يقبع في سجون الاحتلال آلافُ الأسرى الفلسطينيين المحرومين من حريتهم، ورغم سعيّ سلطات الاحتلال لإخماد رغبة التحرر داخلَ الأسرى عبر إصدار أحكامٍ عالية بحقهم، إلا أن ذلك لم يمنع الأسرى من تأهيل أنفسهم داخل الأسر، لخلق مستقبل أفضل لهم عند تحررهم منه، كيف لا والمئات منهم تمكنوا من تقديم امتحان الثانوية العامة داخلَ السجن. الأسيرة نورهان عواد، 19 سنة، من مخيم قلنديا الواقع شمال مدينة القدس المحتلة، اعتقلت عام 2015 بعد إطلاق النار عليها من قبل جنود الاحتلال بدعوى محاولتها تنفيذَ عملية فدائية، ورغم أنها لم تكن قد بلغت حينها 16 سنة، كانت طالبة بالصف الحادي عشر، إلا أنها حكمت بعد عام، بالسجن مدة 13سنة ونصف، ودفع قرابة 8 آلافِ دولار غرامة. رغم ذلك تقدمتْ لامتحان الثانوية العامة داخلَ الأسر عام 2017 ونجحت فيه. تقول أم محمد، والدة الأسيرة لرصيف22: "أبلغتني ابنتي رغبتها في التقدم لامتحان الثانوية العامة في السجن، وطلبت مني أن استفسرَ لها عن المطلوب لتحقيق ذلك من الجهات المسؤولة عن شؤون الأسرى، ثم تقدمت للامتحان وأُبلغت بنجاحها من المحامية التي أكدت لي اعتماد نورهان على دراستها الذاتية، وعلى دعم رفيقاتها في الأسر". إصرار الأسرى على ألّا يكون السجن مُعيقاً لهم ولمستقبلهم، لا يقتصر على تقديمهم الثانوية العامة خلال الأسر، بل يمتد إلى الحصول على الشهادات العليا، كحالة مدير عام مركز أبوجهاد لشؤون الحركة الأسيرة في جامعة القدس/ أبوديس، الأسير المُحرر الدكتور فهد أبوالحاج، 57 سنة، من قرية كوبر قضاء رام الله في الضفة الغربية، حدثنا عن الأسباب التي دفعته لتقديم الثانوية العامة في الأسر، نهايةَ سبعينيات القرن الماضي. قال "درست حتى الصف الخامس، غير أنني لم أعرف القراءة والكتابة، لعدم وجود بيئة مواتية للرعاية، خاصة مع انتمائي لعائلة تعتمد على الزراعة، ويوماً طلبت مني سيدة عجوز أن أقرأ لها رسالة وصلتها من ابنها في أمريكا، فعجزتُ وادعيت أن خطَّ الرسالة غيرُ واضح، وحين خرجت من عندها بكيت كالأم الفاقدة ابنها". تابع "بعد انضمامي عام 1974 لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) بأربع سنوات، اعتُقلتُ بتهمة الانتماء لخلية عسكرية، وحكم عليَّ بالسجن مدة 15 سنةً. وبينما نحن في سجن بئر السبع، أعطى شاويش السجن مسؤولَ الغرفة أوراقاً لنكتب رسائل إلى أهلنا خارج السجن، فأخبرتهم أني لا أعرف القراءة والكتابة، فكتبوها عوضاً عني". الأمر الذي أثّر بالأسير المحرر حسب قوله "عندها قررت الدراسة في السجن، أُخضِعتُ على يد أسيرين يحملان شهاداتٍ عليا لبرنامجٍ أكاديمي مكثف مدة 3 سنوات، ثم بدأت أكتب في المجلة التنظيمية، حتى تقديمي امتحان الثانوية العامة في السجن، وكأنني انتُشِلتُ عندها من قاع بئر". أضافَ "بعد خروجي من الأسر عام 1985 وقدوم السلطة الوطنية الفلسطينية أرضَ الوطن عام 1994، عُينت مديراً للارتباط المدني لمحافظة أريحا، وبعد 3 أعوام انتقلت للعمل في جامعة القدس/ أبوديس، وأسست