الوضع المأساوي الذي يعيشه الفلسطينيون جرّاء سياسة الاحتلال الاستيطانيّة السالبة للحقوق والأرض أمرٌ واقع مهما حاول كيان الاحتلال طَمسه، لكن هل تخيّلنا أن بعض الإسرائيليين يشعرون بالذنب من وجودهم في مستوطنات؟ هذا ما يجيب عنه أحدث الأفلام الوثائقية للمخرجة الإسرائيلية اليسارية أيرس زكي، بعنوان Unsettling، الذي صدم الجمهور عندما عُرض مؤخراً في الدورة الـ 12 لمهرجان الفيلم الإسرائيلي البديل بنيويورك، لكشفه الجوانب "غير النمطية" لحياة الكثير من المستوطنين في مستوطنة "تقوع" بالضفة الغربية.
قصة الفيلم
الفيلم الذي بدأت فكرته مطلع الـ 2016، ورأى النور في مايو 2018، عُرض لأول مرة في مهرجان القدس السينمائي، يبدأ بصوت في الخلفية لرجلٍ غاضبٍ يقول "نعيش حيث قُتِل الكثيرون..سالت الدماء على هذه الأرصفة.. وأنتم تعادون إسرائيل والمستوطنين" ويستطرد الرجل دون أن يظهر وجهه " لن أسمح بإهانة أصدقائي – المستوطنين- عبر اليوتيوب بتشويه المكان الذي نعيش به أمام الكاميرات، ولن أتحدّث إلى تلك المرأة". ربما تُظهر تلك الكلمات الضغوط والمعارضة التي واجهت زكي، المعروف عنها معارضتُها للاحتلال والاستيطان، خاصّة مع حملات تشويه إلكترونية مسبقة لما كانت تنوي إنتاجه، ضغوط كثيرة تعرّضت لها حتى تتخلّى عن تصوير فيلمها حول "العيش في المستوطنات"، لكن في النهاية وبعد شهرين عاشتهما في مستوطنة “تقوع"، وضعت المخرجة طاولةً، وغطتها بقطعةِ قماشٍ بيضاء، ووضعت كرسيين وثلاث كاميرات بجوارها، وسعت للحصول على قصص إنسانية "مميّزة" للمستوطنين هناك. انتظرت المخرجة طويلاً حتى شرع بعض المستوطنين في التوافد إليها تدريجياً ووافقوا على التحدّث، عن علاقتهم المعقدة بالمكان وتأثير اختيار العيش هناك على حياتهم. ابتعد الفيلم عن النماذج النمطيّة للمستوطنين الإسرائيليين الكارهين للعرب والقادة السياسيين الذين يحشدون مواطنين لاختراق القوانين والاستيلاء على ما ليس من حقّهم لأجل إسرائيل الكبرى– وإن كان الفيلم لا ينكر بالطبع وجود العديد من هذه النماذج- لكنه ركّز على نوع آخر من المستوطنين الذين “ اضطرّوا" للعيش في المستوطنات لأسباب مغايرة للتطرّف السياسي المعتاد."الكيبوتز" بين الهاجس الإنساني والعنف الاستيطاني
بالرغم من وضوح موقف زكي اليساري في الفيلم المعادي للاستيطان وكيان الاحتلال، إذ استخدمت مفردات مثل الاحتلال والتمييز العنصري في حديثها مع المستوطنين، إلا أنها حرصت على الحياد التام في ترك الأشخاص يروون قصصهم، واختارت من بينها "الأكثر إثارة للاهتمام” حسب ما تقوله في حوار مع صحيفة هآرتس الإسرائيلية. كشفت المناقشات المباشرة والشخصيّة للغاية داخل الفيلم عن جانب أقلّ شيوعاً عند المستوطنين، فأكّد أحد المستوطنين أنه "يساري" وذهب للمستوطنة “فقط" لأجل زوجته المتديّنة التي انضمّت لإحدى الجماعات الدينية-Hilltop Youth- التي استقرّت بالمستوطنة، ولفت إلى أنه "لن يتردّد في المغادرة من أجل السلام". امرأة أخرى أوضحت أنها ذهبت للمستوطنة بسبب نفس الحركة الدينيّة في المراهقة، ولرغبتها في الاستمتاع بـ" الجاذبية الرومانسية للنوم في الخيام"، معلنةً التخلّي عن الأمر فور إدراكها "المعاناة الفلسطينية" جرّاء الاستقرار هناك، فيما أكّد غالبية المستوطنين –في الفيلم- أن بقاءهم في المستوطنة يتعلّق بأسباب ماليّة بحتة، أي لعدم قدرتهم على الانتقال للمدن الأخرى كتل أبيب مثلاً. وتوضّح زكي المولودة في حيفا – من جدّ مصري مسلم وجدّة يهودية - أن هدفها كان "إثارة الفكرة وليس إيقاف الاستيطان"، ولا تجد حرجاً من كون فيلمها في صورته النهائية يعارض فكرها اليساري الرافض للاستيطان. كما نفت أن فيلمها يُظهر المستوطنين بصورة أكثر إنسانية أو شيطانية، موضحةً أنه يركّز أكثر على "مشاكل المستوطنين، وحقيقة وصعوبة العيش في مستوطنة وتربية الأبناء فيها" ولم يفتها السخرية من حقيقة كونها –رغم فكرها اليساري- تنتمي لدولة احتلال تمارس "حياتها الطبيعية" ولم تصبح حتى "ناشطة" ضدّ ذلك.بشاعة العيش في مستوطنة... الشعور بالذنب والخوف معاً
