يردّ المؤرّخ أحمد زكريا الشلّق في كتابه "فصول من تاريخ قطر السياسي" نشوء إمارة قطر ككيان سياسي مستقل له سيادة على شبه الجزيرة القطرية إلى منتصف القرن التاسع عشر، حين سيطرت قبيلة آل ثاني على بقية القبائل. على إثرها وقّع الشيخ محمد بن ثاني أوّل إتفاقية بريطانية- قطرية بصفته حاكماً لشبه الجزيرة القطرية، اعترفت بريطانيا بموجبها بآل ثاني حكاماً على المنطقة، في العام 1868. تجدر الإشارة إلى أنّ قطر، مثلها مثل بقية الدول الخليجية، خضعت لنفوذ السلطنة العثمانية منذ نهاية القرن السادس عشر حتى نشوب الحرب العالمية الأولى وانحسار الأمبراطورية وانكفائها، ثمّ للنفوذ البريطاني الذي شمل شبه الجزيرة العربية. وكان الشيخ عبدالله آل ثاني وقّع العام 1916، اتفاقية مع بريطانيا تعهّدت بموجبها الأخيرة "حماية الشيخ ورعاياه وأراضيه" واستمرت بنودها سارية المفعول حتى العام 1971 حين حصلت قطر على استقلالها وسيادتها التامّين وتأسست كدولة وأصبحت عضواً في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية.
يحبّ القطريون إطلاق صفة "المشيخة" على دولتهم حتى أنّ صفة "الشيخ" تسبق اسم الحاكم وتُلازمه عوضاً عن "الأمير"، علماً أنّ هذه الصفة تستخدم لدى الحديث عن "أمير الدولة". وسواء كانت قطر مشيخة أم إمارة فهذا لا يغيّر في معادلة نظام الحكم شيئاً. هو مطلق يحصر السلطات في يد الحاكم، الذي يتولّى زمام السلطة التنفيذية رغم وجود منصب رئيس الوزراء. أمّا مجلس الشورى المؤلف من 35 عضواً فيُعَد السلطة التشريعية ويعيّنه أمير البلاد. وكان الأمير السابق حمد بن خليفة آل الثاني قد وعد أكثر من مرّة بالشروع في إجراء انتخابات عامّة لاختيار أعضاء المجلس العام 2011، لكن عملية التنفيذ لم تبصر النور حتى يومنا هذا.
يبلغ عدد سكان قطر حوالي مليوني نسمة، معظمهم من المهاجرين فيما يشكّل المواطنون الأصليّون نسبة 15% من مجمل السكان. وينتظم هؤلاء في قبائل وأسر من أصول عربية وغير عربية استوطنوا في تلك المنطقة منذ عشرات السنين. تحتل هذه الإمارة المرتبة الأولى عالمياً من حيث مستوى الدخل الفردي الذي يفوق المئة ألف دولار للمواطن الفرد. وإذا كان القطريون ينعمون بثراء ملحوظ فهذا لا يعني أن ليس في دولة قطر فقراء، كحال قبيلة "آل مرة". ففي العام 1996 قامت مجموعة من الضباط والأفراد في القوات المسلحة بانقلاب فاشل على الأمير حمد بن خليفة آل ثاني ردّاً على الانقلاب الذي قام به هذا الأخير على والده الشيخ خليفة العام 1995. وبما أنّ جل الانقلابيين ينتمون إلى قبيلة آل مرة، فقد تمّ معاقبة أفراد القبيلة وسُجن الكثيرون منهم.