فيها مركز أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة، حينها تابعت دراساتي العليا، وحصلت عام 1999 على الدبلوم العالي في الدراسات الإسرائيلية، ثم نلت بالمراسلة من جامعة العالم الأمريكية درجتي البكالوريوس والماجستير بالعلاقات الدولية، ثم الدكتوراه من جامعة لاهاي بالعلوم السياسية". ممن قدموا امتحان الثانوية العامة في الأسر، أحمد شديد، 42 سنة، من بلدة دورا في الخليل، الضفة الغربية، يعمل في إحدى مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية، يقول لرصيف22 "اعتقلت على يد قوات الاحتلال عام 1994، كنت حينها في المرحلة الثانوية، حكم علي بالسجن 7 سنوات، وبعد حوالي أربع سنوات قدمت امتحان الثانوية العامة، معتمداً على مجهودي الفردي". مضيفاً "بعد خروجي من السجن أكملت دراساتي العليا، وحصلت على درجة البكالوريوس في التاريخ من جامعة الخليل عام 2006، ونلت بنفس الفترة درجة الدبلوم بالتعليم المستمر في اللغة العبرية، تلتها مرحلة الماجستير من جامعة القدس/ ابوديس، وحالياً أقدم لنيل درجة الدكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية في مصر". الباحث في شؤون الأسرى، مدير هيئة شؤون الأسرى والمحررين في محافظة بيت لحم في الضفة الغربية منقذ أبوعطوان قال "بعد انتفاضة الأقصى عام 2000، كانت الامتحانات تقدم بنفس مواعيدها خارج الأسر، وبذات الأسئلة، وبوجود مراقبين من وزارة التربية والتعليم، لكن سلطات الاحتلال منعت استقبال المعلمين والمراقبين من خارج السجون، تحت حجج وذرائعَ واهية من بينها أن المراقب يُدخل ويُهرّب أجهزة اتصال أو مواد ممنوعة للأسرى الفلسطينين، عندها توقف تقديم امتحان الثانوية العامة بشكل نهائي". منعُ إدارة السجون طواقمَ وزارة التربية والتعليم من العمل بشكل مباشر مع الأسرى، دفع هيئةَ شؤون الأسرى والمحررين ووزارة التربية والتعليم العالي للبحث عن بدائلَ لمواجهة القرار الإسرائيلي، لما فيه صالح الأسرى في سجون الاحتلال. يقول عنها مدير عام الامتحانات والقياس والتقويم في وزارة التربية والتعليم العالي الدكتور محمد عواد "قررنا بالتعاون مع الهيئة إيجاد آلية جديدة ضمن بروتوكول محدد لمواجهة هذا القرار التعسفي الذي يحرم الأسرى من تقديم الثانوية العامة". يتابع "تم التوقيع على مذكرة تفاهم فيما بيننا بالخصوص، تنصّ على التوافق على تشكيل لجان تدريسية في كافة السجون، بالتنسيق مع الإدارة العامة للقياس والتقويم والامتحانات، تتكون من عدد محدد من الأعضاء، بناءً على حجم السجن، حاملين شهاداتٍ جامعية في تخصصات مختلفة، وتكون مهمتها الإشراف على صياغة أسئلة الامتحان، بالتنسيق معنا، ومتابعة تنفيذ الامتحان والمراقبة عليه، ثم تصحيحها وتدقيقها، وإخراج النتائج داخل السجون، لتقوم لجنة الامتحانات العامة بمناقشتها ". مدير هيئة شؤون الأسرى والمحررين في بيت لحم يقول لرصيف22 إن "اتفاق الهيئة مع وزارة التربية والتعليم على تفاهمات لا تتعارض مع ما تريده إدارة السجون