زكي التي أنتجت وأخرجت ثلاثة أفلام وثائقية حتى الآن، تتناول جميعها حقيقة العيش في إسرائيل والتعايش بين العرب واليهود، اعترفت بـ"بشاعة العيش داخل المستوطنات" من خلال تجربتها التي اقتصرت على شهرين فقط، قائلةً: " كان من المريع بالنسبة لي أن أكون هناك، كان هناك شعور بالفصل العنصري، في أسوأ طريقة يمكن تخيّلها، عندما كنت أخرج إلى الطريق، كنت خائفة، وكرهت نفسي أيضاً، شعرت بالسوء لكوني يهودية في ذلك المكان". لم تخف أيضاً شعورها بالذنب تجاه الفلسطينيين وهي تعيش على أرضهم المغتصبة المحرّم عليهم دخولها، فقالت " شعرت بالذنب الشديد، كان من الواضح لي أنه لا ينبغي لنا –أي الإسرائيليين- أن نكون هناك، وعندما قمنا بتصوير فلسطينيين عند حاجز طريق في تقوع، كان الأمر مروعاً، فقد شعرنا أنا والمصوّر السينمائي المرافق لي، بالحرج الشديد لرؤيتهم في هذا الموقف، وحتى أكثر من ذلك، لتصويرهم". تلك التجربة خلّفت لها الكثير من الإرباك، فهي تدرك في قرارة نفسها أن "الاحتلال يجب أن ينتهي" لكنها لم تعد واثقة من "إمكانية تعايش الفلسطينيين جنباً إلى جنب مع الإسرائيليين"."الكيبوتز" بين الهاجس الإنساني والعنف الاستيطاني، فيلم إسرائيلي عن مشاعر الذنب التي ترافق بعض الإسرائيليين في المستوطنات يثير ضجة في إسرائيل.
معارضة دولية وتصعيد استيطاني إسرائيلي
يستمر التحدّي الإسرائيلي السافر ببناء المستوطنات، رغم معارضة دولية، وإصدار مجلس الأمن الدولي قراراً في 23 ديسمبر/كانون الأول 2016، يطالب بوقف الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويعتبر النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس الشرقية مخالفاً للقوانين الدولية. فمؤخراً قررت شركة إير بي إن بي Airbnb -موقع أميركي شهير للحجوزات السياحية- حذف المنازل في المستوطنات الإسرائيلية داخل الضفة الغربية المحتلّة من قوائمها، وسط ترحيب فلسطيني وغضب إسرائيلي وصل حدّ مقاضاة الشركة، وأشادت منظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية الدولية بقرار الشركة ووصفته بـ "التطوّر المهم” بعد انتقادها الشركة الأمريكية في وقت سابق لتشجيعها على الاستيطان بالترويج للشقق المفروشة في المستوطنات. كما أعرب الاتحاد الأوربي عن معارضته وبشدّة لـ "سياسة الاستيطان الإسرائيلية" مؤكداً أنها تهدّد "فرص التوصل لسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين" واصفاً إياها بـ "غير الشرعية" والمخالفة للقانون الدولي. وشهد عام 2018 أكبر توسّع استيطاني، إذ بنت إسرائيل -في النصف الأول من العام الحالي 2018 وحده- 1073 وحدة استيطانية على أراض فلسطينية، مقابل 870 وحدة فقط في النصف الأول من عام 2017، كما صادق الكنيست الإسرائيلي على تعديل ما يسمّى بقانون "الحدائق الوطنية"، قبل أيام، للسماح ببناء مزيد من الوحدات الاستيطانية في الحدائق العامة التابعة لبلدة سلوان الملاصقة للمسجد الأقصى، ما يعد أخطر تطوّر استيطاني منذ بداية الاحتلال.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...