في سوريا إلى فئتين: تجار الحروب ومنهم تجار الأسلحة والمخدرات والمولدات الكهربائية والأدوية وهؤلاء يحققون أقصى ربح ممكن بأقل تكلفة ممكنة. أما الفئة الثانية، فهي تجار الجملة ومنهم تجار الخبز والدقيق وشواحن الضوء الكهربائية، وتجار شركات النقل مثالاً.
تراجع الاقتصاد المنظّم
يؤكد زكي محشي، وهو باحث في المركز السوري لبحوث السياسات في دمشق، أن الزراعة والخدمات العامة التي تقدّمها الحكومة السورية، بما فيها أيضاً رواتب موظفيها، هي ما يمنع الاقتصاد السوري من الانهيار. لكن الحكومة ما عادت ترتكز على الإيرادات لزيادة استهلاكها، بل على القروض بما فيها الخارجية. أدى ذلك إلى نمو الدين العام ليصل إلى 126% من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية عام 2013، بحسب محشي. كذلك، يبقى القطاع الزراعي ورغم تراجع الإنتاج سنداً انتاجياً للاقتصاد. أما عن المساعدات الإنسانية، فيرى محشي أن ما تقدمه إلى الناتج المحلي الإجمالي لا يزال هامشياً. ففي ظلّ الاحتياجات الضخمة التي ترافقت مع ازدياد أعداد النازحين والفقراء، فإن هذه المساعدات المحلية والدولية غير كافية.
كان المركز السوري لبحوث السياسات قد أصدر أخيراً دراسة بيّن فيها ما تعرّض له الاقتصاد السوري من انكماش اقتصادي كبير أدى إلى ازدياد أعداد الفقراء والعاطلين عن العمل وعمّق الحرمان الاقتصادي. كانت أكبر الخسارات في القطاع الصناعي الذي تعرض لتدمير ممنهج. فجميع المنشآت الصناعية في عدرا العمالية ودير الزور مثلاً تدمّرت بالكامل وأكثر من 90% من المنشآت الصناعية في الشيخ نجار في حلب أغلقت في نهاية 2013. هكذا، خسر أيضاً أكثر من 11 مليون شخص دخلهم الأساسي في نهاية عام 2013 وبات 74% من السكان يعيشون في دائرة الفقر.
أشكال انتشار الاقتصاد الخفي
يؤكد الباحث في المركز السوري لبحوث السياسات بأن النخبة الاقتصادية التي أنتجتها الأزمة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقوى التسلط المسيطرة في ساحة النزاع. يشير محشي إلى عملية استيراد الحكومة للمواد الغذائية مثل القمح عبر وسطاء يعملون لمصلحتها ويحققون الأرباح الكبيرة عبر رسوم يتقاضونها على طول الطريق. تتحايل الحكومة بذلك على العقوبات الاقتصادية المفروضة مستعينة بأقرباء يحققون هوامش الربح على حساب المستهلك الذي يتحمّل وزر الأسعار المرتفعة لمواد أساسية لا يمكن تجاهلها مثل السكر والأرز. لكن ذلك ليس بظرف طارىء، فمنذ زمن بعيد كان النظام أيضاً يعتمد على الشركات والأسماء الوهمية وعلى أجهزة أمنية ومخابراتية وعلاقات شخصية لتمرير صفقات خاصة تحقق له الأرباح الكبيرة، يؤكد الدكتور في الاقتصاد من جامعة حلب، مسلم طلاس.
في الجهة المقابلة أيضاً، ثمة نخب اقتصادية جديدة نشأت تحت راية المعارضة وامتهنت الاتجار بالسلاح والمخدرات والنفط والبشر كذلك. لكن التغير السريع لمجريات النزاع يؤدي إلى تبدل الوجوه المسيطرة على الموارد، يضيف محشي، والمثال على ذلك، آبار النفط في دير الزور التي تبدلت القوى المسيطرة عليها مراراً لتتقاسمها حالياً قبائل عربية وجبهتا النصرة وداعش. وقد أنشأت عمليات بيع النفط في تركيا مثلاً سوقاً جديدة تحقق أرباحاً خيالية لهؤلاء.
التهريب
لا سيما في المناطق المحاذية لتركيا والعراق والتي تقع تحت سيطرة المعارضة أو تحت سيطرة الإدارة الذاتية الكردية. أدى غياب الدولة عن هذه المناطق معززاً بفشل المعارضة الذريع في خلق البديل المؤسساتي إلى مأسسة العنف بديلاً، وإلى تعزيز النشاطات الاقتصادية اللاشرعية.
تعتبر ميديا، خريحة اقتصاد من القامشلي، أن تهريب السلع والمواد كالدخان والسلاح والكحول والحشيش وحتى الآثار لطالما وفّر دخلاً أساسياً لسكان الحسكة في هذه الأزمة. تقول ميديا "كثيراً ما سمعنا عن فقير اغتنى على غفلة منا وكان التهريب كنزه المخفي"، وتضيف أنه مع تشديد معايير الرقابة من قبل حراس الحدود الأتراك، ومع النفق المحفور بين العراق وسوريا أخيراً وإغلاق معبر سيمالكا، باتت عملية التهريب أكثر صعوبة. وفقاً لميديا، فإن الميليشيات الكردية في المنطقة الكردية تفرض رسوماً على المواطنين وتنهب الممتلكات فضلاً عن حصتها من انتاج النفط. كذلك، فقد عادت صناعات تقليدية إلى الواجهة مثل تجديد بوابير الغاز بحسب قولها.