وما سبقه من اتفاق من قبل ممثلي السجون من الأسرى واللجان المختلفة داخل السجون مع إدارة السجون نفسها، على أن يُقدّمَ امتحان الثانوية العامة دون إشراف أو رقابة من الخارج، نتج عنه إعادة فتح الباب للطلبة في السجون من أجل تقديم امتحان الثانوية العامة اعتبارا من عام 2014". منذ ذلك الحين تعقد وزارة التربية والتعليم العالي وهيئة شؤون الأسرى والمحررين مطلعَ كل عام اتفاقيةً مشتركة تُحدَّدُ فيها الشروط والمعايير وآلية العمل، ووفق الآلية المتفق عليها لإجراءات امتحان شهادة الدراسة الثانوية العامة لعام 2018، التي اطلع عليها رصيف 22، راعت الظروفَ الاستثنائية الخاصة التي يعيشها الأسرى، مع نصها على شروط محددة يجب أن تتحقق في المتقدم حفاظاً على سمعة وقوة الامتحان. بعد انتهاء فترة التسجيل المطلوبة في الأسر، تقوم اللجنة المشتركة بين وزارة التربية والتعليم العالي وهيئة شؤون الأسرى والمحررين، بفحص ودراسة ملفاتهم ليتم بعدها اعتماد قوائم الأسرى التي تنطبق عليهم شروط التقدم للامتحان. وتنص الشروط على كلَّ أسير أنهى الصف الرابع الأساسي بنجاح وعمره عشرون عاماً فأكثر وأتم خمسَ سنوات متواصلة في السجن على أن يكون حكمه مؤبد، أو خمسة وعشرين عاماً فأكثر، وكلَّ أسير أنهى الصف الخامس بنجاح وعمره عشرون عاماً فأكثر وأتم خمسَ سنوات متواصلة فأكثر على أن يكون حكمه عشرين عاماً فأكثر، وكلَّ أسير أنهى الصف السادس أو السابع أو الثامن بنجاح وعمره عشرون عاماً فأكثر وأتم ثلاثَ سنوات مواصلة أو أربع مقطعة فأكثر، وكلَّ أسير أنهى الصف التاسع أو العاشر بنجاح وعمره تسعةَ عشرَ عاماً وأتم عاماً كاملاً متواصلاً أو أكثر في السجن، وكلَّ أسير أنهى الصفَّ الحادي عشر أو الثاني عشر أو ما زال على مقعد الدراسة يحقُّ له التقدم بصرف النظر عن العمر أو مدة الاعتقال. ثم تعمّمُ اللجنةُ المكلفة من هيئة شؤون الأسرى والمحررين قوائمَ الأسرى الذين يحق لهم التقدم للامتحان عن كافة السجون، قبل أسبوعين على الأقل من تاريخ عقد الامتحان، ثم يتم التقدم لامتحان الثانوية العامة للفرع الأدبي فقط بإشراف اللجان العلمية المعتمدة في كافة السجون طوال شهر تموز فقط، وترفع النتائج وعلامات الأسرى حتى أول شهر أيلول. ولأجل إقرار النتائج يقول مدير عام الامتحانات والقياس والتقويم في وزارة التربية والتعليم العالي "تُأخذ بالاعتبار عدةُ عوامل أو معايير منها، أن تنطبق عليهم شروطُ الاتفاقية كـ (آخر مؤهل علمي للأسير قبل السجن، الأقدمية، وفترة الاعتقال، ومدة الحكم، والعمر..الخ) يتم بعدها إقرار النتيجة والمصادقة عليها". وبحسب وزارة التربية والتعليم العالي، تقدم لامتحان الثانوية العامة عام 2016 في كافة السجون 1026 أسيراً وأسيرة، نجح منهم 706 أسرى وأسيرات، وكانت نسبة النجاح 68.6%، فيما ارتفعت نسبة النجاح عام 2017 إلى 69.70% حيث تقدَّم لامتحان الثانوية العامة في كافة السجون 837 أسيراً وأسيرة، نجح منهم 583، لكن النسبة عادت وانخفضت العام الجاري