تعتبر محطة "الجزيرة" التي تأسست العام 1996 الذراع الإعلامية اليمنى لتلك الإمارة. تميّزت بشعارها "الرأي والرأي الآخر" واستضافت الأصوات العربية والإسرائيلية على السواء، وهذا ما أثار بلبلة وجدلاً عالميين حول نيّات الإمارة. وبما أنّ لعبة كرة القدم تعتبر الأكثر انتشاراً وشهرة في العالم، عمدت السياسة القطرية إلى التوسّع في هذا المجال فأطلقت يد محطة "الجزيرة" في "السوق العالمي" حاصلة على الحقوق الحصرية لبث مباريات العديد من الدوريات الأوروبية. إلى ذلك، نقلت حصرياً الحرب على افغانستان مباشرة وبثّت أشرطة الفيديو لأسامة بن لادن. هذه الأمور مجتمعة جعلت اسم قطر معروفاً في أرجاء المعمورة. ثمّ أتى الربيع العربي فكانت "الجزيرة" رأس الحربة في بثّ مجريات الانتفاضات المحلية وأسمعت أصوات الجماهير للمشاهد العالمي، الأمر الذي ساهم في سقوط بعض الأنظمة القديمة. هذا الأمر لم يكن له شبيهاً في الانتفاضات التي عمّت مملكة البحرين.
وإذا كان الإعلام سلاحاً ناجحاً للتعرف إلى صورة قطر عالمياً، فكان للغاز اليد الطولى في تمكين هذه الإمارة من الحصول على مرافق اقتصادية مهمة في العالم. إذ تعوم هذه الدولة على ثالث احتياطي للغاز في العالم الأمر الذي مكّنها من تطوير وتنويع اقتصادها، وجعلها لاعباً أساسياً في المنطقة ناحية السياسة. أنفقت أموالاً طائلة في الجنوب اللبناني بعد حرب تموز 2006، وهو ما أتاح لها دعوة الأطراف اللبنانيين المتنازعين إلى مصالحة عرفت بـ"اتفاق الدوحة" العام 2008. كذلك فعلت مع الفلسطينيين عندما رعت المصالحة بين حركة فتح وحركة حماس، حتى أنها نقلت مكتب هذه الأخيرة من دمشق الى الدوحة عقب اندلاع الأزمة السورية.
لدى تسلّم الأمير السابق حمد بن خليفة آل ثاني زمام الحكم إثر الانقلاب الأبيض على والده، عمل على تغيير سياسة قطر الخارجية. ففيما ارتضى والده إبقاء قطر تحت العباءة السعودية، سعى هو بداية إلى النهوض بقطر راسماً لها علاقات خارجية مختلفة عن بقية الدول الخليجية. فكانت أول دولة خليجية تفتح "مكتب التمثيل التجاري الإسرائيلي" في الدوحة. ولحقت بهذه الخطوة زيارات متبادلة لمسؤولين من الدولتين. قامت قطر، عبر سياستها البراغماتية، بالانفتاح على أعداء إسرائيل أيضاً. إذ ساهمت في إعمار الجنوب بعد العدوان الإسرائيلي لعام 2006، فرفع لها أهالي الجنوب اللبناني، حيث معاقل حزب الله، شعار "شكراً قطر". ثم أقفلت "مكتب التمثيل التجاري الإسرائيلي" في الدوحة عام 2009، احتجاجاً على العدوان الإسرائيلي على غزة. وتبعت هذه الخطوة زيارة أمير قطر السابق لغزة عام 2012، وكان أول زعيم عربي تطأ قدماه تلك المنطقة.
إضافة الى ما سبق، تستضيف قطر إحدى أكبر وأهم القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة، "العديد" الواقعة في الجنوب الغربي من الدوحة والتي تحتوي على ممرّ إقلاع للقاذفات الثقيلة وتضمّ أكثر من 1000 قاذفة ومقاتلة وطائرات استطلاع فضلاً عن عدد من الدبابات ووحدات الدعم العسكري وقرابة 4000 جندي أمريكي.