يؤكد الدكتور في الاقتصاد من جامعة حلب، مسلم طلاس، أنه مع توقف الانتاج الرسمي للنفط، نشطت شبكات التهريب والاحتكار وأنشطة الاكتفاء الذاتي. ربما كان أكبرها أنشطة تهريب ونقل النفط الخام وتكريره في مصافٍ صغيرة محلياً، وهي المهنة الأكثر رواجاً حالياً في شمال سوريا تحديداً. عمليات التهريب والاحتكار هذه في رأي طلاس أغنت فئة من الناس بشكل مفاجئ وأعادت التموضع الطبقي.
تجار الحروب وتجار الجملة
بينما يسعى السوريون للبحث عن لقمة العيش، تتنامى نشاطات تجارية صغيرة تؤمن البضائع والخدمات دون أي احترام لمعايير الحماية الاجتماعية. تأتي على حساب المواطن المسكين الذي عليه أن يكون مرناً هو أيضاً ويقلل من مصاريفه ويقلّص من لقمة عيشه حتى يستمرّ في الحياة.
لم يعد ثمة اقتصاد حقيقي في سوريا ومنها المنطقة ذات الأغلبية الكردية حيث تنتشر مافيا منظمة من تجار الحروب وتجار الجملة يوفرون المواد للمواطن بأسعار مرتفعة ودون أية رقابة، يقول الخبير الاقتصادي خورشيد عليكا وعضو جميعة الاقتصاديين الكرد. عدا رواتب الموظفين التي لا تزال تدفعها الدولة إجمالاً في مناطق وجودها كما في القامشلي والحسكة، لم يبق من الاقتصاد سوى حفنة من المهربين وبقية انتاج زراعي.
بالنسبة لعليكا، فإن الإنتاج الزراعي من القمح والقطن والزيتون وبرغم نسبة التراجع التي ألمت به، هو ما يبقي المنطقة على قيد الاكتفاء الذاتي.
في دمشق أيضاً، ثمة شبكة من التجار والمستغلين الذين يتلاعبون بمواد أساسية، منها الخبز، ليبيعوها بأسعار مرتفعة في السوق السوداء.
يقول عمر، صحافي من دمشق، إنها لم تعد سوقاً سوداء، بل غدت سوقاً في وضح النهار. "إنك قد تجد الآن فتياناً من الأرياف ينتشرون على طريق المزة بالقرب من الأفران الاحتياطية ليبيعوا الخبز للسيارات العابرة بأسعار فلكية، ولا رقابة على ذلك على الرغم من قرب الفرن من حاجز جامع الأكرم المتاخم لأوتستراد المزة". هو ما ينطبق أيضاً على سائقي التاكسي الذين لا يلتزمون بالتعريفات المالية التي وضعتها وزارة المواصلات ولن يلتزموا لأنها لا تنصفهم، يضيف عمر. "كذلك الأمر بالنسبة لمشتقات الكونسروة والغذائيات والخضر. فقط في الأماكن العشوائية مثل الدويلعة ونهرعيشة، يمكنك أن تجد أسعاراً مقبولة للخضر لأن الناس هناك مسحوقون بينما تجد أسعارها في جرمانا أضعافاً مضعفة"، يتابع عمر. هي أسعار لا تفرق بين مهجر ولا ساكن ولا فقير ولا عابر سبيل، ومواد قد تفتقد الجودة ومنها أيضاً المنتهي الصلاحية والفاسد. من أشكال الاقتصاد الخفي أيضاً، انتشار البسطات التى احتلّت أحياء دمشق لتشمل مختلف المواد حتى المفقودة منها، يؤكد عمر.
السرقات
يذكر جهاد يازجي المحلل الاقتصادي ومدير نشرة Syria Report في دراسة أجراها حول اقتصاد الحرب في سوريا، ايرادات السرقات التي تتعرض لها أية منطقة تتغيّر فيها سيطرة القوى.
في حمص، يحكي يازجي عن سوق يسمّى سوق السنّة، سرقت سلعه من مقتنيات البيوت في أحياء ذات أغلبية سنية في المدينة ذاتها وكانت تحت سيطرة جماعات معارضة. يضيف يازجي أن النشاط الاقتصادي الرسمي في مناطق سيطرة المعارضة (30 إلى 40% من سوريا) يكاد يكون معدوماً، إذ توقفت فيه خدمات الحكومة بشكل كبير. وقد سمح ذلك بنمو اقتصاد العنف القائم على التهريب والخطف ونهب أصول المصارف والمصانع ومخازن القمح.
تشير الدراسة إلى سرقة مئات المصانع في حلب وقد بيعت قطعاً في مناطق سورية أخرى وفي جنوب تركيا وأيضاً مليارات الدولارات التي سرقت من المصرف المركزي في الرقّة على أيدي جبهة النصرة في مارس 2013.
رسوم جديدة
فرضت الحواجز التي أقامتها جماعات مسلحة رسوماً على السيارات العابرة في المناطق الشمالية. تذكر دراسة يازجي مثالاً عن حوالي 34 حاجزاً، على طول 45 كلم من الحدود بين حلب والحدود التركية تتقاضى مثل هذه الرسوم.
وصلت هذه الرسوم إلى حدود 1000$ لكل شاحنة عبرت باب السلامة في أغسطس 2013 ودخلت جيوب محاربي لواء عاصفة الشمال، وفقاً للدراسة المذكورة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...