حتى وصلت إلى 65.85% إذ تقدَّمَ لامتحان الثانوية العامة في كافة السجون 858 أسيراً وأسيرة، نجح منهم 565. منقذ أبوعطوان يعتبر أن تذبذب أعداد المتقدمين لامتحان الثانوية كل عام مرتبطٌ بعدة عوامل منها أنه "وبعد اعتماد الأسرى الذين تنطبق عليهم شروط التقدم، تلجأ إدارة السجون أحيانا قبل بدء الامتحانات إلى نقل الأسرى إلى سجون أخرى، تكون قد أنهت تقدم الامتحان، ما ينعكس على أعداد الناجحين". يتابع "بكل حال فإن الأعداد الإجمالية للناجحين بالثانوية للأسرى منذ عام 2014 لغاية الآن، تتراوح ما بين 2000 و2500 أسيرٍ وأسيرة، أما إذا ضممنا لهم أعداد من قدموا امتحان الثانوية العامة من تاريخ الحركة الأسيرة بدايةَ الثمانينيات فربما نتحدث عن إضافة حوالي 2000 أسيرٍ وأسيرة، علماً أن من بين المتقدمين للثانوية العامة كل عام من تتجاوز أعمارهم الـ50 سنة، أو محكومين بأحكام عالية". من هنا، يرى مدير عام الامتحانات والقياس والتقويم في وزارة التربية والتعليم العالي محمد عواد أن الآلية الجديدة منحت الفرصة لكل من حرموا الحرية أن يتقدموا ويتعلموا، بل وأن يكملوا دراساتهم العليا بعد خروجهم من الأسر. فهناك مئات الطلاب الذين التحقوا بالجامعات وتقدموا لامتحان الثانوية العامة في سجون الاحتلال، وبعد تخرجهم حصلوا على مقعد وظيفي، ومنهم من حصل على مؤهل من داخل السجن لأن نظام التعليم يسمح لهم بالتنسيق مع القدس المفتوحة أن يدرسوا وهم داخل السجن (بالانتساب). يضيف "امتحان الثانوية العامة بالنسبة للأسرى ولنا يُعد إنجازاً فلسطينياً، لأن سلاحنا ومقاومتنا ينطلقان من التعليم، بذلك فإن الثانوية العامة بطاقةُ عبور وجواز سفر ثانٍ لكل طالب فلسطيني حصل على هذه الشهادة ذات القيمة المعنوية والوطنية والاجتماعية والثقافية، والمرتبطة بالوظيفة وتحقيق المستقبل بعد ما منع الاحتلال الأسيرَ من حريته".
سعيُّ سلطات الاحتلال لإخماد رغبة التحرر داخلَ الأسرى، لم يمنع الأسرى من تأهيل أنفسهم، والدليل أن المئات منهم تمكنوا من تقديم امتحان الثانوية العامة داخلَ السجن.
"أعطى شاويش السجن مسؤولَ الغرفة أوراقاً لنكتب رسائل إلى أهلنا خارج السجن، فأخبرتهم أني لا أعرف القراءة والكتابة، فكتبوها عوضاً عني، الأمر الذي أثر بي ودفعني للدراسة حتى نلت الشهادة الثانوية في الأسر" حكاية أسير في سجون الاحتلال
"درست حتى الصف الخامس، غير أنني لم أعرف القراءة والكتابة لعدم وجود بيئة مواتية للرعاية، ويوماً طلبت مني سيدة عجوز أن أقرأ لها رسالة وصلتها من ابنها في أمريكا، فعجزتُ وادعيت أن خطَّ الرسالة غيرُ واضح، وحين خرجت من عندها بكيت كالأم الفاقدة ابنها".
"امتحان الثانوية العامة بالنسبة للأسرى ولنا يُعد إنجازاً فلسطينياً، لأن سلاحنا ومقاومتنا ينطلقان من التعليم، بذلك فإن الثانوية العامة بطاقةُ عبور وجواز سفر ثانٍ لكل طالب فلسطيني حصل على هذه الشهادة بعد ما منع الاحتلال الأسيرَ من حريته".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...