حتى الأزمة الحالية، يمكن اختصار علاقة قطر بالمحيط الخليجي مستعينين بالقول الشائع "علاقة غرام وانتقام". فالتاريخ الخليجي غني بالحروب والحملات التأديبية التي كانت تشنّها القبائل بعضها على بعض. وتاريخياً، خضعت قطر لحكّام بني سعود وآل خليفة في البحرين في منتصف القرن الثامن عشر. لكن السعوديين لم ينكفئوا عن محاولة "استرداد ملك الآباء والاجداد" (قطر) وبقيت الخصومات قائمة ما بين الدولتين. إلا أن بريطانيا عملت على الحفاظ على التوازنات في المنطقة وحالت دون وقوع المتخاصمين في المحظور.
عاد إخوة الدم في الدول الست وتعاقدوا العام 1981 وأسّسوا "مجلس التعاون لدول الخليج". وقد وصل الحلم بالإخوة الخليجيين إلى التفكير في بناء وحدة خليجية أسوة بتلك الأوروبية. لم يدم الوفاق طويلاً، إذ حرّك "الربيع العربي" التناقضات المخفية فيما بينهم. تُعد قطر داعماً تاريخياً لحركة "الإخوان المسلمين" بينما تهاب المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة هذا التنظيم المحظور في الدولتين. أتى الانقلاب العسكري في مصر، الذي قاده المشير عبد الفتاح السيسي في الثالث من يوليو 2013 ضد حركة "الإخوان المسلمين" ليزيد الأمور سوءاً، وأدت تداعياته لاحقاً إلى اشتعال أزمة دبلوماسية بين قطر وكل من السعودية والإمارات والبحرين. فما كانت من الدول الثلاث إلا أن سحبت سفراءها من الدوحة في شهر مارس الفائت متهمة الأخيرة بالتدخل في شؤون دول الخليج الداخلية.
لا يوجد في قطر معارضة سياسية بما تحمله الكلمة من مضامين كما هو حال البحرين والسعودية والإمارات، وبالتالي بقيت الدوحة بمنأى عن الربيع العربي. إلا أن هذا لا يلغي وجود بعض الأصوات الإصلاحية المعارضة الخافتة والنخبوية.
أبرز تحدٍّ أمام قطر جيوسياسي لوقوعها بين ماردين إقليميين هما ايران والسعودية، لما يملكانه من قوة ديموغرافية وعسكرية واتساع جغرافي. من هذا المنطلق، عمدت قطر إلى إقحام نفسها في الكثير من الأزمات الدولية، مثل مشاركتها في الحرب الليبية والسورية والأزمة المصرية، بهدف تأمين حصانة قوية تمنع جاريها من محاولة وضعها تحت وصايتهما. فضلاً عن ذلك، تستضيف قطر كأس العالم لكرة القدم العام 2022 وتعمل على إيجاد حلول لإشكاليات مناخها الصحراوي حيث تصل درجة الحرارة إلى نحو 55 درجة مئوية. وقد رافق الإعلان عن هذا الحدث الكثير من الإشكاليات وصلت الى حد اتهام قطر بشراء المونديال. وتتالت الاتهامات حد أنّ صحيفة الغاردين The Guardian اتهمت قطر بممارسة "العبودية الحديثة" بحق العمال الأجانب.
تعتبر "رؤية قطر الوطنية 2030"، "خريطة طريق" لاستشراف المستقبل تقوم على ركائز أربع هي: التنمية الاقتصادية والتنمية البشرية والتنمية الاجتماعية والتنمية البيئية. تهدف إلى إيجاد توازن اقتصادي يتجه نحو الانتقال من الاعتماد على النفط الى الاعتماد على اقتصاد المعرفة. تتضمّن الرؤية أيضاً العمل على وضع نظام صحي وآخر تعليمي بمواصفات عالمية إلى برنامج دعم وتمكين النساء في المجتمع، وتوفير فرص علم وعمل متساوية لجميع المواطنين وإنشاء مؤسسات بيئية حديثة وتشجيع التوعية البيئية والانتقال الى الاقتصاد الأخضر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...